هل تتبنى إيران سياسة “الابتزاز النووي”؟
لا تبدو الخطوة التصعيدية التي اتخذتها إيران على مستوى برنامجها النووي، في 22 نوفمبر الجاري، بإعلان رفع مستوى تخصيب اليورانيوم في مفاعل فوردو، جديدة. إذ أن إيران اعتادت على تخفيض مستوى التزاماتها النووية منذ مرحلة ما بعد الانسحاب الأمريكي من الاتفاق النووي في 8 مايو 2018، ثم إعادة فرض العقوبات الأمريكية عليها بداية من 7 أغسطس من العام نفسه.
لكن الجديد في هذا السياق أمران: الأول، أنه تم اختيار مفاعل فوردو بالذات للإعلان عن هذه الخطوة الجديدة الخاصة برفع مستوى تخصيب اليورانيوم إلى 60%، وهو المفاعل الذي قامت إيران بإنشاءه تحت الأرض لحمايته من هجمات عسكرية محتملة، وحرصت على إخفاءه عن أعين مفتشي الوكالة الدولة للطاقة الذرية حتى اضطرت إلى الاعتراف بوجوده في منتصف عام 2009 عندما أدركت أن أجهزة الاستخبارات الغربية استطاعت اكتشافه.
والثاني، أنه تم استخدام أكثر أجهزة الطرد المركزي التي تمتلكها إيران تطوراً، وهو جهاز “IR 6″، الذي لا يسمح به الاتفاق النووي الذي توصلت إليه إيران ومجموعة “5+1” في 14 يوليو 2015، ويقضي باستخدام أجهزة الطرد المركزي من الطراز الأول البدائي فقط “IR1”. ويعني ذلك أن إيران ستكون لديها القدرة على تخصيب اليورانيوم بشكل أسرع.
دوافع عديدة
يمكن تفسير إقدام إيران على هذه الخطوة في ضوء دوافع رئيسية أربعة: يتمثل الأول، في أن ذلك يمثل رداً على القرار الذي اتخذه مجلس محافظي الوكالة الدولية للطاقة الذرية، في 17 نوفمبر الجاري، ويقضي بإدانة عدم تعاون إيران مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية، خاصة فيما يتعلق بالإجابة على الأسئلة التي طرحتها الوكالة بخصوص العثور على آثار يورانيوم في بعض المنشآت غير المعلن عنها.
ورغم أن هذا القرار قد اتخذ بموافقة 26 دولة من 35 دولة عضو في المجلس، بما يعني أنه حظى بتأييد عدد أقل من العدد الذي وافق على القرار الذي اتخذته الوكالة في 8 يونيو الماضي وأدان عدم تعاون إيران أيضاً مع الوكالة، إلا أنه في النهاية مثل رسالة حازمة لإيران بأن استمرار التفافها على مطالب المجتمع الدولي وعدم تعاونها بشكل كافٍ وفعال مع الوكالة سوف يدفع الدول الغربية في مرحلة لاحقة إلى اتخاذ قرار أكثر شدة، على غرار العمل على نقل الملف برمته من الوكالة إلى مجلس الأمن الدولي. وقد وجهت بالفعل كل من الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وفرنسا وألمانيا تحذيراً غير مباشر لإيران في هذا الصدد عقب صدور قرار مجلس المحافظين.
نقل الملف مجدداً إلى مجلس الأمن يمثل “خطاً أحمر” بالنسبة لإيران، لأن ذلك معناه تعزيز احتمالات تفعيل ما يسمى بـ”آلية الزناد” أو “Snapback” التي تعني العودة التلقائية للعقوبات الدولية التي كانت مفروضة على إيران وعلقت بمقتضى الاتفاق النووي، بعد استنفاد بعض الإجراءات الخاصة بدراسة شكوى قد يقدمها أحد الأطراف المشاركة في الاتفاق إزاء تقاعس طرف آخر عن الالتزام بتعهداته فيه.
هنا، فإن إيران تريد عبر هذه الخطوة التصعيدية الجديدة تأكيد أنها لن تتراجع حتى مع تصاعد حدة الضغوط المفروضة عليها من جانب الدول الغربية، وتهديدات الأخيرة بإحالة ملفها إلى مجلس الأمن مجدداً بكل ما يمكن أن يفرضه ذلك من عواقب عديدة، خاصة على مستوى مصير الاتفاق النووي الحالي.
ويتعلق الثاني، بممارسة مزيد من الضغوط على الولايات المتحدة الأمريكية والدول الغربية بشكل عام، لدفعها إلى تغيير مواقفها الحالية. إذ أن هذه الدول وجهت من الرسائل ما يفيد بأنها لم تعد تمنح الأولوية في الوقت الحالي لاستئناف المفاوضات النووية مع إيران من النقطة التي توقفت عندها، والوصول إلى اتفاق نووي جديد أو تطوير النسخة الحالية من الاتفاق، بحث تستوعب المعطيات الجديدة مثل العودة المحتملة للولايات المتحدة الأمريكية إلى الاتفاق.
ورغم أن إيران أكدت أكثر من المرة أن الولايات المتحدة الأمريكية توجه لها رسائل عبر وسطاء تفيد أنها ما زالت معنية بالوصول إلى صفقة نووية جديدة، إلا أن الأخيرة بدأت في تبني خطوات عديدة كشفت من خلالها أنها لم تعد تعول كثيراً على المفاوضات النووية أو الاتفاق الحالي.
ومن هنا، فإن إيران تسعى عبر تلك الخطوة إلى تحذير الدول الغربية من أن حرصها على منح الأولوية لملفات أخرى في إدارة تفاعلاتها مع إيران، على غرار الدعم العسكري الإيراني لروسيا في الحرب ضد أوكرانيا، سوف يدفعها إلى تحقيق مزيد من التقدم في برنامجها النووي، وربما الوصول إلى مرحلة امتلاك القدرة على إنتاج القنبلة النووية، وهو الخط الأحمر الذي ما زالت واشنطن تؤكد أنها لن تسمح لطهران بتجاوزه.
وينصرف ثالثها، إلى الرد على الدعم الذي تقدمه الدول الغربية، حسب المزاعم الإيرانية، للاحتجاجات الداخلية التي وصلت إلى شهرها الثالث. إذ ما زالت إيران مصرة على أن اندلاع هذه الاحتجاجات في حد ذاته ثم استمرارها حتى الآن لم يكن ليحدث لولا أن المحتجين تلقوا دعماً من الخارج، ولولا وجود مخطط تعمل عليه أجهزة استخبارات غربية لتقويض دعائم النظام الإيراني عبر هذه الاحتجاجات.
وفي رؤية النظام الإيراني، فإن وفاة مهسا أميني لم يكن إلا المبرر الذي سعت الدول الغربية إلى استغلاله لإخفاء نواياها إزاء النظام، ومحاولة استثمار الاحتجاجات لممارسة ضغوط قوية عليه بغية دفعه إلى تغيير سياسته التي تسببت في تصدير تهديدات متعددة لأمن ومصالح تلك الدول.
ويتصل رابعها، بمحاولة النظام تصدير انطباع لدى القوى المعنية بالاحتجاجات الداخلية، بأنه ما زال قادراً على الصمود في مواجهتها وأنها مهما طالت فإنها سوف تنتهي إلى التراجع والخفوت، بدليل إصراره على مواصلة تطوير برنامجه النووي، بالتوازي مع الترويج إلى تحقيق قفزات في البرنامج الصاروخي، عبر الإعلان، في 10 نوفمبر الجاري، عن إنتاج صاروخ فرط صوتي.
لكن هذه المزاعم لا تبدو متسامحة مع المعطيات الموجودة على الأرض، التي تشير إلى أن النظام يواجه بالفعل أزمة حقيقية غير مسبوقة، ربما تتسبب في حدوث تصدع من داخله خلال المرحلة القادمة. ورغم أن النظام ما زال حريصاً على التقليل من قوة وتأثير الاحتجاجات، فإن الشارع نفسه لم يعد يبالي بالإجراءات التي يتخذها النظام، بدليل أن الاحتجاجات ظهرت حتى في المباراة التي لعبتها إيران مع انجلترا ضمن فعاليات مونديال كأس العالم لكرة القدم في قطر، في 21 نوفمبر الجاري، حيث رفض اللاعبون ترديد النشيد الوطني الإيراني، وحمل الجمهور الإيراني لافتات تعكش الشعار الرئيسي للاحتجاجات، وهو “المرأة، الحياة، الحرية”.
حسابات معقدة
رغم كل الضغوط التي يتعرض لها النظام الإيراني خلال المرحلة الحالية، فإنه ما زال واثقاً، على ما يبدو، في أنه يستطيع ابتزاز الدول الغربية وممارسة ضغوط أقوى عليها في الملف النووي، مطمئناً إلى أن هذه الدول مهما اهتمت بمتابعة ودعم الاحتجاجات، فإنها سوف تضطر في النهاية إلى إعادة إجراء اتصالات معه ودعم فرص استئناف المفاوضات من جديد.
اطمئنان النظام لهذه المقاربة يمكن تفسيره في ضوء رؤيته الخاصة بتداعيات الحرب الروسية-الأوكرانية، التي يرى أنها تفرض ضغوطاً قوية على الدول الغربية، ولا تتيح لها خيارات متعددة في التعامل مع الأزمات التي أنتجتها، ولاسيما أزمة إمدادات الطاقة، بما يعني، وفقاً لهذه الرؤية، أن الدول الغربية لا تملك “ترف” المغامرة بإنهاء المفاوضات النووية، وتعزيز احتمالات انهيار الاتفاق النووي.
لكن هذه المقاربة الإيرانية ربما تواجه إشكاليات ثلاث: أولاها، أن البديل الإيراني فيما يتعلق بإمدادات الطاقة له حدود على الأرض. فلا إيران تستطيع سد الفراغ الذي ينتجه انقطاع إمدادات الطاقة الروسية، ولا روسيا سوف تسمح لإيران بالتمادي في هذا السياق.
وثانيتها، أن الدول الغربية أصبحت مدركة، إلى حد كبير، بأنه مهما توصلت إلى تفاهمات وربما صفقات مع إيران، فإن ذلك لن يدفع الأخيرة إلى تنفيذ تعهداتها، بعد أن أثبتت أنها لا تستطيع الانخراط في التزامات دولية صارمة.
وثالثتها، أن السياسة الإيرانية التي تعمدت توسيع نطاق الخلافات مع الدول الغربية، ساهمت في تشكيل حشد إقليمي مناوئ لتدخلاتها الإقليمية وطموحاتها النووية، بدليل التحركات التي تقوم بها الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها في منطقة الشرق الأوسط من أجل صياغة ترتيبات أمنية لمواجهة مصادر التهديد الإيرانية على غرار المسيرات التي تعتبر الأداة الرئيسية التي تستخدمها إيران والمليشيات الموالية لها في دول الأزمات.
وعلى ضوء ذلك، تبدو العلاقات بين إيران والدول الغربية أمام اختبار صعب، سوف ينتهي، على الأرجح، بتفاقم حدة الأزمات والضغوط التي تتعرض لها إيران، بسبب إصرارها على التمسك بمواقفها وسياستها المتشددة في التعامل مع القضايا الداخلية والخارجية في آن واحد.