بصمة اللحوم
لنقوم بتبسيط الحديث العلمي والأكاديمي عن بيئاتنا ومناخنا وتحويله الى تلك الأحاديث القصيرة التي نتبادلها يومياً، مثل من أين اشتريت هذا القميص الجميل وكم هو ثمنه؟ آه، جميل انت تملك الآن هاتفاً جديداً؟ أين نتناول غدائنا اليوم، ما رأيك ان نكتفي بسندويتشات من الشاورمة؟ يمكننا ان نبدأ أحاديثنا اليومية عن البيئة والمتغيرات المناخية بأسئلة مشابهة وقريبة نوعاً ما، ولكن في سياق مختلف وفي سبيل تبادل المعلومات والمزيد من المعارف وليس وفق شروط العلماء البيئيين. نسأل على سبيل المثال عما تحتاجه صناعة اللحوم التي نتناولها يومياً من المياه، أو الطاقة والمواد الأولية التي تحتاجها صناعة قميص واحد، وكذلك الأمر بالنسبة لأجهزة الهاتف الحديثة.
ليست هذه الأسئلة مفتاحاً لدروس تعليمية عن المناخ، بل هي مثلها مثل أية اسئلة أخرى تشكل جزءً من همومنا وانشغالاتنا اليومية، انما مُغَيّبة نوعاً أو تُصَنف ضمن أحاديث العلماء البيئيين. هي في الحقيقة أسئلة ترتبط بمجمل نشاطاتنا ارتباطاً وثيقاً، لأننا نشكي دائماً من ارتفاع أسعار الغذاء والملابس والأثاث وأسعار الوقود والمقتنيات الشخصية. في الأمر تالياً، جانب حيوي يمكن أن يفيدنا في إغناء معلوماتنا الشخصية واقتصادنا اليومي وكذلك في قضاء وقت مفيد مع الزملاء والزميلات، أو مع أفراد في العائلة والأقرباء.
لو سألنا المحيطين بنا في العمل أو في أي مكان آخر عن كمية المياه التي يحتاجها انتاج كيلوغرام واحد من لحم البقر، قد لا يفكرون بالبيئة للإجابة على السؤال في الوهلة الأولى، ذلك ان اللحم يشكل الطبق الرئيسي للغالبية العظمى من سكان العالم.
تالياً، يرتبط السؤال بأنماط غذائهم اليومية من جانب، كما ان الأرقام تثير الفضول ويمكن وضعها في خانة الأحاديث المسلية من جانب آخر. ولكن في الجوهر يرتبط طرح مثل هذا السؤال بالصمات التي يتركها كل فرد منا على المناخ والموارد الطبيعية دون المعرفة بأن انتاج كيلوغرام واحد من لحم البقر يحتاج الى 15 ألف ميتر من المياه. وتغطي هذه الكمية عملية انتاج اللحم منذ ولادة الحيوان الى اللحظة التي تم فيها تقدم اللحم على المائدة.
يعتمد أغلب سكان الأرض على لحم البقر للحصول على البروتين والعناصر الغذائية الأخرى. وقد يساهم الاعتماد الغذائي الرئيسي على اللحم الأحمر، مساهمة كبيرة في بناء سجال اجتماعي عام حول بصمات الفرد، لنقل على الموارد الطبيعية الجوهرية مثل المياه، لأن الحديث عن حماية الأرض والقضايا البيئية قد يثير نوعاً من ردود فعل غير متوقعة من المحافظين وغير المهتمين بالأمر. ولكن الحديث عن استخدام مستدام للحوم والمياه من اجل حمايتهما وضمان بقاءهما لإدامة الحياة يحفز الجميع للمشاركة في السجال، وهو في النهاية سجال بيئي بامتياز.
بصمة مجتمع الفرجة
لو ألقينا نظرة سريعة داخل الخزانات المخصصة للملابس لأي واحد/ة منا، قد نجد ما يكفي لعدة سنوات من الملابس، رغم ذلك لا نتوقف عن الشراء. وللأمر علاقة مباشرة بالتمثيل الاستعراضي في المجتمعات الحديثة التي تفرض الموضة على الأفراد قبل الاحتياج للملابس.
اننا لا نشتري قميصاً بداعي الحاجة، انما بداعي موضة جديدة او فصل جديد من الملابس، أي اننا مُسيرين وفق مقتضيات السوق الاستهلاكية وشروط مجتمع “الفرجة”.
لو التفتنا الى الوراء وتفحصنا البصمة التي يتركها سلوكنا الشرائي على الموارد الطبيعية والمناخ والبيئة، نصل الى نتائج قد تحفز فينا رغبة المقارنة بين حدود احتياجاتنا وبين شروط السوق الاستهلاكية؛ ونكتشف بأن الألبسة الصيفية التي أضفناها الى ما نملك، تساهم في المزيد من الاحترار العالمي وتلويث الهواء الذي نستنشقه. ولكن كيف ذلك؟
الجواب واضح بهذا الشأن وتلقي الأرقام المتوفرة الضوء على البصمات المتروكة في عتمة عالم الملابس والموضة. تنتج الشركات المصنعة للملابس ما يتراوح بين 100 الى 150 مليار قطعة قماش سنوياً، ما يجعلها مسؤولة عما يقارب 10٪ من اجمالي انبعاثات ثاني أكسيد الكربون على مستوى العالم، كما انها مسؤولة عن 20 في المئة من تلوث الصرف الصحي جراء صباغة الأقمشة والمواد الكيمياوية الناتجة عنها.
وتحتاج هذه الكمية الهائلة من الملابس لما يقرب مئة مليار متر مكعب من المياه النظيفة سنوياً، ناهيك بقطع أكثر 70 مليون طن من الأشجار كل عام لتلبية احتياجات سوق الألبسة. وتشير أرقام وثقها موقع visual capitalist الى ان العالم فقد 3.75 مليون هكتار من الغابات المطيرة الاستوائية الأولية في عام 2021، أي إزالة ما يعادل 10 ملاعب كرة قدم من المساحات الغابوية في الدقيقة.
القصة وما فيها، تحتاج رغبتنا للتسوق والشراء الى مراجعة قد لا تكون بيئية بالضرورة، بل اقتصادية وتنظيمية لأمورنا المالية، خاصة في ظل الظروف الحالية التي أصبح فيها ارتفاع الأسعار طيفاً يلاحقنا باستمرار. وكما في حالة التناول المستدام للحوم، يساهم التحرر من الموضة والجموح الشرائي في تقليل هدر الأموال والبصمة المناخية في وقت واحد.
بصمة الجوال
كلما بدأت عمالقة صناعة أجهزة الهاتف بإعلان عن منتج جديد، بدت علامات الملل على وجوه المستهلك من جهازه القديم الذي بالكاد مرّ عاماً على شرائه. انه جانب آخر من مجتمع الفرجة، ملابس جديدة وأنيقة كل يوم تقتضي أجهزة موبايل جديدة. وبما ان هذا الجهاز الإلكتروني يعد من بين أكثر الأجهزة الإلكترونية الذكية استخداماً، تترك صناعته واستهلاكه وتجميعه في النهاية بين أكوام من النفايات بصمة واضحة على المناخ، ناهيك بأنه أصبح مصدر أزمة بيئية لم يجد العالم الى اليوم طريقة للتخلص منها.
يكلف كل جهاز تلفون ما يزيد عن 70 كيلوغرام من المواد الأولية مثل النحاس، الحديد، ألمنيوم، الزجاج، القصدير، النيكل والسيليكون… الخ. ولم يتم الى اليوم تدوير النفايات الإلكترونية لغرض إعادة انتاج الموبايل، ما يتطلب المزيد من المواد الأولية لهذا السوق العملاق. وبحسب بيانات عالمية تبلغ نفايات الهواتف المحمولة، أي الهواتف القديمة وغير المستخدمة 16 مليار جهاز في العالم.
ولا يتطلب سوق الموبايل اصدار طبعات جديدة للأجهزة كل عام فقط، بل يتداخل مع سوق الطاقة وأبراج الاتصالات والفضاء والبنى التحتية للمدن، فضلاً عن متطلبات الجيل الخامس 5G. ففي مدينة مثل مونتريال الكندية بلغ عدد أبراج الاتصالات في ظل الجيل الرابع 1200 برج، بينما يتطلب الجيل الخامس 6000 آلاف برج، مما يزيد من عمليات الانشاء والمواد الأولية، والطاقة بطبيعة الحال.
اختصاراً، يعد قطاع التلفون المحمول مسؤولاً عن 4 في المئة من انبعاث غازات الاحتباس الحراري عالمياً، ناهيك بالتدهور البيئي الناجم عنه، ذلك ان 16 مليار قطعة من النفايات الصلبة تشكل عبئاً كبيراً على الأنظمة البيئية. ولو قمنا بعملية حسابية صغيرة حول استخدام جهاز آيفون من الجيل السادس بحسب بيانات شركة أبل ذاتها نعرف حجم بصمتنا البيئية على الكوكب وأنظمته البيئية.
تحاول الشركات المصنعة لأجهزة الموبايل اظهار الأجيال الجديدة من منتجاتها بأنها أقل توليداً للغازات الحرارية وصديقة للبيئة مقارنة بالهواتف القديمة، لكن لا ننسى بطبيعة الحال بأن عمليات التصنيع والأداء تتطلب المزيد من الطاقة، ولا يعني شعار صديق البيئة سوى “الغسيل الأخضر”. بحسب ميزانيات الطاقة المقدمة من شركة أبل، يولّد هاتف iPhone 6 ما يقارب 100 كيلوغرام من غازات الاحتباس الحراري وبالشكل التالي: 11٪ أثناء الاستخدام، 85٪ أثناء الإنتاج، والباقي في النقل وإعادة التدوير.
قصارى القول، كي نشارك في حماية الأرض وانقاذها أنواعها وضمان حياة الأجيال القادمة، نحن محكومون بأمل التحرر من شهيتنا المفتوحة للشراء والاستهلاك.