هل تسقط الاحتجاجات في إيران النظام الإيراني؟
رغم الإجراءات القمعية التي اتبعها النظام الإيراني في التعامل مع الاحتجاجات الحالية التي اندلعت بعد وفاة الفتاة الكردية مهسا أميني في 16 سبتمبر الفائت، إلا أنه لم ينجح حتى الآن في احتواءها بشكل كامل. وربما يعود ذلك في المقام الأول إلى أن النظام اختار الطريق الأسهل بالنسبة له لمواجهتها، ممثلاً في شن حملة اعتقالات واسعة، واستخدام الرصاص الحى ضد المحتجين، وفرض قيود شديدة على شبكة الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي.
ربما جادل بعض المراقبين بأن النظام كان يستطيع احتواء الاحتجاجات الحالية عبر أدوات أخرى غير عنيفة مثل تخفيف القيود المفروضة على الحريات الاجتماعية، لاسيما فيما يتعلق بالحجاب والسماح بهامش أوسع من الحريات السياسية. إلا أن ذلك يواجه في حالة إيران إشكاليات عديدة تجعل منه مهمة في غاية الصعوبة.
فالنظام لا يستطيع بسهولة الإقدام على اتخاذ خطوات من هذا القبيل، وهو ما يعود في المقام الأول إلى الأسس الأيديولوجية التي يقوم عليها، ورؤيته لتأثير ذلك على توازنات القوى السياسية الداخلية، وعلى اتجاهات السياسة الخارجية والعلاقات مع القوى الدولية والإقليمية، لاسيما تلك التي تناوئ طموحات إيران على المستويات المختلفة.
أسس ثابتة
لا يستطيع النظام الحالي أن يحيد بسهولة عن الأسس الأيديولوجية التي قام عليها من البداية، ولاسيما فيما يتعلق بـ”أسلمة” المجال العام” داخل إيران، عبر فرض قيود شديدة على ملابس النساء تحديداً وتأسيس قسم للشرطة مهمته الأساسية تتمثل في مراقبة “الأخلاق العامة”، واعتبار أي توجه مناوئ لذلك يدخل في سياق ما يسميه “محاولات التغريب”، التي كانت أحد الأسباب التي أدت إلى اندلاع الثورة على نظام الشاه محمد رضا بهلوي في عام 1979 والتي بدأت ثورة وطنية شاركت فيها كل القوى السياسية قبل أن يسيطر عليها نخبة رجال الدين.
وهنا، فإن القيادات العليا في النظام، فضلاً عن المؤسسات النافذة فيه وعلى رأسها الحرس الثوري، والتي استفادت إلى حد كبير من هذه الأسس، لن تسمح بتقديم أي تنازلات في هذا الصدد، باعتبار أن ذلك سوف يمثل تراجعاً في المقام الأول عن أحد الأسس التي قام عليها النظام من البداية.
كما أن هذه القيادات والمؤسسات استوعبت درس عام 1979، عندما بدأ الشاه محمد رضا بهلوي يقدم تنازلات إلى المحتجين، من أجل تقليص حالة الأهمية والزخم التي اكتسبتها الاحتجاجات على مستوى الشارع، إلا أن ذلك اعتبر علامة ضعف دفعت قيادة المحتجين إلى تعزيز حضورها في الشارع واستقطاب مزيد من المؤيدين، والأهم من ذلك رفع سقف مطالبها، لتصل إلى الإطاحة برأس النظام نفسه. وبعبارة أخرى، فإن النظام الحالي يرى أن هذه التنازلات أشبه بـ”كرة الثلج”، إذ أن تقديم أى تنازلات سوف يستتبعه تقديم تنازلات جديدة.
ربما تكون الحالة الوحيدة التي يمكن أن يضطر فيها النظام إلى تقديم تنازلات هو شعوره باقتراب خطر منه، سواء داخلي أو خارجي. فإيران التي تصر في الوقت الحالي على رفع مستوى تخصيب اليورانيوم إلى 60% رغم معارضة المجتمع الدولي لذلك وارتفاع سقف العقوبات الأمريكية، هى إيران نفسها التي سبق أن جمدت عمليات تخصيب اليورانيوم ووقعت على البروتوكول الإضافي لمعاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية في عام 2003، عندما شعرت بالخطر المحدق بها بعد الغزو الأمريكي للعراق وإسقاط نظام الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين في العام نفسه.
لكن في المرحلة الحالية، فإن النظام لا يبدو أنه يرى أن الاحتجاجات الحالية تمثل، على الأقل حالياً، خطراً كبيراً عليه يمكن أن يضطره إلى تقديم تنازلات والاستجابة لبعض مطالب المحتجين. وربما يمكن من هنا تفسير إصراره على إتباع الإجراءات القمعية دون غيرها في التعامل مع المحتجين. كما أنه ما زال مصراً على إنكار الأسباب الحقيقية لهذه الاحتجاجات، بالتوازي مع الترويج إلى أنها اندلعت لـ”عرقلة التقدم الذي حققته الثورة الإسلامية” على حد قول المرشد الأعلى للجمهورية علي خامنئي.
لذا، يمكن القول إن هذه النظرة نفسها قد تكون السبب الأساسي سواء في استمرار الاحتجاجات الحالية، أو في اندلاع غيرها خلال المرحلة المقبلة، على نحو سوف يخلق بالتالي “كرة الثلج” التي يخشى منها النظام، والتي سوف تتمثل في هذه الحالة في اتساع نطاق الاحتجاجات وانضمام شرائح جديدة إليها وارتفاع سقف مطالبها لتطول رأس النظام نفسه، على نحو قد لا يستطيع الأخير التعامل معها وفقاً للآليات الحالية التي يتبناها.
فضلاً عن ذلك، فإن أى توجه لتوسيع هامش الحريات الاجتماعية والسياسية قد يؤدي إلى إعادة تفعيل نشاط التيارات الإصلاحية والمعتدلة التي تتبنى هذه الرؤية تحديداً، وهى التيارات التي سعى النظام إلى تهميشها خلال الفترة الماضية، عبر وسائل عديدة منها رفض أهلية معظم قياداتها وكوادرها للترشيح في الاستحقاقات الانتخابية المختلفة، وكان آخرها انتخابات رئاسة الجمهورية التي أجريت في يونيو 2021 وأسفرت عن فوز إبراهيم رئيسي بعدما تم استبعاد عدد كبير من المرشحين، كان من بينهم مرشحون ينتمون إلى التيار المعتدل ومقربون من المرشد الأعلى لإيران، مثل رئيس مجلس الشورى السابق على لاريجاني. إذ يستعمل النظام في هذه الحالة “مقصلة” مجلس صيانة الدستور الذي يمتلك أهلية البت في ملفات المرشحين لهذه الاستحقاقات ويقوم بإقصاء العدد الأكبر منهم مستنداً إلى أسباب غير مقنعة.
ترقب خارجي
من دون شك، فإن النظام يبدو مدركاً إلى أن الدول الغربية تتابع ما يجري على الساحة الداخلية، خاصة فيما يتعلق بآليات تعامله مع الاحتجاجات. وهنا، فإنه يرى أن تقديم أي تنازلات للمحتجين سوف يدفع هذه الدول إلى ممارسة ضغوط بدورها للحصول على تنازلات من جانبه في ملفات تحظى بأهمية خاصة من جانبها. وبالطبع، فإن هذا الاحتمال يتزايد مع الوضع في الاعتبار اتساع نطاق الخلافات بين إيران وهذه الدول حول العديد من الملفات، على غرار الاتفاق النووي وبرنامج الصواريخ الباليستية والتدخلات الإقليمية.
وقد مارست هذه الدول بالفعل ضغوطاً قوية على النظام للحصول على تنازلات من جانبه. ففي البداية، سعت إلى توسيع نطاق المفاوضات التي تجريها مع إيران، منذ 6 أبريل 2021، لتشمل إلى جانب الاتفاق النووي كلاً من البرنامج الصاروخي والدور الإقليمي. وعندما فشلت في ذلك بسبب إصرار إيران على إجراء المفاوضات حصراً حول الملف الأول فقط، بدأت في ممارسة ضغوط جديدة على إيران من أجل فرض قيود أشد على الأنشطة النووية، فضلاً عن إطالة أمد الاتفاق، أو بمعنى أدق توسيع نطاق المدة التي سوف ترفع فيها القيود التي يفرضها الاتفاق على الأنشطة النووية الإيرانية.
بل إنها تحاول في الوقت الحالي ممارسة ضغوط على إيران للتوقف عن تقديم دعم عسكري إلى روسيا من خلال الطائرات من دون طيار من طرازى “شاهد 136” و”مهاجر 6″، وذلك عبر فرض عقوبات جديدة أو التهديد بتفعيل ما يسمى بـ”آلية الزناد”، أى العودة التلقائية للعقوبات الدولية التي كانت مفروضة عليها من قبل مجلس الأمن- قبل الوصول للاتفاق النووي- باعتبار أن هذا الدعم الذي تقدمه لروسيا ينتهك قرار مجلس الأمن رقم 2231 الخاص بالاتفاق.
هنا، فإنه من الصعب على النظام أن يقدم تنازلات لاستيعاب هذه الضغوط حتى لو أدى ذلك إلى انهيار المفاوضات وتوقف العمل بالاتفاق النووي، بكل ما يمكن أن يفرضه هذا المسار من تداعيات وعواقب وخيمة على إيران.
فالنظام لن يتراجع عن تطوير برنامجه للصواريخ الباليستية التي يصل مداها إلى نحو 2000 كيلو متر. كما أنه استنزف كما هائلاً من الموارد الإيرانية على دعم مغامراته في الخارج، لاسيما في دول الأزمات، بشكل سوف يضع عقبات عديدة أمام تراجعه عنها أيضاً. فضلاً عن أن البرنامج الصاروخي والدور الإقليمي هما أداتا الردع الرئيسيتان اللتان يمتلكهما النظام في المرحلة الحالية ويحاول من خلالهما رفع كلفة أى عمل عسكري قد تتعرض له إيران، وهو احتمال لم يعد النظام يستبعده في ظل تصاعد حدة التوتر في علاقاته مع العديد من القوى الدولية والإقليمية على غرار الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل.
وعلى ضوء ذلك، تبدو الأزمة الداخلية في إيران مرشحة لمزيد من التفاقم خلال المرحلة القادمة. فقد كسر المحتجون حاجز الخوف الذي أثر على قوة وتأثير الاحتجاجات السابقة، ووصلت الاحتجاجات الحالية إلى يومها الأربعين الذي شهد مواجهات عنيفة بسبب احتشاد قسم من المحتجين عند قبر مهسا اميني ضاربين عرض الحائط بالتحذيرات والإجراءات الأمنية التي اتخذتها السلطات لمنع تحويل ذكرى “أربعينية” الفتاة الكردية إلى مناسبة لمواصلة التنديد بسياسات النظام الذي لا يبدو أنه سوف يتراجع عن إجراءاته القمعية الحالية، على نحو يمكن القول إنها سوف تفرض في النهاية تداعيات عكسية عليه.