منذ إنشاء نظام ولاية الفقيه في طهران عام 1979، لم تتوقف محاولات الملالي لعسكرة الطائفة الشيعية في باكستان التي تعد ثاني أكبر دولة إسلامية في العالم من حيث عدد السكان، وتضم أكبر مجتمع شيعي خارج إيران بنسبة متفاوتة في التقدير تتأرجح ما بين 5٪ و20٪ من إجمالي سكان الدولة ذات الأغلبية السنية، وتعد كذلك الدولة المسلمة الوحيدة التي تمتلك سلاحًا نوويًا، فضلاً عن إمكانياتها الاقتصادية والعسكرية الكبيرة.
وأنشأت طهران عشرات المنظمات الشيعية في باكستان، ومعاهد وجامعات ووسائل إعلام مؤثرة، مما ساعدها في تكوين لوبي مذهبي قوي له مكانة وازنة في إسلام أباد والمناطق الحضرية الكبرى، وبالإضافة إلى ذلك استهدفت السيطرة على شيعة المناطق الطرفية والهامشية وأيقظت فيهم روح الانتماء المذهبي، وعملت على تنظيم صفوفهم لخدمة مشروعها الإقليمي.
وعلى مدار عقود لم تفلح طهران في إنشاء ميليشيات فاعلة في جارتها الشرقية على غرار ما فعلته مع الدول العربية التي تقع على غربها، رغم حيازتها لأدوات نفوذ عديدة وامتلاكها حدودا مشتركة معها تصل إلى ألف كيلو متر تقريبًا، بسبب قوة المؤسسة العسكرية الباكستانية التي وقفت لهذه المخططات بالمرصاد خاصة مع تقارب طهران مع نيودلهي العدو اللدود لإسلام أباد، فكان الحل هو اللجوء إلى المناطق الرخوة على أطراف الدولة حيث تضعف القبضة الحكومية بشكل كبير.
ونشط الحرس الثوري الإيراني في تجنيد الأتباع في مناطق القبائل على الحدود الغربية مع أفغانستان، التي تتسم بطبيعتها الجبلية وتقع على مقربة من منطقة تورا بورا الأفغانية الشهيرة بوعورتها، ومثلت مدينة باراتشينار بمقاطعة كورام منطلقاً مثالياً لهذه التحركات، فهي تقع قرب طرف لسان ممتد ناحية أفغانستان قريب من عاصمتها كابل، وتنعم بحكم شبه ذاتي، وتعد معقلا للأقلية الشيعية من عرقية البشتون التي تنتشر على جانبي الحدود[1].
وبسبب الطبيعة القبلية والجغرافية للمنطقة فقد تمتعت بحرية نسبية وظلت عصية على محاولات الإخضاع التي خاضتها الجيوش البريطانية في السابق، وحتى عندما انضمت إلى باكستان عام 1947، ظلت تُحكم وفق تفاهمات بين القبائل المحلية والحكومة المركزية، ولم تخضع لإسلام أباد بشكل مباشر ولا تشملها ولاية المحاكم الباكستانية بل تحكمها الأعراف القبلية.
إمارة باراتشينار
شهدت الأراضي الباكستانية عام 1979 مظاهرات شيعية لدعم الثورة الإيرانية، وفي نفس العام تم تأسيس جماعة “نفاذ فقه الجعفري”، برئاسة القيادي الشيعي “جعفر حسين”، وعندما توفي في أغسطس/آب 1983، نشب صراع على قيادة الجماعة بين مجموعة باراتشينار بقيادة عارف الحسيني، تلميذ المرشد الإيراني، روح الله الخميني، ومجموعة مدينة جهلم في إقليم بنجاب، بقيادة حامد علي شاه الموسوي، وفي فبراير/شباط 1984، أقر الخميني جبهة باراتشينار، في خطوة فـُسرت برغبة طهران في توطيد نفوذها في هذه البقعة التي تتمتع بالحرية النسبيَّة، وفي عام 1987 اغتيل الحسيني في عملية وجهت أصابع الاتهام فيها إلى خليفته في مقعد القيادة “ساجد نقوي”، الذي شهدت فترته موجة من الاغتيالات داخل الطائفة لرموز رافضة للتدخلات الإيرانية، وتفجير مزارات شيعية تم توجيه أصابع الاتهام فيها إلى السنة، مما فجر عدة اضطرابات طائفية.
وغير نقوي اسم الحركة إلى “تحريك جعفرية”، وفي عام 1993، ظهرت ميليشيا “سباه محمد” كجناح عسكري للتنظيم، ونُسبت إليها مئات الهجمات العنيفة مثل تفجير مساجد أهل السنة، واغتيال علمائهم ورموزهم، كما عصفت الخلافات الداخلية بالميليشيا وتورطت في مواجهات ضد أجهزة الأمن حتى أدرجتها الحكومة على لوائح الإرهاب في أغسطس/آب 2001، وفي مطلع العام التالي، قررت الحكومة حلها، فظهرت بدائل لها على غرار جيش المختار، وجيش المهدي، إلى أن تم حظر هذه الميليشيات في ديسمبر/ كانون الأول 2015 بسبب أنشطتهم الإرهابيَّة.
وقد كان لتجربة “سباه محمد” نتائج مرعبة فقد تسببت في تسييس الطائفة الشيعية وجعلها عُرضة للاستهداف وأكسبتها عداوة المحيط السني، وظهرت جماعات مسلحة مناهضة للشيعة مثل عسكر جنجوي التي شنت هجمات واسعة على باراتشينار وغيرها، لكن أجواء الشحن الطائفي تلك خدمت أجندة طهران لأن شعور الطائفة بالاستهداف وكونهم أصبحوا عرضة لهجمات هذه الجماعات المسلحة يدفع بهم باتجاه إيران بصفتها الدولة الأم لهم وحامية حمى المذهب وأتباعه، وساهمت دوافع الانتقام في تسهيل جهود التجنيد التي يبذلها الحرس الثوري الإيراني.
وبمرور الوقت ومع تصاعد العنف الطائفي في مناطق القبائل، أضحى النصف الشمالي من مقاطعة كورام الحدودية تحت سيطرة الشيعة والنصف الجنوبي تحت هيمنة المسلحين السنة، وبلغت المواجهات ذروتها عام 2007 عندما تم تهجير العوائل السنية من باراتشينار، فكان الرد بقطع الطرق التي تربط المدينة بباقي أنحاء البلاد، وتحدثت تقارير إعلامية عن وقوع هجمات على حافلات تقل ركاب شيعة على الطريق وإعدامهم، ومع ذلك استغلت الجهات التابعة للحرس الثوري في باراتشينار، العمليات العسكرية الباكستانية ضد حركة طالبان عام 2010، وعقدوا تفاهمات مع مسلحين مرتبطين بطالبان لمنحهم طريقًا آمنًا إلى إقليمي خوست وباكتيا في أفغانستان، مقابل عقد هدنة معهم.
زينبيون
ومع اشتعال الاحتجاجات في سوريا عام 2011، واستعانة النظام لاحقاً بالدعم العسكري الإيراني، بدأت قوات الحرس الثوري الإيراني في تشكيل لواء من الباكستانيين الشيعة وعلى الأخص من بارتيشنار وما جاورها من مناطق القبائل، تحت مسمى لواء “زينبيون” نسبة إلى السيدة زينب بن الإمام علي بن أبي طالب التي يُنسب إليها ضريح في دمشق، وبذريعة الحج إلى هذا الضريح يسافر هؤلاء المقاتلون بشكل دوري إلى سوريا ثم يعودون إلى بلدهم لقضاء الإجازات.
وظل إسماعيل قآني، مسؤولاً لسنوات عن هذا الملف قبل أن يتولى مطلع 2020 قيادة فيلق القدس، الذراع الخارجي للحرس الثوري الإيراني، وقد عمد إلى تجنيد عمال مقيمين في إيران ودول الخليج ينحدرون منطقة القبائل، بدلاً من تجنيدهم مباشرة من باكستان، تحاشيًا لرقابة مخابراتها، ولذا فإنه بخلاف باقي الميليشيات التابعة لإيران في سوريا، يُحاط زينبيون بهالة من السرية والتعتيم، وقد أدرجت وزارة الخزانة بالولايات المتحدة، زينبيون على قائمة العقوبات الأمريكية عام 2019.
ورغم غياب أرقام دقيقة حول عدد أفراده فإنه يُقدر بالآلاف، إلا أنه لا يبدو أن الهدف الرئيسي من تأسيس اللواء يتعلق بسوريا التي لا تعدو كونها ساحة تدريب وإعداد لمهام أخرى في بلادهم الأصلية، وهو ما عبر عنه صراحة المدعو عباس موسوي، أحد قياديي اللواء، فقال إن الهدف الرئيسي لهم في باكستان هو تخليصها من “الإرهابيين الوهابيين المجرمين وطالبان”، بينما زعم قيادي آخر يدعى مظفر علي، أنهم ينخرطون في الحرب السورية لقتال تكفيريي وزيرستان (تقع في منطقة القبائل الباكستانية).
وقد شنت جماعات معادية للشيعة هجمات انتقامية مروعة رداً على مشاركة زينبيون في الأزمة السورية، وأعلنت أن هدف الهجمات الثأر لدماء الضحايا السوريين من السنة، وأرسلت تهديدات للعائلات الشيعية لمنعهم من إرسال أبنائهم إلى دمشق، أما الحكومة فقد قررت عام 2018 إنهاء الوضعية الخاصة لمنطقة القبائل وضمتها إلى إقليم خيبر بختونخوا لتخضع لسلطتها بشكل مباشر، بهدف ضبط الأوضاع في هذا الشريط الحدودي ووأد الاضطرابات الأمنية به.
واعتقلت إسلام أباد مئات من عناصر اللواء بعد عودتهم إلى ديارهم بشكل غير قانوني بعد تراجع حدة القتال في سوريا، مع تزايد الخشية من ممارستهم أنشطة إرهابية في باكستان والتورط في هجمات ضد السنة، وأجرى جهاز الاستخبارات الباكستاني محادثات مع أمين المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني، علي شمخاني، حول تحديد مصير المحاربين العائدين، في محاولة لتحييد خطرهم قبل استفحاله، إذ تتصاعد المخاوف من تحولهم إلى ورقة ضغط مباشرة على إسلام أباد للتأثير على قرارها السياسي، على غرار ما حدث عام 2015 حين أدت جهود طهران في استخدام أوراق الضغط المختلفة إلى منع الجيش الباكستاني من المشاركة مع المملكة العربية السعودية في حملة “عاصفة الحزم” في اليمن لقتال ميليشيات الحوثي الموالية لطهران.
سيناريو التدخل لقمع الاحتجاجات الإيرانية
واليوم في خضم أحداث الاحتجاج الشعبي ضد النظام الإيراني وعجز قوات الأمن عن إخمادها، وشيوع حالة من التململ والتذمر والخلافات داخل الأجهزة الأمنية الإيرانية التي يرفض قطاع منها قمع المحتجين، وتكرار الشكوى من عدم كفاية الأعداد الحالية للقوات في قمع مظاهرات شعب غاضب في جميع أنحاء البلاد، فإن هذه الحالة باتت تستدعي الاستعانة بالميليشيات التي طالما أنفق النظام الإيراني عليها واقتطع من قوت الإيرانيين لدعمها.
قد يبدو سيناريو استدعاء الزينبيين لقمع الشعب الإيراني وارداً جداً بالنظر إلى تكرار الاستعانة بميليشيات من الحشد الشعبي لوأد انتفاضات في غرب إيران خلال الفترة الماضية، وتحدثت تقارير عديدة عن لجوء النظام الإيراني للاستعانة مجدداً بهم خلال الاحتجاجات الحالية، وكذلك بحزب الله اللبناني، بشكل غير معلن بالطبع.
وقد تم غسل أدمغة هذه الميليشيات وإقناعهم بتقديم أرواحهم فداء للمشروع الإيراني التوسعي وقدموا عدداً كبيراً من القتلى والمصابين خلال المعارك مع فصائل المعارضة السورية، فإن كانوا ضحوا بدمائهم في سبيل الدفاع عن نظام الأسد العلماني لكونه حليف لطهران، فما بالنا بتضحياتهم للدفاع عن نظام إيران نفسها.
هل يتحول الزينبيون لرضويين؟!
وإن تم إقناعهم بأن الحرب في سوريا مقدسة بحجة الدفاع عن المرقد الزينبي، وأطلقوا عليهم مسمى الزينبيون لهذا الغرض، فإن قبر أحد الأئمة الاثنا عشر المقدسين لدى الشيعة الاثنا عشرية، وهو الإمام علي بن موسى الرضا، موجود في مدينة مشهد في إيران، بل سميت المدينة بهذا الاسم تكريماً لوجود مشهده بها، ولا مانع لدى الزينبيين أن يتحولوا لرضويين وينصروا الولي الفقيه مرتين.
وفي هذه الحالة ستجد الآلة الدعائية الإيرانية ما تملأ به آذان هؤلاء عن وجود تهديد مباشر للمرقد الرضوي، كما سبق وتم تصوير الحرب في سوريا على أنها حرب بين طائفتين إحداهما تريد مهاجمة المرقد الزينبي والأخرى تريد حمايته، وبغض النظر عن التبريرات الأيديولوجية المتكلفة فإن العامل المادي سيكون حاضرًا وبقوة لتجنيد العاطلين عن العمل منذ عودتهم من الساحة السورية.
ويمكن تسفير المقاتلين من باكستان إلى إيران تحت مسمى السياحة الدينية أو ما شابه للتهرب من قيود الأمن الباكستاني، ولدى دخولهم إلى إيران ينضم هؤلاء المرتزقة إلى قادتهم من فيلق القدس التابع للحرس الثوري، ويستأنفون نشاطاتهم الإجرامية وسط شعب لا تربطهم به وشائج القربى وبالتالي يكونون أبعد ما يمكن عن احتمال التمرد والانشقاق فهذه ليست بلادهم والضحايا المستهدفون ليسوا من مواطنيهم.
[1] يتوزع الشيعة في باكستان على عرقيات متعددة ومناطق مختلفة