ظاهرة القتل العشوائي في الولايات المتحدة
ظاهرة القتل الجماعي العشوائي تكاد تقتصر على الولايات المتحدة حيث من السهولة بمكان الحصول على السلاح باعتباره حق دستوري. والقتل الجماعي هو كل قتل يسقط نتيجته أربعة أشخاص على الأقل غير الفاعل. من بين أكثر من ستمئة حادث قتل عشوائي في الولايات المتحدة هذا العام كان هناك أربعون حادث قتل جماعي. وهذا العدد يزيد ثلاث مرات عن عدد الجرائم المماثلة منذ العام ألفين واحد عشر. هذه الحوادث تكاد تكون يومية ولا تنجو منها أي مدينة أمريكية.
في أحيان كثيرة لا تعرف الأسباب الحقيقية أو الدوافع الخفية لهذه الجرائم وسرها يموت مع الفاعل الذي يقتل نفسه وغالبا ما يكون قد تصرف بمفرده.
ترى معظم الدراسات المتعلقة بهذه الجرائم أن توفر السلاح عامل مهم جدا يسهل حدوثها. والولايات الأمريكية وفقا للدستور الأمريكي في تعديله الثاني تسمح ببيع السلاح للمواطنين لامتلاكه وحمله بدون قيود. وفي الولايات المتحدة فقط يمكن رؤية أشخاص في الشارع أو الأماكن العامة يحملون السلاح وليس فقط السلاح الشخصي ولكن أيضا السلاح الأوتوماتيكي. فالتعديل الثاني للدستور الأمريكي ينص على أنه “… لا يجوز التعرض لحق الناس في اقتناء الأسلحة وحملها”.
واذا كان أمر امتلاك السلاح وحمله مبررا في بداية عهد الدولة الأمريكية فما الذي يدفع الأمريكي لامتلاك السلاح وحمله حيث لا اضطرابات أمنية ولا حروب أهلية؟ توجهت بهذا السؤال إلى الدكتور وليد سرحان مستشار أول الطب النفسي في الأردن فقال أن الشخصية الأمريكية شخصية مختلفة عن باقي الشخصيات في العالم ولديها سلوكيات غير مفهومة. فالأمريكي يتولد عنده أحيانا ردود أفعال عنيفة وغير مفهومة وخارجة عن المألوف ولا يمكن وضعها في أي مقياس. ويرى الدكتور وليد سرحان أن عدم توفر الأمان الاجتماعي عند كثير من الأمريكيين الذين قد ينتهي بهم الأمر في الشارع مشردين أو العيش منفردين يدفعهم للقيام بسلوكيات عدوانية وأفعال جرمية تشكل انعكاسا لتنشئة اجتماعية غير سوية.
ظاهرة حمل السلاح في أمريكا
من هنا يجد كثيرون من اليائسين المكتئبين وأصحاب السوابق ضالتهم في حمل السلاح لشعورهم بعدم الأمان وفي لحظة ما تتولد لديهم مشاعر عنفية ودوافع جرمية فيفرغون هذا المخزون في جريمة قتل جماعية ربما هم انفسهم لا يعرفون سببها المباشر. وقد سألت الدكتور وليد سرحان عن كيفية تولد هذه المشاعر الجرمية لدى الأشخاص الذين يقومون بهذه الأفعال فقال إن تعاطي نوع معين من المخدرات يؤدي أحيانا إلى تأثيرات عضوية تعمل على ما يمكن تسميته بفتح صمام العنف لدى المتعاطي ليصبح أشبه بالقنبلة الموقوتة. فتعاطي المخدرات والمشروبات الكحولية إذا ما اجتمعا مع تنشئة اجتماعية ضعيفة أو ناقصة فالنتيجة عنف دموي مثل الذي نشاهده في هذه الحالات. وتكون النتيجة ظهور شخصية عدوانية عنيفة تعيش في رعب داخلي وتجد ملاذها في السلاح الذي يتوفر بصورة سهلة لكل من يريد امتلاكه وحمله.
هل يمكن أن تكون جرائم القتل العشوائي مجرد جريمة قتل عادية أم هي نتيجة تراكمات نفسية ثقيلة؟ يرى الدكتور وليد سرحان أن الأمر مزيج من الاثنين فهي حالة جرمية وتراكمات لعقد نفسية وطفولة بائسة وربما ترسبات قديمة لحالات من انتهاكات واضطرابات تعرض لها هؤلاء القتلة أثناء طفولتهم. هؤلاء الأشخاص الذين يقومون بمثل هذه الأفعال هم نتاج مجتمع يشهد تفككا اسريا وبيوتا محطمة وحالة فوضى يعيش فيها كل فرد بطريقته بعيدا عن القيم والمبادئ التي تبني العائلة وتحفظها.
خبراء علم الاجتماع يعتقدون أن الفروق الاجتماعية قد تؤدي أيضا إلى مثل هذه الجرائم وعدم المساواة في الثروات وفي الدخل وفي المستوى التعليمي لها دور أيضا. واحيانا كثيرة يكون الطرد من الوظيفة أو جرعة مخدرات زائدة أو يأس عام من الحياة من أسباب ارتكاب هذه الجرائم. على الأغلب يتصرف مقترفو هذه الجرائم وحدهم دون أي شريك ولأنهم يقومون بقتل انفسهم تضيع فرصة مهمة لدراسة الدوافع الحقيقية وراء تلك الجرائم ويبقى الأمر مرهونا للتخمينات.
بعد كل جريمة من هذا النوع ينتشر الجدل في المجتمع الأمريكي حول حرية اقتناء السلاح وحمله. ويعد أمرا غريبا بالنسبة لمعارضي سهولة اقتناء السلاح أن القانون الأمريكي لا يسمح للشخص بشراء المشروبات الكحولية قبل بلوع سن الحادية والعشرين لكنه يسمح له بشراء السلاح في عمر الثامنة عشرة. لذلك طرحت مقترحات بجعل السن القانونية لحمل السلاح هو الخامسة والثلاثين. لكن جميع الذين يجادلون في الأمر لا يطالبون الكونغرس بإصدار تشريع يلغي التعديل الثاني الذي يتيح لأي أميركي بشراء السلاح وحمله بصورة علنية. فالمعروف أن لوبيات شركات الأسلحة تملك نفوذا واسعا لدى السلطات الأمريكية وهي من القوة بحيث أنها تستطيع إسكات أي صوت سواء كان إعلاميا أو برلمانيا أو سياسيا أو اكاديميا يعرض مصالحها للخطر.
بسبب قوة لوبيات شركات السلاح اصبح الشعب الأمريكي أكثر شعوب الأرض امتلاكا للسلاح فهناك مئة وعشرون قطعة سلاح لكل مئة أمريكي. وتشير الإحصائيات التي تنشرها المؤسسات الأمريكية ومنها Small Arms Analytics أن الولايات المتحدة أنتجت في العشرين سنة الماضية مئة وتسعة وثلاثين مليون قطعة سلاح أنتجها أكثر من ستة عشر ألف مصنع بينما استوردت واحدا وسبعين مليون قطعة سلاح صدّرت منها سبعة ملايين وخمسمئة ألف قطعة الأمر الذي يعني بقاء ما يزيد عن مئتي مليون قطعة سلاح في الولايات المتحدة. وتقدر هذه الإحصائيات وجود أربعمئة مليون قطعة سلاح في البلاد. أما المبيعات المحلية لقطع السلاح فقد بلغت تسعة عشر مليون قطعة في العام ألفين وواحد وعشرين.
هذه التجارة تبلغ قيمتها مئات المليارات من الدولارات سنويا وهي تجارة يصعب التخلي عنها نظرا لأن ذلك يضر بمصالح أصحابها كما يضر بمصالح أغلبية السياسيين الذين وصلوا إلى مناصبهم من خلال دعم لوبيات شركات السلاح متعهدين بعدم التدخل في القوانين التي تبيح اقتناء السلاح وحمله.
هناك خلاف حزبي عميق بين الجمهوريين والديمقراطيين يتعلق بحق حمل السلاح. فالجمهوريون يؤيدون حق امتلاك السلاح بدون قيود أو شروط لأنه حق دستوري لكن السبب الحقيقي يكمن في أن للجمهوريين علاقات جوهرية مع لوبيات تجار السلاح. أما الديمقراطيون فيطالبون بتقنين امتلاك السلاح وحمله وان كانوا من جانبهم أيضا لا يستطيعون فرض أي تشريع يمنع بيع السلاح بصورة عشوائية وبدون قيود.
من حق الناس أن يعيشوا حياة آمنة ولكن عندما يكون الدستور كافلا لحق حمل السلاح للجميع بدون أي قيود وعندما تكون قوة لوبيات السلاح طاغية بصورة تستطيع معها التدخل لإيصال من تريد إلى المناصب التشريعية والسياسية لضمان العمل على حماية مصالحها فإن السلم الأهلي سيظل مهددا والحوادث من هذا النوع مرشحة للزيادة.