تكشف عدم قدرة تنظيم القاعدة على تسمية قائد جديد له حتى الآن، عن وجود أزمة في العثور على خليفة للقائد الراحل، أيمن الظواهري، الذي تم اغتياله نهاية يوليو/تموز الماضي، في مشهد مغاير لما حدث عقب اغتيال القائد المؤسس، أسامة بن لادن في مايو/أيار 2011، فعلى الرغم من أن تنصيب الظواهري حينذاك استغرق ستة أسابيع، إلا أن التنظيم لم يكن يعاني حينها من متلازمة طهران وتعقيداتها كما هو الحال اليوم الذي يتسم فيه المشهد بالتأزم الشديد وصعوبة الخيارات المتاحة وما يعنيه ذلك من تبعات وخيمة على التنظيم.
فاليوم هناك اثنان من أبرز المرشحين للقيادة، وهما سيف العدل (محمد صلاح الدين زيدان) وعبد الرحمن المغربي (محمد آباتي) وكلاهما معروف أنه يقيم في طهران، وهذه نقطة ضعف مشتركة بين الرجلين، فطالما بقيا هناك فمن الصعب جدا أن يقبل التنظيم بتولي أحدهما منصب القيادة، بالنظر إلى تقييد حريتهما في طهران، واعتبارهما في حكم الأسرى الذين لا يملكون أمر أنفسهم فما بالنا بأمر تنظيم دولي! وهناك أدبيات فقهية معروفة تنص على عدم صحة إمارة الأسير، وفقا لما أورده الإمام الماوردي في كتابه “الأحكام السلطانية” وغيره من الفقهاء، ولهذا السبب يحاول أنصار سيف العدل اختبار رد فعل عناصر القاعدة من خلال نشر الأكاذيب التي تزعم أنه ترك إيران أو حتى أنه لم يكن هناك! مثلما جاء في العدد الثاني من نشرة “صوت القارة السمراء”، التي تصدرها جماعة “أنصار المسلمين في بلاد السودان” المعروفة اختصارًا بـ”أنصارو”، والمحسوبة على القاعدة، حيث تم نفي وجود من أسموهم بـ”أمراء الجهاد” وعلى رأسهم المصري سيف العدل في طهران، وكذلك إنكار أي تعاون لهم مع الاستخبارات الإيرانية، وهو ما يتناقض مع الواقع بشكل فج، في محاولة مفضوحة لغسل سمعة سيف العدل الذي بات يُنظر إليه بشكل مضطرد على أنه عميل إيراني بشكل أو بآخر.
ونظرًا لصعوبة هذه المهمة التجميلية فإن خيارًا آخر بات مطروحًا الآن رغم صعوبته أيضًا وهو اختيار شخص ضعيف ليعمل كقائد دمية للقاعدة ويخضع للسيطرة الكاملة لسيف العدل، الذي يُنظر إليه – وبشكل أقل للمغربي أيضًا- على أنهم اختبأوا في إيران لحماية أرواحهم ولا يتمتعون بالشجاعة المطلوبة لقيادة منظمة كالقاعدة يقوم عملها في الأساس على الجرأة والمخاطرة وشن الهجمات الإرهابية المروعة، مما يعسر مهمة إقناع أتباع القاعدة بأن هذين القائدين امتلكا هذه الصفات بشكل مفاجئ بعد موت الظواهري، فالعديد من أعضاء وأنصار القاعدة لا يُكنون الولاء لهما ولا الثقة.
هل ستتبع القاعدة خطى جماعة الإخوان؟
وبما أن القاعدة تجد صعوبة في الاتفاق على قائد جديد يحظى بالإجماع، فإن السؤال المطروح هنا هو: هل يلجأ التنظيم إلى الأساليب المخادعة التي اشتهر بها تنظيم الإخوان ويعلن عن مرشح “استبن“؟ مما يذكرنا بما ورد في المسلسل الرمضاني المصري “الاختيار“ الذي أظهر بشكل ساخر محاولات الإخوان لترشيح محمد مرسي لرئاسة الجمهورية، كمرشح احتياطي لخيرت الشاطر، القائد الفعلي الذي يدير الأمور من وراء الكواليس بعد استبعاده من الترشح للرئاسة عام 2012، وحينها تمت السخرية من رئاسة مرسي ووصفه معارضوه بـ”الاستبن” وهو الإطار الاحتياطي في السيارة الذي يوضع عادة في خلفيتها في حال إصابة أي إطار آخر، وكان الشاطر هو الذي يدير الأمور خلال وجود مرسي في الصورة.
لكن إذا حاول سيف العدل أن يلعب هذه اللعبة، فإن أعضاء القاعدة من المحتمل ألا يقبلوا بهذا التلاعب وسيتهمون العناصر المصرية في التنظيم بتقليد الإخوان وتسليم قياد جماعتهم إلى طهران، ومع ذلك يبقى هذا السيناريو على الطاولة إن لم ينجح سيف العدل في تسنم القيادة.
ماذا عن كبار القادة الآخرين في التنظيم؟
يأتي هذا الجدل بينما كبار القادة الآخرين في القاعدة منغمسون في مشاريعهم ومشاكلهم الخاصة، فلديهم ببساطة أشياء أكثر أهمية للقيام بها بدلاً من الاستماع إلى أولئك المصابين بمتلازمة طهران؛ ففي اليمن يبدو فرع تنظيم القاعدة في شبه الجزيرة العربية بزعامة خالد باطرفي (المعروف أيضاً باسم أبو مقداد الكندي)، مشغولاً بأزمة علاقته مع الحوثيين؛ فالتنظيم أقر ضمنيًا أكثر من مرة بتأثر عناصره بالكشف عن علاقاته وتفاهماته السرية مع ميليشيات الحوثي اليمنية التابعة لإيران، التي وفرت لعناصر القاعدة سبل التخفي والهرب، فضلاً عن علاقة التخادم بين الطرفين في الميدان حيث يقاتلان معًا عدوا واحداً وهو معسكر التحالف العربي وحكومة الشرعية، ويعاني التنظيم في ظل قيادة باطرفي من التراجع والتشتت ما بين التحديات المحلية المُلحة ومسألة قتال العدو البعيد والجهاد المُعولم.
أما تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي، الذي يتزعمه الجزائري مبارك يزيد (أبو عبيدة العنابي)، فلديه مشروعه الطموح لاستعادة هيبة التنظيم في شمال أفريقيا والساحل والصحراء، ويسعى للاستفادة من التواجد التركي في هذه المنطقة وما يمثله من تهديد لنفوذ باريس، إذ اتخذ الفرنسيون من محاربة القاعدة مبرراً للتدخل الأمني في دول الساحل والصحراء، وعلى أيديهم قضى القيادي الجزائري عبد المالك دروكدال (أبو مصعب عبد الودود) نحبه، قبل أن يخلفه العنابي في قيادة التنظيم عام 2020، ويبدو التنظيم في تلك المرحلة أيضاً منغمسًا تماماً في التحديات ذات الطابع المحلي في هذه الساحة مترامية الأطراف.
ما وضع قيادات القاعدة خارج إيران من قيادة القاعدة بعد الظواهري؟ الصحافية نهاد الجريري تحلل الموقف
أما إياد أغ غالي، زعيم جماعة “نصرة الإسلام والمسلمين” في مالي، فيبدو شخصاً براجماتيًا بشكل لافت ويتصرف بالفعل كسياسي محترف وقائد قبلي في الشمال المالي، ويوصف بأنه من الصعب معرفة ما إذا كان سلوكه السياسي مرتبط بالجهاد أو بدوافعه الشخصيّة، وهو صاحب مشروع سياسي محلي شبيه بحركة طالبان التي لا يخفي ولعه بنموذجها، وقد اشتهر بمهارته في جلب التمويلات المالية وبكونه مهندس صفقات تبادل الرهائن لكنه لا يبدو كمنافس قوي على تبوء مقعد القيادة العامة لتنظيم القاعدة في ظل وجود أسماء أقوى منه داخل التنظيم.
وتجدر الإشارة إلى أن القاعدة أضحت تواجه تحديًا جديدًا بعد غياب الظواهري؛ يتمثل في أن أفغانستان باتت خيارا غير مرغوب بشكل متزايد بالنظر إلى الكُلفة التي تتحملها حركة طالبان من جراء ذلك في وقت تريد فيه التركيز على بناء دولتها والحصول على اعتراف دولي، وهي أهداف لا يمكن تحصيلها في حال وفرت المأوى للقاعدة، ولذلك تجد نفسها في معرض المفاضلة بين نجاح مشروعها وبين خيار استضافتها لقيادات القاعدة، وتريد الحركة التخلص من هذا العبء بأي طريقة فلم تعد ترغب في دفع المزيد من التضحيات في سبيلهم، فالأرض الأفغانية تبدو على وشك أن تلفظهم بعد أن كانوا يرون فيها الملجأ المفضل لهم بعد إخفاقاتهم في الشرق الأوسط.
أما تنظيم القاعدة في شبه القارة الهندية، فعلى الرغم من تأسيسه منذ ما يقرب من 8 سنوات، فإنه لا يزال أحدث فرع رسمي تابع للتنظيم الدولي، رغم تداخل نطاق عمله الجغرافي مع معاقل القيادة المركزية للتنظيم، وأشارت مصادر عديدة إلى مقتل زعيمه أسامة محمود، مؤخراً، مع أنه تولى القيادة منذ فترة ليست بالطويلة خلفاً لعاصم عمر الذي قُتل في 23 أيلول/ سبتمبر 2019، وأيًا يكن الأمر فإن هذا الفرع لم يتمكن خلال عمره القصير من إثبات قدراته في نطاق عمله في شبه القارة الهندية، فضلاً عن التطلع إلى الوصول للقيادة المركزية للقاعدة، بل هو يعاني أصلا من التعثر والنكبات التي غلت أياديه عن متابعة أهدافه المحلية الأساسية.
هل يمكن أن تكون شرق أفريقيا خياراً؟
وهنا يبقى احتمال أن تذهب قيادة التنظيم إلى شرق أفريقيا، لكن بالنظر إلى الخبرات السابقة فإنها لا تبشر بنجاح هذه التجربة، لأن القاعدة تحكمها عملياً نزعات عنصرية لا تكشف عنها أدبيات التنظيم، فمن غير المتوقع قبول تعيين أحمد الدرعي (أحمد عمر أبو عبيدة)، زعيم حركة الشباب في الصومال كأمير عام للقاعدة، وهنا علينا أن نتذكر أن من أسباب ظهور تنظيم داعش في العراق وتمرده على قيادة القاعدة أن الأعضاء العراقيين لم يستسيغوا قبول العمل تحت إمرة قائد مصري، وهو أبو حمزة المهاجر (أبو أيوب المصري) الذي تولى قيادة فرع “تنظيم القاعدة في بلاد الرافدين” بعد مقتل أبي مصعب الزرقاوي عام 2006، ولم يستطع الاستمرار في الصدارة فتنحى لأبي عمر البغدادي، ونصبه أميراً لما سُمي حينها بـ”دولة العراق الإسلامية” لكونه عراقي، وأصبح هو وزير الحرب في التنظيم الجديد، ومن السهل اليوم تخيل تصدع تنظيم القاعدة بالانشقاقات إذا تقرر طرح اسم زعيم أفريقي له.
بالإضافة إلى سبب آخر وهو ضعف الثقة بين العرب الذين يهيمنون على تنظيم القاعدة وبين قيادة حركة الشباب التي تُتهم باختلاق أرقام مبالغ فيها عن عدد الهجمات التي تشنها وعدد الغربيين الذين تقتلهم خلال تلك الهجمات.
الباحث في شؤون الجماعات الجهادية أحمد سلطان يوضح لماذا أفريقيا أصبحت خيارا خطراً أمام سيف العدل
ويبدو أن الأمر مسألة وقت فقط قبل أن تدرك قيادات الفرع الصومالي أن زملاءهم العرب يتسامحون معهم ربما للحصول على المال من حركتهم التي تعيش أوضاعًا مالية قوية وتولد فائضاً كبيراً في ميزانيتها، تدعم به التنظيم الأم، كما أن هناك تقارير كشفت أن قادة حركة الشباب يذكرون بمرارة الأيام التي كان سيف العدل يديرهم فيها ويتحكم بكل صغيرة وكبيرة بما ضيق الخناق علي تحركاتهم، وليس هناك ما يشي بأنه غيّر من طريقته اليوم، وسوف تدرك الحركة بوضوح أنه كلما طال صمتهم بشأن متلازمة طهران، زاد الثمن الذي سيدفعونه جَرّاء ذلك.
الاختيار بين “الدُمية” و “دُمية الدُمية”
وفي النهاية فحتى لو أعلنت القاعدة زعيمًا جديدًا لها غير سيف العدل، فسيتعين عليه إثبات أنه زعيم حقيقي وليس مجرد أحد المصابين بمتلازمة طهران الذين يدورون في الفلك الإيراني، مع العلم بأن هذا السيناريو لا يبدو مرجحاً أبداً.
والسيناريو الأكثر ترجيحًا هنا هو أن سيف العدل بصفته دمية لدى الإيرانيين، سيتعين عليه أن يجد “الأمير الاستبن” المخلص له ليحكم التنظيم من خلاله، ويسعى لكسب الوقت والحصول على فرصة لتأكيد سلطته كقائد فعلي للتنظيم، وسواء استطاع سيف العدل تولي القيادة بنفسه، أو عبر قائد دُمية، فإن صاحب الدمى القابع في طهران يبقى هو نفسه صاحب الكلمة النافذة في القاعدة.