العراق.. عاصفة كاملة
يشير تقرير جديد حول التنمية والمناخ في العراق الى ان البلد سيواجه “عاصفة كاملة” اذا استمر الاعتماد على الوقود الأحفوري ولم تستجب الدولة للآثار التي تتركها أزمة المناخ وشح المياه على المجتمعات. ويؤكد التقرير الذي أصدرته مجموعة البنك الدولي بعنوان (العراق.. تقرير المناخ والتنمية) على أن هناك تنمية متعددة الأبعاد في العراق وأزمة مناخ تختمر، مشيراً إلى أن عوامل مثل إضعاف القدرات البشرية والمؤسسية، الانقسامات الاجتماعية العميقة وعدم المساواة جراء نموذج التنمية المستند الى النفط، تشكل نواة “عاصفة كاملة” مرتبطة بالتنمية والمناخ والهشاشة.
وتتجسد عوامل هذا الاختمار المناخي من الناحية المادية في (ارتفاع درجة الحرارة، وندرة المياه والأحداث المناخية المتطرفة) والشروط المالية، الأمر الذي يقتضي استجابة سريعة وبعيدة المدى في آن واحد، خاصة ان الاقتصاديات العالمية تشهد تحولاً نحو عالم خال من الكربون ويفقد النفط دوره في تغذية الاقتصاد العالمي عاجلاً أو آجلاً. تالياً، ان الاستمرار في الاعتماد على عائدات النفط، سيجعل العراق عرضة لمخاطر اقتصادية جديدة والمزيد من الانقسامات الاجتماعية.
نقاط كثيرة في التقرير المذكور، تثير القلق بشأن مستقبل العراق، على رغم من كونه أحد أكبر منتجي النفط في العالم، بخاصة ان انتاجه تضاعف في العقد الماضي. وتعد مؤشرات التنمية البشرية المنخفضة إحدى أبرز تلك النقاط التي أحاول ذكرها في سياق هذا المقال. على سبيل يعتبر نظام التعليم العراقي من أضعف الأنظمة في المنطقة بينما كانت يقف النظام التعلمي ذاته على رأس الأنظمة المتقدمة في سبعينات القرن المنصرم، مما يشير الى تراجع خطير حصل خلال نصف قرن. وفي السياق ذاته، تشير التقديرات بحسب التقرير إلى أن الأطفال المولودين في العراق لا يصلون سوى إلى 40 في المئة من قدراتهم، مما يعكس مستوى منخفض للغاية من الاستثمار في رأس المال البشري. أما نسبة مشاركة النساء العراقيات في سوق العمل، فلا تتجاوز 13 في المئة وهو أدنى مستوى في العالم بعد اليمن.
ويعود سبب ذلك وفق محتوى التقرير الى ان نموذج النمو الذي يقوده النفط في العراق كان مصدر هشاشة وتقلبات اقتصادية، لا سيما في تأثيره على إمكانات النمو والتنمية المستدامة في البلاد التي لا تختلف مؤشرات التنمية فيها عن مؤشرات البلدان منخفضة الدخل. أي ان عائدات النفط إضافة الى دورها المباشر في استفحال القطاعات العامة والخدمية (خُمس جميع الوظائف في القطاع العام) على حساب التنمية المستدامة، لعبت دوراً في تقويض القدرة التنافسية للقطاعات غير النفطية، والتي تعتبر بالغة الأهمية لتحرك البلاد نحو تنويع مواردها الاقتصادية.
حقيقة غير كاملة
يعد قطاع الزراعة أحد القطاعات المهمة التي تضررت جراء سطوة النفط على السوق، ناهيك بعوامل أخرى ناتجة عن سوء الإدارة، ضعف العراق أمام سياسات تركيا وإيران المائية وأزمة المناخ. ويشير تقرير البنك الدولي الى ان المياه تنفد في العراق بسرعة، ويتوقع أن تزداد الفجوة الآخذة في الاتساع بين العرض والطلب على المياه من حوالي 5 إلى 11 مليار متر مكعب بحلول عام 2035، وهو ما سيمثل أكثر من 15 في المئة من إجمالي الطلب على المياه.
ارتباطاً بذلك، وفي حال غياب تدخل من شأنه انتشال العراق من أزمته المائية، تشكل ندرة المياه ونوعيتها دون المستوى الأمثل، مخاطر كبيرة على الزراعة وإنتاج الغذاء. ويكتفي التقرير في هذا الشأن بالإشارة الى ان حصة الزراعة تبلغ من عمليات سحب المياه العذبة السنوية حوالي 79 في المئة، بينما تتزايد ندرة المياه بسبب زيادة الطلب على المياه وانخفاض الجريان السطحي وتناقص تدفقات المياه عبر الحدود.
ما يلفت الانتباه في هذا الشأن في التقرير هو غض النظر عن سياسات تركيا وإيران المائية غير العادلة تجاه العراق، والتي ساهمت الى حد كبير في استنفاد وقطع المياه عن مناطق واسعة في العراق وتسببت بازدياد مساحات التصحر وتجفيف المناطق الرطبة، ناهيك بتملح التربة وصعود اللسان الملحي من الخليج جراء تراجع تدفق المياه في الأنهار الدولية التي تدخل الى العراق من أراضي الجارتين.
إن المشكلة الرئيسية التي تواجه العراق اليوم، هي أن إيران لا تحترم مبادئ الشراكة في المياه وألحقت سياساتها المائية أضرار هائلة ببيئة العراق واقتصاده وزراعته. أما تركيا، فلا تعترف بالقوانين الدولية التي تنظم الشراكة على الأنهار العابرة للحدود، بما فيها اتفاقية 1997 الدولية لقانون استخدام المجاري المائية الدولية. وتنص هذه الاتفاقية التي يتم تعريفها بقانون دولي على ثلاثة مبادئ رئيسية وهي: منع التأثيرات العابرة للحدود ومراقبتها والحد منها، ضمان الاستخدام العادل والمنصف للمياه المشتركة والتعاون من خلال الاتفاقيات الثنائية أو متعددة الأطراف والهيئات المشتركة.
لقد صوتت تركيا ضد إقرار بنود هذه الاتفاقية ولم تعترف بها. الى جانب ذلك تنظر تركيا الى دجلة والفرات كنهرين وطنيين ولا تعترف بهويتهما الدولية، كما تعتبرهما حوض مائي واحد، رغم انهما نهران مختلفان وتبعدهما مسافات جغرافية واسعة عن بعضهما، وتستفرد تالياً بإطلاق كمية واحدة من المياه تجاه سوريا والعراق. من هنا يمكن القول بأن تقرير مجموعة البنك الدولي لا يغطي “الحقيقة الكاملة”، لأن الإشارة الى عبارات مثل “انخفاض المياه عبر الحدود” أو “تحسين التعاون الإقليمي” في سياق الحلول المقترحة لمواجهة نفاد المياه في العراق، تبقى ناقصة في ظل تجاهل القوانين الدولية.
أولويات العراق
تحذر مجموعة البنك الدولي من التهديدات التي يشكلها أزمة المناخ على العقد الاجتماعي وتأجيج عدم المساواة ما يؤدي الى إلى اندلاع جولات أخرى من الاضطرابات المدنية والهشاشة في العراق. ويعود سبب الى ذلك سيطرة النخبة السياسية على جميع مفاصل الدولة، المحسوبية، الفساد المستشري ومحدودية العدالة والمساءلة. وهي بمجملها ناتجة عن التسوية السياسية الحالية القائمة على الريع وتقاسم السلطة في البلاد، ومن شأنها إعاقة التحول من الريعية النفطية نحو استثمارات منخفضة الانبعاثات، وإعادة بناء المؤسسات العامة، وقدرة الحكومة على تعزيز الثقة ومعالجة الانقسامات العميقة وهشاشة الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، والسياسية بطبيعة الحال.
بناءً عما ذكر، يتطلب تقاطع فجوات التنمية في العراق ومواطن ضعف أزمة المناخ، إعادة التفكير في أفضل السبل لمواجهة التحديات المشتركة المذكورة والاستجابة لاحتياجات وتطلعات المجتمع. ويقترح تقرير المناخ والتنمية في العراق إجراءات في ثلاث مجالات مهمة وهي: التكيف، مع التركيز على العلاقة بين المياه والزراعة والفقر، التخفيف، مع التركيز على إزالة الكربون من سلسلة قيمة الطاقة في العراق وإدارة الآثار المالية الكلية للانتقال إلى اقتصاد منخفض الكربون. كل ذلك من أجل سد فجوات التنمية ووضع البلاد على طريق نحو اقتصاد أخضر ومرن بحلول 2040.
وبما ان قطاع الكهرباء يحتل الواجهة من حيث التكلفة، يقترح التقرير ضمان استرداد تكلفة الخدمات نظراً لحجمه وضبط فاتورة الأجور العامة وتعبئة الإيرادات المحلية، إضافة الى تعبئة التمويل الأخضر للقطاعين العام والخاص والمشاركة في عملية الانتقال من الوقود الاحفوري الى الطاقة المتجددة. يذكر ان العراق يحرق مليار و 700 مليون قدم مكعب من الغاز الطبيعي المصاحب في اليوم، بينما يستورد ما يصل إلى 1 مليار قدم مكعب في اليوم من إيران لاستخدامها في توليد الكهرباء. وبحسب التقرير وصلت القيمة السنوية الضائعة للغاز المشتعل في العراق الى 2.5 مليار دولار في عام 2020 وحده، وكان ذلك كافياً لتوليد أكثر من 10 جيغاوات من الطاقة الكهربائية.
ويأتي العراق في المرتبة الثانية في العالم بعد روسيا، من حيث كميات الغاز المشتعل. وتمثل أحجام الغاز المحترق في العراق حوالي 14 في المئة من إجمالي انبعاثات الغازات الدفيئة في البلاد، وهي من بين أعلى المستويات عالمياً.
الندم يقتل
يوصي كتاب الدراسة باحتياجات استثمارية بقيمة 233 مليار دولار لتلبية احتياجات التنمية والشروع في مسار النمو الأخضر. وتعتبر التدابير قصيرة إلى متوسطة المدى، والتي يوصى بها خلال العقد القادم، حاسمة في بناء المرونة الاقتصادية والاجتماعية ووضع مسار انتقالي أخضر يغير نهج تصميم وتنفيذ سياسات التخفيف والتكيف استعدادًا لعمل مناخي أعمق بين 2030-2040. ان فرصة الاستجابة لاحتياجات التنمية وإرساء أسس العمل المناخي مع تحقيق فوائد انتقال منخفضة الانبعاثات مثل الكفاءة والرفاهية الاجتماعية، الوظائف، والمدخرات المالية، وما إلى ذلك، تبدأ الآن (2022) وبتكلفة اقتصادية منخفضة نسبيًا. وإذا تركنا الأرقام وحجم الأموال المتعلقة بالاستثمارات في “النمو الأخضر” في العراق جانباً، يمكن القول بأن تقرير مجموعة البنك الدولي يشير بشكل غير موارب الى ان الندم يقتل.