المدن الهشة
يعود أحد أسباب تأثر العراق بآثار أزمة المناخ أكثر من غيره في المنطقة، إلى تخلف نظام السيطرة، التوزيع والاستغلال المستدام للموارد الطبيعية، من بينها الموارد المائية بشكل أساسي. تقوم البنى التحتية القديمة داخل المدن بتجميع مياه الأمطار والفيضانات من خلال شبكاتها التقليدية وتصريفها إلى المجاري، أما في خارج المدن فتتمثل وظيفة هذه البنى التحتية القديمة، الى اليوم، بمنع أو حبس مياه الفيضانات في مكانها أو تغيير مجراها من أجل التخلص منها. وهي بمجملها لا تعد حلولاً مستدامة وضامنة لمستقبل البلاد.
كشفت موجات أمطار اجتاحت العراق في عامي 2018/2019 وتسببت بفيضانات كبيرة، عن عدم استجابة البنى التحتية التقليدية للمتغيرات المناخية، وذلك بسبب قدم السدود وأنظمة المعالجة والخزانات وقنوات المياه التقليدية من جهة، وتعرية التربة جراء سنوات من الجفاف من جهة أخرى. وقد الحقت تلك السيول الجارفة أضرار كبيرة بالمدن بالدرجة الأولى وذلك بسبب تقادم وتهالك بناها التحية المذكورة والكثافة السكانية بطبيعة الحال.
وقد أظهرت تلك الفيضانات ان الحياة الحضرية لا تتجسد في مستوى الثراء الذي تتمتع به شرائح اجتماعية معينة، بل في حق الوصول إلى التعليم، الخدمات الصحية والمياه الصالحة للشرب، خاصة بعد إغلاق عدد من المؤسسات التعليمية وارباك المؤسسات الخدمية جراء السيول والأضرار الناتجة عنها. من هنا بدت هشاشة المدن العراقية أمام مظاهر أزمة المناخ المتقلبة والعنيفة ليس من ناحية الجفاف فقط، بل أمام الفياضانات أيضاً.
ونظراً للكثافة السكانية في المدن، بخاصة في ظل توقعات ارتفاع عدد سكانها الى 70٪ بحلول 2050، سيتضاعف الطلب على المياه والبنى التحتية والخدمية. وأي غياب في الإدارة المستدامة والفَوتَرة والتقنين والعدالة الاجتماعية للموارد الطبيعية سيخلق أزمات اقتصادية وصراعات اجتماعية من شأنها إحداث أشكال كثيرة من الفوضى والتصارع من أجل الحصول على المياه.
ولم يحتج الجفاف مرور وقت طويل على تلك السيول المذكورة كي يطغي على ثلاث فصول متتالية ويضع العراق أمام عطش وجفاف غير مسبوقين في تاريخه، اذ تشكلت جرائهما جزر صغيرة داخل نهر دجلة في بغداد لم تكن ظاهرة في السابق. ويلامس ارتفاع درجات الحرارة بموازاة ذلك نصف الغيلان في غالبية المدن، مما حوّل غالبية المدن العراقية الى جزر حرارية هشة وضعيفة أمام السيول وموجات الحر بدرجة واحدة.
نهاية السدود القديمة
تقتضي التحديات البيئية-المناخية في العراق سياسات جديدة لمواجهة شح المياه، وذلك من خلال إدارة كفؤة ومرنة تعتمد على قواعد بيانات متكاملة حول مصادر المياه من المنبع إلى المصب، ناهيك بإدخال التكنولوجيا الحديثة في إدارة المياه وتحديث البنى التحتية القديمة المعروفة بالبنى التحتية الرمادية والتي لا تفصل بين الصرف الصحفي ومياه الأمطار، ويتطلب ذلك الدرجة الأولى اللجوء الى الحلول القائمة على الطبيعة.
ونظراً الى أن الحلول القائمة على الطبيعة هي إحدى الوسائل الفعالة لمواجهة ندرة المياه في المستقبل، بإمكانها إعادة تأهيل النظام الطبيعي أو خلق عمليات طبيعية في الأنظمة الأيكولوجية المعدلة أو اصطناعية في تطبيقات متنوعة في جميع مجالات الحياة والسياسات المائية. وذلك من خلال استغلال المستدام للموارد الطبيعية وتسخيرها، لدعم النمو الاقتصادي طويل الأمد ليشمل الصحة العامة وسبل العيش وإصلاح النظام الطبيعي، فضلاً عن التنوع الأحيائي وحمايته عبر منح الصلاحيات للحكومات المحلية، تفعيل البحث العلمي في الجامعات والمراكز البحثية بغية إيجاد الحلول وفقاً لطبيعة العراق والمنطقة، وإشراك القطاع الخاص في إدارة البنى التحتية للمياه.
ويضاف الى ذلك إشراك المجتمعات المحلية في إيجاد الحلول، ذلك انها تعي المتغيرات الحاصلة بحكم معرفتها التاريخية ببيئاتها الطبيعية ويمكن الاستعانة بخبراتها المحلية في طرح المبادرات ووضع الحلول. أما النقطة الأخيرة في هذا السياق فهو مساهمة المؤسسات الدولية في تحديث البنى التحية الرمادية وإعادة تأهيل الأنظمة الطبيعية وتمكين الأطراف المحلية في تأسيس إدارة متكاملة ومرنة تدمج الجيل القديم من البنى التحتية الرمادية بجيل جديد مستمد من الطبيعة.
الحياة بجوار القذرة
نحن نهدر أضعاف كميات المياه التي نحصل عليها يومياً، ويُعد التخلي عن المياه المستخدمة على اعتبار انها قذرة، الهدر الأكبر ليس في العراق فحسب، بل في جميع البلدان العربية والمنطقة. خلال عملي الصحفي في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا ومتابعة قصص وتحقيقات زميلاتي وزملائي البيئية، تبين لي بأن صورة المياه المستخدمة أو “العادمة” تحتل المساحة الأوسع في المدن العربية. يمكن القول بناءً على تلك التحقيقات بأننا نعيش بجوار هذه المياه المستخدمة في المدن وأطرافها ونشم رائحتها، نتعرض للأمراض وهجوم أنواع من الحشرات بسببها، انما لا زلنا متمسكين بوعينا السائد حول قذارتها ولم نجتز ما يمكن اعتباره حدود تابو القذارة والنظافة.
مع كل ذلك، نحن على يقين بأن المياه هي التي ترسم مستقبل البلدان، وليست المياه “القذرة” مستثناة من هذا الدور الكبير إذا كسرنا صورة نمطية اكتسبناها حول المياه في ثقافاتنا المتوارثة. أما إذا بقيت الأحوال كما هي الآن، فتبقى مدننا مثقلة بالتلوث، الأمراض، البطالة، الضيق والعنف واللا استقرار ولا يفيدها التاريخ وعراقة الماضي بشيء.
ويمكن الإشادة في هذا السياق بمحطة تنقية الصرف الصحي- الخربة السمراء في الأردن حيث تقوم بإعادة تدوير المياه الثقيلة لسكان العاصمة عَمّان والمدن المحيطة بها وتحويلها بعد التنقية إلى بحيرة الملك بن طلال، وصار الآن بإمكان الأسماك والأنواع المائية الأخرى أن تحيا بشكل طبيعي في النهر الذي ينبع من المحطة بعد التصفية. وتعمل المحطة بنسبة 90 في المئة، على الطاقة المتجددة وتخدم نحو 70 في المئة من سكان الأردن ويتم استخدام مياهها لري الأراضي الزراعية وادامة البحيرة.
تالياً، لم تعد المياه الثقيلة مياه عادمة، بل انها مصدر من مصادر المياه البديلة، ويمكن الاستثمار فيها لأغراض الصناعة والري والتشجير، الأمر الذي يجنب المزيد من انبعاث غاز الميثان في المدن وتلوث الأحواض المائية الصالحة للشرب، وجودة الهواء بطبيعة الحال. انما يتطلب ذلك سياسات وقوانين بيئية جديدة من شأنها احداث تحول من التركيز بشكل رئيسي على أشكال الاستجابات القديمة إلى اتباع نهج متوازن طويل الأمد. وسيبني هذا النهج قدرة موجهة نحو تعزيز النمو في وجه الصدمات والأزمات التي طال أمدها، وينصبّ تركيزه على تنوع إدارة الموارد المائية وتقديم الخدمات على نحو يتسم بالاستدامة والكفاءة والإنصاف.
ويعتمد هذا البرنامج على خمس استراتيجيات أساسية وهي: المدينة النابضة، قرب الخدمات من المواطنين وفرص الوصول إليها، كفاءة استخدام الموارد والمسؤولية البيئية، إفساح المجال أمام عمل الطبيعة، وأخيراً المشاركة والتشاور. من دون مثل هذه الإدارة المرنة للمياه التي تعد العامل الأهم في نشوء الأمم والحضارات وسقوطها، لا مكان للسرديات الرومانسية على خارطة المدن المستقبلية.
الى جانب كل ذلك، تستوجب الإدارة المائية المتنوعة إنشاءات جديدة على نطاق المباني، والتنمية، والطرق، وما إلى ذلك. والمثال على ذاك هو قدرة المباني الحديثة على جمع مياه الأمطار ومعالجتها وتخزينها. ولا بد أن تفكر المدن بفرض قوانين استخدام الأماكن العامة للحصاد وتخزين مياه الأمطار وتعديل المباني الحالية وسبل الاستثمار فيها مائياً.
إن الإدارة المتكاملة للمياه والتأقلم مع المتغيرات المناخية بغية التقليل من مخاطرها، تستلزم التوجه نحو سياسة لامركزية وإعطاء الدور للمحافظات وإشراك المجتمعات المحلية، ذلك أن مشكلات المياه والزراعة تتسم بسمات محلية، ويعد التشاور مع المجتمعات المحلية ومشاركتها في البحث عن إيجاد الحلول، عنصراً حيوياً ولا تقل أهميته عن أهمية العمل مع أي حكومة محلية موجودة على الأرض. ويتم ذلك من خلال تمكين المجتمعات، تزامناً مع تطوير المؤسسات من أجل إيصال الموارد على نحو مسؤول وشفاف.
ويساهم كل ذلك في تحسين نوعية المياه من خلال الحد من التلوث ومعالجة النفايات والمواد الكيمياوية والبلاستيك وتقليل تسرّبها إلى الأنهار والبحيرات والسدود. بموازاة ذلك، لا يمكن كتابة النجاح لأي سياسة مائية من دون الاستثمار في الممارسات المبتكرة، البحوث والتكنولوجيا الحديثة، ذاك أن الوسائل القديمة في إدارة المياه لم تعد قادرة على مواجهة التحديات البيئية.
اختصاراً، يرتبط مستقبل العراق بسياسات مائية جديدة تكفل الغذاء واحتياجات السكان، الأمر الذي يقتضي تحولاً بنيوياً ليس في إدارة المياه وقوننتها وفقاً للمتغيرات البيئية والسكانية والنمو فحسب، بل في إدارة الأمن والدفاع والبنى الخدمية، بما فيها إدارة المياه الثقيلة.