مهسا أميني.. احتجاجات تؤرق النظام الإيراني
قاربت الاحتجاجات في إيران على تجاوز أسبوعها الثاني، دون أن تتراجع أو تنجح السلطات الإيرانية في احتواءها بشكل كامل. وبصرف النظر عن المآلات التي يمكن أن تتجه إليها هذه الاحتجاجات، فإن المُحفِّزات التي أدت إلى اندلاعها، فضلاً عن انتشارها وانتقالها بسرعة بين المحافظات الإيرانية، يوحي بأن هذه الاحتجاجات تحديداً تطرح دلالات سياسية في المقام الأول تتعلق بالعلاقة بين النظام الحاكم والشارع الإيراني، وتأثير سياسات النظام، على المستويين الداخلي والخارجي، على تلك العلاقة، وتزايد حدة الاستياء لدى الفئة المجتمعية الأكبر وهى فئة الشباب بسبب الأزمات الاقتصادية والاجتماعية التي تواجهها إيران بفعل تلك السياسات.
مهسا أميني..العنوان الأبرز
اندلعت الاحتجاجات الحالية في الأساس بعد الإعلان عن وفاة الفتاة العشرينية مهسا أميني، في 16 سبتمبر الجاري، عقب احتجازها من جانب شرطة الأخلاق، قبل ذلك بثلاثة أيام. لكن يمكن القول إن وفاة أميني كانت العنوان الأبرز فقط للأزمة الحالية، أو ما يمكن أن يطلق عليه “قمة جبل الجليد” التي تظهر على سطح الماء في حين أن القسم الأكبر من هذا الجبل يختفي في أعماقه.
فقد أطلقت وفاة أميني شرارة الانتفاضية الحالية، أو بمعنى أدق أعادت تفعيل المُحفِّزات الحقيقية للاحتجاجات في إيران. وربما يمكن من هنا تفسير أسباب التطور السريع للاحتجاجات سواء على مستوى الشعارات أو على مستوى النطاق الجغرافي.
فعلى مستوى الشعارات، كان لافتاً أن شعارات جديدة بدأت تظهر في هذه الاحتجاجات، حيث لم يعد المحتجون يكتفون فقط بشعار “مرگ بر دیكتاتور” أو “الموت للديكتاتور” وهو الشعار الذي يستهدف المرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية علي خامنئي، بل وصلوا إلى حد التهديد بحمل السلاح، وهو منعطف خطير يشير إلى حجم “الشرخ” الذي أصاب العلاقة بين النظام والشارع الإيراني. فقد ظهر شعار “وای به روزی که مسلح شویم” أو “حذار من يوم نتسلح فيه”.
ويعني ذلك أن قطاعاً من المحتجين بدأ يفكر في عدم الاقتصار في تنظيم الاحتجاجات على مجرد رفع شعارات مناهضة للنظام، أو تحديد أماكن وأوقات تنظيم مظاهرات عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وإنما بات يفكر في ما هو أبعد وأخطر من ذلك، وهو ما يمثل إحدى النتائج الأساسية التي يفرضها استمرار الاحتجاجات دون معالجة أسبابها الحقيقية، كما تنتجها الثقة المبالغ فيها لدى النظام، الذي يتجاهل- عن عمد-هذه الأسباب الحقيقية، على نحو قد يؤدي إلى عواقب وخيمة في النهاية.
وعلى مستوى النطاق الجغرافي، انتقلت الاحتجاجات سريعاً من سنندج بكردستان- التي تتحدر منها مهسا أميني- إلى العاصمة طهران، ووصلت إلى الجامعات الكبرى فيها. بل إن قسماً من تجار “البازار” شارك فيها. ويمثل ذلك مؤشراً خطيراً بالنسبة للنظام. فمعنى أن طلبة الجامعات ونخبة التجار انخرطت في المظاهرات، أن الطبقة الوسطى بدأت تترجم استياءها من السياسات والإجراءات التي يتخذها النظام في شكل خطوات إجرائية على الأرض، بعد أن كانت تعبر عن استياءها هذا عبر وسائل أخرى، على غرار العزوف عن المشاركة في الاستحقاقات الانتخابية المختلفة، وكان آخرها انتخابات رئاسة الجمهورية التي أجريت في 18 يونيو من العام الماضي.
والأكثر خطورة من ذلك، أن مشاركة نخبة التجار في الاحتجاجات تعني أن هناك أزمة حقيقية تفرض نفسها على العلاقة بين تلك النخبة والنظام، وهى علاقة كانت تتسم بالقوة منذ اندلاع الثورة في عام 1979، حيث قام التحالف أساساً بين النخبة الدينية والبرجوازية الاقتصادية ممثلة في البازار، الذي عبّر عن اعتراضه على سياسات نظام الشاه بإغلاق أبوابه، وتحالف بعد ذلك مع النخبة الدينية التي استطاعت تمرير مشروعها السياسي وتهميش كل القوى السياسية الأخرى التي شاركت في الثورة على الشاه عبر هذا التحالف.
إلى جانب ذلك، فإن الاحتجاجات الحالية ألقت الضوء على جانب مهم في التوازنات المجتمعية التي تشهدها إيران، ويتعلق بتزايد نسبة الشباب في المجتمع، بكل ما يعنيه ذلك من تباينات في اهتمامات وأولويات النظام والشارع. إذ تشير التقديرات إلى أن نسبة من يبلغون أقل من أربعين عاماً في إيران تصل إلى نحو 50% من المجتمع. ويعني ذلك أن نصف المجتمع الإيراني- أكثر من 43 مليون نسمة- ولد بعد اندلاع الثورة، ولم يعاصر المرحلة التي سيطر فيها الخطاب الأيديولوجي الذي تبناه مؤسس النظام الحالي روح الله الخميني، وبدأ يتطلع إلى الانفتاح على الخارج، والتعلم من الثقافات الأخرى، بما فيها الثقافة الغربية.
ورغم أن النظام يبدو مدركاً لهذه الحقيقة، إلا أنه تعامل معها بمنطق أنتج في النهاية تداعيات عكسية، تسببت في اندلاع الاحتجاجات الحالية. إذ اعتبر أن الأسلوب الأمثل في التعامل مع ظاهرة “الانفتاح على الخارج” يتمثل في فرض قيود اجتماعية جديدة، لا سيما إزاء المرأة. ومن هنا، وقّع الرئيس إبراهيم رئيسي، في 15 أغسطس الماضي- بعد عام من توليه منصبه كرئيس للجمهورية- على قانون “الحجاب والعفة”، وأعلنت السلطات أنها سوف تتبع تقنية التعرف على الوجه لرصد النساء اللاتي لا يرتدين الحجاب بشكل مناسب، وهو السبب المعلن وراء احتجاز مهسا أميني، التي تعرضت للاعتداء من جانب عناصر شرطة الأخلاق، على نحو تسبب في وفاتها.
النظام الإيراني لا يغير أدواته
كان لافتاً في الاحتجاجات الحالية أن النظام تعامل معها بنفس المنطق الذي سبق أن تبناه في التعامل مع الاحتجاجات السابقة، وكان آخرها الاحتجاجات التي اندلعت في عامي 2017 و2019، لأسباب اقتصادية في المقام الأول.
إذ تبنى النظام من البداية رؤية متشددة تقوم على أن الاحتجاجات لا تهدف إلى الاعتراض على اتساع نطاق وتفاقم تداعيات بعض الأزمات الداخلية أو الإجراءات التي تتخذها الحكومات المتعاقبة في التعامل معها، وإنما تهدف في المقام الأول إلى تهديد استقراره في الحكم. ومن هنا، دائماً ما يربط النظام بين الاحتجاجات والقوى الخارجية التي يروج إلى أنها تسعى إلى إسقاطه وإحلال نظام آخر محله يتبع سياسة خارجية مغايرة لتلك التي يتبناها في الوقت الحالي.
وعلى ضوء ذلك، تعمد النظام القيام بحملة قمعية شديدة ضد المحتجين، اتبع خلالها آليات عديدة، حيث حرص من البداية على فرض قيود شديدة على استخدام الإنترنت، ولا سيما وسائل التواصل الاجتماعي التي تمثل الآلية الرئيسية لدى المحتجين لتنظيم التظاهرات وإيصال صوتهم إلى الخارج. كما اعتقل عدداً كبيراً من المحتجين وصل، حسب بعض التقارير، إلى نحو 1200 مواطن، وتسببت الآلة القمعية في مقتل ما لا يقل عن 75 شخصاً.
وتوازى مع ذلك، اتجاه النظام إلى محاولة تقسيم الشارع الإيراني، أو بمعنى أدق تجاوز “الشرخ” الذي أصاب العلاقة مع هذا الشارع، عبر الادعاء بأنه بدوره له شارع مؤيد له، وأنه في مقابل الشارع “المحتج” هناك “الشارع الموالي”.
وبالفعل، نظمت مظاهرات مؤيدة للنظام، ولقياداته العليا ممثلة في المرشد علي خامنئي، ومنددة في الوقت نفسه بالاحتجاجات المعارضة لسياساته، والدعم الذي حظيت به من جانب بعض القوى الدولية، على غرار الولايات المتحدة الأمريكية، التي أعلنت تقديم دعم لوجيستي خاص بتعزيز قدرة الإيرانيين على الوصول إلى شبكة الإنترنت والالتفاف على القيود التي تفرضها السلطات الإيرانية. وبدا من الخطاب العام الذي تبنته قوى الأمن والمؤسسة العسكرية أنها تتحرك على الأرض لمواجهة “عملاء للخارج ينفذون أجندات أجنبية” وليس “مواطنين” لديهم شكاوى من أوضاع اجتماعية ومعيشية صعبة تسببت فيها السياسات العامة للنظام والإجراءات الاقتصادية للحكومة.
من هنا، وحتى في حالة ما إذا نجح النظام في احتواء تلك الاحتجاجات، على غرار الاحتجاجات السابقة، فإن ذلك لا يعني أن الأزمة التي يواجهها انتهت. بل بالعكس، يمكن القول إن الأزمة ما زالت قائمة بقوة، وهي بانتظار لحظة أخرى لتنطلق من جديد، لا سيما أن مُحفِّزاتها باقية رغم السياسة القمعية التي يتبعها النظام. فالأزمة الاقتصادية على أشدها لدرجة وصل معها مستوى التضخم إلى نحو 50% وبلغ معدل البطالة ما يقرب من 12%، والمفاوضات النووية التي تجري في فيينا تعثرت في اللحظات الأخيرة بسبب غياب الثقة واستمرار الخلافات بين إيران والولايات المتحدة الأمريكية، ما يعني استمرار العقوبات الاقتصادية الأمريكية إلى أجل غير مسمى، بكل ما يفرضه ذلك من استمرار إيران في تصدير أقل من مليون برميل نفط يومياً (نحو 860 ألف برميل بالتحايل على العقوبات)، وعدم قدرتها على تسلم أموالها المجمدة في الخارج، ومنعها من الانخراط في منظومة التعاملات المصرفية على مستوى العالم.
ومن دون شك، فإن ذلك يتوازى مع إصرار النظام على اتباع نفس سياساته إزاء ما يحدث في منطقة الشرق الأوسط من أزمات خاصة في العراق وسوريا ولبنان واليمن. ويعني ذلك في النهاية أن التأثير الأهم للاحتجاجات الحالية- التي فجرتها وفاة مهسا أميني- يتمثل في أنها راكمت مزيداً من أسباب التأزم في العلاقة بين النظام والشارع الإيراني.