الاتفاق النووي.. إيران تواصل المماطلة
رغم تصاعد حدة الأزمة الاقتصادية في إيران، نتيجة عدم نجاح الإجراءات التي اتخذتها الحكومات المتعاقبة في تحقيق نتائج فعّالة، إلا أن إيران ما زالت تماطل في الوصول إلى صفقة نووية جديدة يمكن من خلالها رفع العقوبات الأمريكية، لا سيما على الصادرات النفطية، وتعزيز قدرتها على الوصول إلى أموالها المجمدة في الخارج، بشكل يمكن أن يساعدها في احتواء تداعيات تلك الأزمة. وقد دفعت هذه المماطلة الإيرانية مسؤول السياسة الخارجية بالاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل، في 20 سبتمبر الجاري (2022)، إلى تأكيد أنه لا يتوقع أي تقدم في المفاوضات النووية قريباً.
تحليلات عديدة طرحت تفسيرات مختلفة لهذه المماطلة الإيرانية، منها أن إيران تريد الحصول على أعلى مستوى من العوائد التي يمكن أن توفرها أي صفقة نووية محتملة مع القوى الدولية، عبر ممارسة ضغوط أقوى من خلال مواصلة نشاطها النووي، بالتوازي مع تفاقم أزمة الطاقة التي تواجه الدول الغربية، في ظل استمرار الحرب الروسية-الأوكرانية، ومنها أن إيران تخشى من أن تصل إلى صفقة جديدة ثم تنسحب منها الولايات المتحدة الأمريكية مجدداً.
سياسة التحايل
لكن التفسير الأهم ربما يكمن في أن أي صفقة نووية محتملة سوف تكشف “كذب” إيران، والتفافها على التزاماتها الدولية. وهنا، فإن المسألة تتعلق في المقام الأول بالكشف عن الأنشطة النووية التي لم تعلن عنها إيران للوكالة الدولية للطاقة الذرية. فالكشف عن هذه الأنشطة كفيل بتأكيد أن إيران لا تستطيع الانخراط في التزامات دولية صارمة، وأنها قد تحاول، في حالة الوصول إلى صفقة نووية جديدة، الالتفاف مجدداً على تعهداتها فيها، بكل ما يمكن أن يفرضه ذلك من مخاطر على الانتشار النووي في المنطقة.
ومن دون شك، فإن هذه المشكلة تتفاقم مع الوضع في الاعتبار أن إيران وصلت إلى مستوى غير مسبوق في مراكمة المواد النووية. فحسب التقرير الأخير الذي أصدرته الوكالة الدولية للطاقة الذرية، في 7 سبتمبر الجاري، فإن مخزون إيران من اليورانيوم المخصب بنسبة 3.67% وصل إلى 3940.9 كيلو جرام، أي بزيادة 19 ضعفاً عن الحد المسموح به في الاتفاق النووي الحالي (202.8 كيلو جرام). كما رفعت إيران كمية اليورانيوم المخصب بنسبة 20% إلى 331.9 كيلو جرام، وباتت تمتلك 55.6 كيلو جرام من اليورانيوم المخصب بنسبة 60%، الذي يساهم في اقترابها من نسبة 90% اللازمة لصنع قنبلة نووية.
وصول إيران إلى هذا المستوى دفع الوكالة الدولية للطاقة الذرية إلى تأكيد أنها “لا تستطيع ضمان أن البرنامج النووي الإيراني سلمي حصراً”، وذلك قبل اجتماع مجلس محافظي الوكالة في الفترة من 12 إلى 16 سبتمبر الجاري، والذي شهد، في اليوم قبل الأخير، صدور بيان رباعي (تبنته الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وفرنسا وألمانيا) وقدمته الأخيرة، يطالب إيران بالتعاون مع الوكالة وتنفيذ التزاماتها القانونية. هذا البيان أعقب قرار الإدانة الذي صدر عن مجلس المحافظين في اجتماعه، في 8 يونيو الماضي، وانتقد أيضاً عدم تعاون إيران مع الوكالة في هذا الملف تحديداً.
مبررات واهية
إيران من جانبها تدعي أنها تربط التعاون مع الوكالة فيما يتعلق بالإجابة على الأسئلة التي طرحتها الأخيرة بشأن العثور على جزيئات يورانيوم ذات المنشأ البشري في ثلاثة مواقع هي توركوز آباد وماريوان وورامين، بالوصول إلى اتفاق نووي جديد، بل وتضغط من أجل إغلاق ملف التحقيقات في هذه الأنشطة قبل الإعلان عن هذا الاتفاق، لكى لا يبقى ورقة ضغط في يد الدول الغربية تستطيع استخدامها لابتزاز إيران في مرحلة لاحقة.
لكن السبب الأهم الذي يدفع إيران إلى عدم التجاوب مع الوكالة في هذا الملف يتمثل في أن الكشف عن هذه الأنشطة سوف يؤكد أن إيران كانت تخطط لمواصلة تفعيل جانب عسكري خفي من برنامجها النووي، بعيداً عن أعين مفتشي الوكالة.
ومن دون شك، فإن تأكيد ذلك سوف يضع إيران أمام اختبار صعب على الساحة الدولية. إذ أنه سوف يؤدي إلى انهيار المفاوضات النووية الحالية، وإعادة أزمة برنامجها النووي إلى مربعها الأول من جديد. وهنا، فإن المسألة لن تنحصر في استمرار العقوبات الأمريكية، بل سوف تمتد، وربما يكون ذلك هو الأهم، إلى إعادة تفعيل العقوبات الدولية التي تم تعليقها بموجب الاتفاق النووي الذي تم التوصل إليه في 14 يوليو 2015، ثم قرار مجلس الأمن رقم 2231 الذي صدر بعد ذلك بأسبوع واحد. وسوف تتجه الدول الغربية في هذه الحالة إلى تفعيل ما يسمى بـ”آلية الزناد”Sunset Clause ، التي ينص عليها الاتفاق الحالي.
كما أن الكشف عن هذا الجانب الخفي سوف يمنح الفرصة للأطراف المُعارِضة للمفاوضات الحالية والاتفاق النووي المحتمل من أجل الترويج إلى خطورة الوصول إلى اتفاق جديد لا يتضمن قيوداً قوية على الأنشطة النووية الإيرانية، خاصة فيما يتعلق بمستوى التخصيب المسموح به وأجهزة الطرد المركزي التي يمكن استخدامها وفقاً له، فضلاً عن المنشآت التي سوف تجرى فيها عمليات التخصيب.
ورغم أن إسرائيل هي الطرف الرئيسي الذي يقود هذه الجبهة، وقد نجحت الحملة الدولية التي تشنها ضد المفاوضات النووية الحالية في دفع الدول الغربية لتبني سياسة أكثر تشدداً في المفاوضات، إلا أن هناك أطرافاً أخرى تبذل جهوداً حثيثة في هذا الصدد. إذ يوجه نواب الحزب الجمهوري وبعض أقطاب الحزب الديمقراطي انتقادات قوية للسياسة الحالية التي تتبناها إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن تجاه هذا الملف، ويمارسون ضغوطاً من أجل تغيير النهج الحالي الذي يمكن أن يؤدي، في رؤيتهم، إلى الوصول لاتفاق جديد لا يستوعب شروط ومصالح الولايات المتحدة الأمريكية.
وتستند هذه الجبهة إلى مبرر مهم يتمثل في أن سياسة “الكذب” التي تتبعها إيران ليست جديدة. فقد ثبت أكثر من مرة أن إيران تحاول الالتفاف على الوكالة الدولية للطاقة الذرية والتحايل على عمليات التفتيش التي تقوم بها. وتمثل منشأة “فوردو” الحالة الأبرز في هذا السياق. فهذه المنشأة- التي تعد الأخطر على مستوى المنشآت النووية الإيرانية خاصة أنه تم إنشاءها تحت الأرض وتقوم إيران بتخصيب اليورانيوم بنسبة 20% داخلها على خلاف ما يقضي الاتفاق النووي الحالي- لم تعلن عنها إيران في سبتمبر 2009، إلا بعد أن تأكدت أن أجهزة الاستخبارات الغربية كشفتها.
واللافت في هذا السياق، هو أن هناك أطرافاً داخل إيران نفسها ربما تتجه إلى استغلال هذه الفرصة من أجل ممارسة ضغوط للانسحاب من المفاوضات الحالية ورفض الوصول إلى صفقة جديدة، باعتبار أنها لا تتضمن عوائد توازي التنازلات التي سوف تقدمها إيران. بل إن هذه الأطراف باتت تدعو علانية إلى الانسحاب من معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية، ووقف التعاون مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية. وتقود صحيفة “كيهان” (الدنيا)- التي يرأس تحريرها المحافظ المتشدد حسين شريعتمداري والقريبة من مكتب المرشد الأعلى للجمهورية علي خامنئي- هذه الحملة المناوئة للمفاوضات الحالية والاتفاق المحتمل الذي قد تنتهي إليه.
وتكمن المفارقة في أن إيران حاولت خلال المرحلة الماضية الاستناد إلى الفتوى التي أصدرها المرشد خامنئي عام 2003 وحرّم فيها إنتاج وتخزين أسلحة الدمار الشامل، لإضفاء وجاهة خاصة على مزاعمها حول “سلمية برنامجها النووي”. إلا أن عدم تعاون إيران بشكل كافٍ مع الوكالة، وحرصها المستمر على الالتفاف على مطالبها، وإخفاءها بعض جوانب أنشطتها النووية، كل ذلك يضفي مزيداً من الشكوك على تلك المزاعم، ويفسر إلى حد كبير عدم اهتمام القوى الدولية بهذه الفتوى التي لا يمكن أن تمثل قيداً على السياسة الإيرانية، في حالة ما إذا اتخذت إيران قراراً سياسياً بإنتاج القنبلة النووية.
عواقب وخيمة
على ضوء ذلك، يمكن القول إن إيران باتت أمام اختبار صعب. فإما أنها ستوافق على الإجابة بشكل كامل على أسئلة الوكالة الدولية للطاقة الذرية بخصوص المواقع غير المعلن عنها، على نحو سوف يكشف التفافها على التزاماتها الدولية وعدم قدرتها على تنفيذ تعهداتها. وإما أنها ستواصل سياستها المتشددة الحالية القائمة على اتهام الوكالة بـ”تسييس” الخلاف، وممارسة ضغوط لإغلاق هذا الملف، وبالتالي ستجازف بفشل المفاوضات وتحمل المسؤولية عن ذلك، وتُحوِّل العقوبات المفروضة عليها من أمريكية إلى دولية.
المهم في ذلك كله أن الأزمة الاقتصادية- وهى المتغير الأهم الذي دفع إيران إلى قبول إجراء مفاوضات جديدة بداية من 6 أبريل 2021- سوف تبقى قائمة، بل ستتفاقم حدتها تدريجياً. إذ أن إيران لم تتخلص بعد من تبعات انتشار فيروس “كوفيد 19” حتى الآن. فضلاً عن أنها تأثرت إلى حد كبير بتداعيات الحرب الروسية-الأوكرانية.
فرغم أن مركز الإحصاء الإيراني يشير إلى أن معدل التضخم السنوي وصل إلى 41.5% في أغسطس الماضي، فإن التقديرات الدولية ترجح أنه تجاوز 52%. كما يتراوح معدل البطالة بين 10 و12%. ويتوازى ذلك كله مع استمرار الاحتجاجات في بعض المحافظات والمدن الإيرانية بسبب تردي الأوضاع المعيشية، لا سيما فيما يتعلق بانهيار البنية التحتية وانقطاع الكهرباء ونقص مياه الشرب، بسبب السياسة الحكومية القائمة على تحويل مجرى الأنهار من أقاليم مثل الأحواز إلى محافظات أخرى.
ومثّلت أزمة وفاة الشابة العشرينية مهسا أميني، بعد احتجازها من قبل شرطة “الإرشاد” لاتهامها بعدم ارتداء الحجاب بشكل مناسب، في 16 سبتمبر الجاري، ذروة الاستياء الشعبي من السياسات التي يتبعها النظام والحكومة. إذ انتقلت الاحتجاجات تدريجياً من سنندج وسقز في كردستان إلى العاصمة طهران، وتطورت من انتقاد الانتهاكات التي ترتكبها قوات الأمن والباسيج، إلى التنديد بالسياسات العامة للنظام. ولم يكن تجدد ظهور شعار “مرگ بر ديكتاتور” أو “الموت للديكتاتور”، في إشارة إلى المرشد علي خامنئي، إلا دليلاً على حجم الأزمة التي وصلت إليها إيران في المرحلة الحالية.