في ظل جمود سياسي يهدد بالفراغ الرئاسي انتهت جلسة مجلس النواب اللبناني يوم الخميس الماضي لانتخاب رئيس جديد يخلف الرئيس ميشيل عون بالإرجاء في غياب التوافق المطلوب على مرشح مقبول من الجميع. وهذا الإرجاء الذي كان نتيجة عدم حصول أي مرشح على أغلبية الثلثين المطلوبة بحسب الدستور، كان أولى الدلائل على أن هذا البلد يسير نحو فترة عصيبة قاسية من الاحتقان السياسي.
وفق الدستور اللبناني يجب انتخاب الرئيس الجديد قبل انتهاء ولاية الرئيس الذي في السلطة في الحادي و الثلاثين من أكتوبر لكن عدم وجود حكومة تحظى بثقة مجلس النواب سيجعل الأمر في غاية التعقيد إذا ما انتهت ولاية الرئيس ميشيل عون من غير انتخاب رئيس جديد.
معضلة انتخابات الرئاسة اللبنانية أنه لا يوجد حتى الآن ملامح لاي مرشح قد يحظى بأغلبية ثلثي أصوات المجلس أو حتى أصوات النصف زائد واحد. وفي هذه السنة يرتبط انتخاب الرئيس بحسب ما قال رئيس البرلمان بإقرار إصلاحات تمثل شروطا مسبقة لبرنامج الإنقاذ الاقتصادي المقدم من صندوق النقد الدولي. لكن المجلس النيابي اللبناني في العادة لا يجتمع للتصويت على انتخاب رئيس قبل أن يكون هناك توافق على مرشح أو اثنين على الأقل. وحتى الآن لم يوجد أي مرشح يحظى باي توافق أو إجماع مع أن ميشيل معوض قد يحظى بهذا ولذلك يبدو أن انتظار حصول هذا التوافق سيكون طويلا وهذا يخلق الخشية بأن يدخل لبنان نفق الفراغ الرئاسي.
ولان الدستور اللبناني ينص على أنه في حال فراغ سدة الرئاسة تنتقل صلاحيات الرئيس إلى مجلس الوزراء مجتمعا فالأمر بات بحاجة إلى تفسير دستوري لتبرير انتقال صلاحيات الرئيس إلى حكومة تصريف أعمال.
وجهات النظر والمواقف السياسية للقادة اللبنانيين يصعب ضبطها وتنسيقها وتوحيدها. في الماضي كان انتخاب الرئيس يتم بالتوافق على مرشح من الذين تنطبق عليهم الشروط أما هذه المرة فالأمر أكثر صعوبة ويرتبط بتعقيدات الحياة السياسية اللبنانية نفسها. فانتخابات البرلمان اللبناني التي جرت في مايو الماضي لم تفرز كتلا كبيرة أو قوية يمكنها التأثير على مجريات التصويت. ومن هنا يمكن لأي كتلة أن تعطل انتخاب الرئيس.
في انتخابات الرئاسة الماضية التي تعطلت ثلاثين شهرا قبل موافقة الكتل السياسية على انتخاب الرئيس ميشيل عون كان حزب الله مصرا على معادلة إما انتخاب مرشحه ميشيل عون أو لا أحد. وفي هذه المرة وبوجود ثلاثة مرشحين محتملين أقوياء وكل منهم مدعوم بشكل أو باخر من احدى القوى الإقليمية والمحلية يبدو انتخاب رئيس جديد من هؤلاء الثلاثة صعبا للغاية.
يقدم الدكتور سمير جعجع مرشح حزب القوات اللبنانية نفسه على أنه ممثل جميع المسيحيين اللبنانيين ويصر على ضرورة التمسك بالدستور ويكرر هذا الموقف كثيرا. وتفسير هذا التكرار يلمح إلى أن جعجع يرفض أي تعديل على الدستور قد يتيح الفرصة لقائد الجيش الجنرال جوزيف عون (وهو ليس من أقرباء الرئيس بل مجرد تشابه أسماء) للوصول إلى الرئاسة. وربما كانت خشية جعجع من تعديل الدستور لتنصيب قائد الجيش رئيسا متأتية من أن ذلك قد يصبح عرفا يجعل من كل قائد للجيش رئيسا للجمهورية وفي هذا ابتعاد كبير عن الديمقراطية التي يعتز بها لبنان.
من الصعب للغاية أن يحظى سمير جعجع بأي توافق برلماني بسبب الفيتو الذي يضعه عله حزب الله. ولأنه لاعب سياسي ماهر أظهر جعجع كثيرا من المرونة في السجال الدائر حول انتخابات الرئاسة عندما قال أنه مستعد للانسحاب من السباق الرئاسي في حال وجود مرشح آخر يلبي مواصفات حزبه.
المرشح الآخر الذي يمثل التيار الوطني الحر الذي كان ولا يزال حليفا مع حزب الله لكنه لم يعد يحظى بتأييد الحزب للترشح هو جبران باسيل رئيس التيار وصهر الرئيس ميشيل عون. لا شك أن الرئيس عون يحاول بذل كل جهد ممكن لإقناع حزب الله بتأييد ترشح صهره للرئاسة لكن لا يبدو أن ذلك سينجح ولا توجد أي مؤشرات على ذلك.
الحالة الوحيدة التي يمكن فيها لمرشح التيار أن ينجح بأن يكون مرشحا توافقيا في حال عدم اعتراض حزب الله وحلفائه عليه هو عودة التيار الوطني الحر إلى تحالفاته القديمة مع القوات اللبنانية والكتائب واستقطاب المستقلين عندها قد يقبل رئيس حزب القوات بمرشح التيار وعندها سيقول أنه يلبي المواصفات التي ترضي حزبه. هذا سيناريو ممكن إلا إذا اصر حزب الله وحلفاؤه على تعطيل الجلسات والدخول في الفراغ الرئاسي.
المرشح الثالث الذي سيكون مرشح حزب الله وحلفائه والمدعوم من سوريا وإيران هو زعيم تيار المردة سليمان فرنجية وهو حفيد الرئيس الأسبق سليمان فرنجية الذي كان معروفا بتحالفه مع سوريا. المخاوف هنا ستكون في حال إصرار حزب الله على معادلته القديمة بانتخاب مرشحه أو لا انتخابات أبدا. ويمكن للحزب أن يعطل جلسات مجلس النواب مثلما فعل في الماضي إلا إذا كان لإيران رأي آخر.
القوى الإقليمية المعنية بسلامة لبنان واستقراره تواصل اللقاءات والتشاورات للوصول إلى توافق من نوع ما يسهل انتخاب الرئيس الجديد بما يوفر في الوقت نفسه التوافق والتفاهم لتشكيل حكومة تنهض بإعادة إعمار وتنمية لبنان وإخراجه من حال التدهور الذي يعاني منه.
ولان إيران لها يد طويلة في لبنان عبر حزب الله فسيكون لها كلمة حاسمة في انتخاب الرئيس واذا ما تم التوافق اللبناني على مرشح غير مرشح حزب الله سواء كان جبران باسيل رئيس التيار الوطني الحر أو غيره من المستقلين أو حتى قائد الجيش بعد تعديل دستوري فإن هذا لن يكون إلا باتفاق أميركي إيراني وتشترك فيه فرنسا والمملكة العربية السعودية. وبينما يسعى المحيط العربي الى مساعدة لبنان وحمايته من تبعات الارتماء في أحضان إيران فإنه يسعى أيضا إلى تحجيم نفوذ حزب الله لكنه لن يرضى بالفراغ الرئاسي.
وقد ظهرت بوادر هذا الاتفاق في البيان الفرنسي الأمريكي السعودي الذي طالب بإجراء انتخابات الرئاسة اللبنانية في موعدها الدستوري وتشكيل حكومة قادرة على تنفيذ الإصلاحات. واذا لم يكن هناك هذا التوافق الإقليمي على مرشح مناسب فقد يتحول الخيار إلى قائد الجيش من خلال تعديل دستوري يشار فيه إلى أنه تعديل يستعمل لمرة واحدة فقط حتى لا يصبح تقليدا دائما ويقتل الحياة الديمقراطية.
في جلسة البرلمان يوم الخميس الماضي لم يظهر أي اسم من الأسماء التقليدية والسبب أن القوى السياسية اللبنانية ليست وحدها هي الفاعلة في مسألة انتخاب الرئيس لأن منصب الرئيس اللبناني لا يخص اللبنانيين وحدهم ومنذ انتهاء الحرب الأهلية واتفاق الطائف بات انتخاب الرئيس اللبناني يحتاج إلى مشاركة إقليمية ودولية حتى تتم بسلام.