شريان تمويل الخزينة العامة.. البصرة من أبرز المحافظات العراقية المتضررة من الحروب
- في بداية سبتمبر الماضي دخلت محافظة البصرة في مرحلة جديدة من مراحل الصراع
- للفصائل والجماعات المسلحة مكاتب اقتصادية وشركات تجارية
تُعتبر محافظة البصرة عاصمة النفط العراقي والشريان الرئيسي لتمويل الخزينة العامة للدولة العراقية، نتيجة لوجود الحقول الغنية بالنفط التي تصل إلى 15 حقلاً نفطياً، حيث يُقدر الاحتياطي النفطي في المحافظة بأكثر من 93 مليار برميل بإنتاج يصل إلى 73% من كامل إنتاج النفط العراقي، إضافة إلى وجود الموانئ التجارية البحرية والمكانة الجغرافية المميزة باعتبارها المنفذ الأساسي الذي يطل على العالم، بالإضافة إلى تمتع المحافظة بالقطاعات الاستثمارية في جوانب الطاقة والزراعة والثروة الحيوانية والبحرية والسياحة وغيرها من المجالات .
كان من المفترض أن ينعكس هذه المميزات والثروات بصورة إيجابية على واقع محافظة البصرة ويساهم في تحسين الواقع المعيشي لأبناء المحافظة، إلا أن استشراء الفساد والصراع السياسي والمالي على خيرات المحافظة عرقلت تطور البصرة أو تحولها إلى محافظة نموذجية داخل العراق، حيث يعاني البصرة حالياً من العديد من الأزمات مثل البطالة وغياب الخدمات وارتفاع نسبة الأمية وانتشار المواد المخدرة بين الشباب وغياب البُنى التحتية اللازمة والمناسبة، بالإضافة إلى إنتشار الكثير من الفصائل والجماعات المسلحة التي تتصارع على ثروات المحافظة وتتصادم عسكرياً عند تفاقم الخلافات.
كانت محافظة البصرة من أبرز المحافظات العراقية المتضررة من الحروب والصراعات التي مرت بالعراق، بداية من حرب الخليج الأولى والثانية، مروراً بالتدخل الأمريكي وإسقاط النظام العراقي السابق عام 2003، كما شهدت المحافظة صداماً عسكرياً بين الجماعات المسلحة والقوات البريطانية، إضافة إلى حدوث معارك بين الحكومة العراقية والفصائل والجماعات العراقية المسلحة التي حاولت فرض سطوتها ونفوذها على المحافظة، مع صدامات عسكرية مستمرة بين العشائر المسلحة والتي تستغل ضعف الدولة والمؤسسات الأمنية للاحتفاظ بسلاحها على حساب أمن واستقرار البصرة.
وفي بداية سبتمبر الماضي دخلت محافظة البصرة في مرحلة جديدة من مراحل الصراع والصدامات العسكرية، عندما اشتعلت المواجهات المسلحة بين عناصر من “سرايا السلام” الذراع العسكري للتيار الصدري و “عصائب أهل الحق” والذي أدى لسقوط عدة قتلى وجرحى من الطرفين، وسط مخاوف المواطنين من تصاعد هذه المواجهات والتي تُبرز بوضوح ضعف الأجهزة الأمنية وغياب الدولة التي من المفترض أن تسارع في عملية حصر السلاح بيد الدولة وإبعاد المحافظة عن الصدامات المسلحة والصراعات السياسية بين الأطراف الفاعلة.
استنزاف الاقتصاد لتمويل نشاط الفصائل المسلحة
لم يعد ملف سيطرة الفصائل والجماعات المسلحة على مصادر إيرادات محافظة البصرة خفياً على أحد، قبل سنوات تحدث مدير هيئة المنافذ الحدودية في العراق بوضوح عن سيطرة الجماعات المسلحة التي تنتمي لجهات سياسية على الكثير من المجالات والجوانب الاقتصادية وتهديد الشركات الأجنبية والموظفين في المنافذ الحدودية في البصرة عند إكتشاف حالات الفساد، حيث تُعتبر المنافذ الحدودية الشريان الرئيسي الذي يُغذي الميليشيات والجماعات المسلحة في محافظة البصرة عن طريق إدخال وتهريب المواد والمنتجات والسلع دون الخضوع لإجراءات الفحص والجودة.
كما صرح قائد شرطة محافظة البصرة في عام 2018 بأن ” 80% من المخدرات مصدرها إيران التي تحاذي المحافظة الجنوبية بحدود تصل إلى أكثر من 90 كلم” ومن المعروف أن الفصائل المسلحة تعمل على إدخال المخدرات بصورة كبيرة إلى الأراضي العراقية وتعتمد على تجارة المخدرات كوسيلة للكسب وجلب الأرباح لتمويل نشاطاتها المسلحة ومكاتبها وقنواتها الاعلامية، دون الإكتراث بمخاطر انتشار المواد المخدرة وآثارها الخطيرة على المجتمع العراقي والتي تؤدي إلى ضياع الشباب وتدمير العوائل وترك آثار مدمرة على الأجيال القادمة، حيث كشفت مديرية محافظة البصرة عن تسجيل ثلاثين ألف متورط بقضايا تجارة وتعاطي المخدرات بين متهم ومحكوم خلال عام 2021 مع ارتفاع كبير في أعداد مستخدمي هذه المواد بسبب سهولة الوصول إليها.
كما أن للفصائل والجماعات المسلحة مكاتب اقتصادية وشركات تجارية تعمل على فرض الإتاوات على رجال الأعمال والمستثمرين والمنافسة لأخذ المشاريع التجارية التي من السهل الاستحواذ عليها بحكم السلاح والعنف والتهديد، ويعتمد الفصائل المسلحة على هذه الاستراتيجية لزيادة الاعتماد على أنفسهم لتوفير الموارد المالية وعدم التعويل على الدعم الخارجي، ما يؤدي بصورة تدريجية إلى هروب رؤوس الأموال وتحول بيئة المحافظة إلى بيئة طاردة للاستثمارات الاجنبية على الرغم من وجود عشرات الفرص الاستثمارية.
ضعف الدولة يغذي الفاسدين
تحدث وزير المالية العراقي الأسبق علي علاوي عن وجود نوع من التواطؤ بين مسؤولين وأحزاب سياسية وعصابات ورجال أعمال فاسدين للمساهمة في نهب الدولة، وبحسب العديد من المصادر والمعلومات فإن أسعار الوظائف في الجمارك تصل إلى عشرات الآلاف من الدولارات، حيث تدر هذه الوظائف أموالاً طائلة على الجهات السياسية التي تسيطر على هذه المناصب، حيث تُسهل هذه المؤسسات عمل الفصائل والميليشيات لإدخال البضائع خارج التعليمات والشروط وتحقيق منفعة مشتركة على حساب الإضرار بالمصلحة العامة للمواطنين.
ضعف الدولة وغياب الإجراءات الحكومية الرادعية لمواجهة الفاسدين وملاحقة العصابات المنظمة في محافظة البصرة كانت من أبرز أسباب تغذية شبكات الفساد وتوسيع دائرة الفاسدين في المحافظة، وبالرغم من تعهدات رئيس الوزراء “مصطفى الكاظمي ” بإحكام القبضة على المنافذ الحدودية وإنهاء أحد اسوأ ملفات الفساد وتكليفه العمليات المشتركة في البصرة بالسيطرة التامة على منفذ الشلامجة مع إيران ومنفذ سفوان مع الكويت وتكليف قيادة القوات البحرية بالسيطرة الكاملة على المنافذ البحرية في ميناء أم قصر، إلا أنه وعلى الرغم من مرور عامين على هذه الوعود، لكنها لم تُنفذ على أرض الواقع نتيجة لقوة شبكات الفساد وقدرتها على عرقلة إجراءات الحكومة بصورة كاملة.
آمال المواطنين للتغيير
شهدت محافظة البصرة مظاهرات واحتجاجات مستمرة بعد 2003 للمطالبة بتحسين الواقع المعيشي ورفع الغبن عن المحافظة، ومن أبرز هذه الاحتجاجات المظاهرات التي طالبت بإصلاح النظام عام 2011 وإجراء التغييرات الضرورية في منظومة الحكم، بالإضافة إلى التظاهرات المطلبية التي خرجت في شهر تموز من عام 2015 للمطالبة بتحسين الخدمات وتوفير الكهرباء للمواطنين بعد إنعدام التيار الكهربائي، كما لحقت البصرة سريعاً بتظاهرات تشرين عام 2019 وقدمت عشرات الضحايا في سبيل إيصال رسالة المواطنين وإنهاء عسكرة المجتمع والفساد المتجذر في المؤسسات الحكومية داخل المدينة.
ومن الملاحظ أن الفصائل المسلحة كانت تواجه التظاهرات والاحتجاجات بصورة عنيفة بإستخدام السلاح والرصاص الحي، إضافة إلى اعتقال الناشطين وتغييبهم وتعذيبهم في سبيل إخماد الحراك الشعبي بصورة سريعة، خوفاً من أن تؤدي هذه الاحتجاجات إلى حدوث تغييرات وخسارة الفصائل المسلحة لنفوذها ومصالحها داخل المحافظة، حيث أن أبرز مطالب المتظاهرين هو تقوية مؤسسات الدولة وإنهاء الإنفلات الأمني ومنع الجماعات المسلحة من ممارسة النشاطات الإقتصادية ما سيؤدي إلى تجفيف المنابع الإقتصادية لهذه الفصائل.
يحلم المواطنون في مدينة البصرة الغنية بالنفط بحدوث نقلة نوعية على المستوى الأمني والاقتصادي في محافظتهم، وإيقاف مسلسل العنف الذي بدأ منذ عقود ولم يتوقف حتى اليوم الحالي، مع إبعاد المحافظة عن دائرة الصراعات ومنع تحولها إلى حلبة لتصفية الحسابات بين الفصائل والجماعات المسلحة المتورطة بالكثير من الجرائم وأعمال العنف بحق المواطنين والناشطين في البصرة.