علاقة البيئة والغذاء.. ولادة العالم الحديث
- بلغ عدد سكان العالم 8 مليار انسان على الأرض
- البشر يستهلك أقل من النصف (48٪) من الحبوب في العالم. تذهب 41 في المئة منها لتغذية الحيوانات
لا تمرّ ساعة في حياتنا دون أخبار مقلقة بشأن مناخ كوكبنا وتأثر مصادر عيشنا بذلك، وأصبحت المجتمعات أسيرة إشعارات دائمة عبر الأجهزة النقالة، ويشير معظمها الى ما هو أسوء مما نعيشه اليوم من ناحية تأمين الغذاء. بالتالي، تقع المسألة الغذائية في قلب السجالات الدائرة حول القضايا البيئية وأزمة المناخ. وما يعينه ذلك من الدلالات هو اننا لا نتحدث عن الأزمة الأيكولوجية التي نعيشها اليوم، كظاهرة طبيعية منعزلة وتعود الى ما كانت عليه بشكل طبيعي، بل نتناولها كمحرّك لديمومة حياتنا ووجودنا على الأرض من جانب، والبصمة البشرية على التغيرات الحاصلة فيها من جانب آخر. وهو أمر، بدل إغراق المجتمعات في الأخبار المقلقة، يقتضي إعادة التفكير بسبل عيشنا والمسارات التاريخية التي قطعتها البشرية في الممارسات الزراعية وإنتاج الغذاء.
يقول المؤرخ والمفكر البريطاني كريستوفر آلن بيلي في كتاب بعنوان (ولادة العالم الحديث) صدر عام 2004، “لو كنا قد سألنا المؤرخين والطلاب المحترفين قبل خمسين عاماً عن التغيرات الاقتصادية الكبرى التي حصلت على الكوكب خلال النصف الثاني من القرن الثامن عشر، لكان الجميع على الأرجح، قد أشار الى الثورة الصناعية وبدايات مَكنُنة الاقتصاد والإنتاج في بريطانيا العظمى”.
لا يمكن لأحد ان يساوره الشك بأهمية دور الثورة الصناعية وعمليات التصنيع في الطريقة التي يعيش بها الناس في جميع أنحاء العالم اليوم، إنما خلافاً لذلك وبمنظور عالمي، لعب نوعان آخران من التغيير أدوراً اجتماعية واقتصادية وثقافية لا تقل أهمية من التغيرات الأخرى في تاريخ الأرض، على الأقل حتى حوالي عام 1830 بحسب المؤرخ البريطاني كريستوفر آلن بيلي.
تمثل التغير الأول في “اخضاع الطبيعة”. لقد مرت عشرات آلاف السنين منذ أن بدأت البشرية في التطور بدءاً من التنقل والبحث عن الطعام والترحل دون هدف الاستيطان أو احتلال الأراضي مروراً بأنشطة زراعية محدودة ثم إلى أشكال أكثر انتظاماً من استغلال الأراضي وأخيراً الزراعة المكثفة. شهد هذا الفصل في تاريخ البشرية سرعة كبيرة في استغلال الأراضي والقضاء على أنواع النباتات والحيوانات من أجل تجارة الخشب والجلد واللحوم.. الخ، ما أدى الى انهاء الأشكال الزراعية التقليدية بين الشعوب الأصلية في القارة الأمريكية بقسميها الشمالي والجنوبي، وآسيا وأفريقيا.
يكمن التغير الثاني في ان إخضاع الطبيعة جراء الغزوات الاستعمارية، فرض بدروه أشكال جديدة من الأنماط الغذائية والاستهلاك على المجتمعات وبخاصة ثقافة استهلاك القهوة اذ كانت نادرة في الثقافة الغذائية الأوروبية قبل استعمار العالم. كما أدى الاستيلاء على السكر والقهوة الى إعادة تنظيم وتكثيف العمل الزراعي والإنتاج الى حد نزع الخصوبة عن الأرض. وقد حدث ذلك ليس في أشكال الاستهلاك فحسب، بل حتى في إمكانية الوصول الى موارد وأغذية عالية الجودة من ناحية القيمة الغذائية. ولم تكن تلك الموارد متوفرة في الأسواق الأوروبية من دون وجود نظام استعماري وصل الى كل مكان على الكُرة الأرضية.
عود ثقاب
كانت التغيرات الثقافية التي نتجت عن إخضاع الطبيعة، العتبة الرئيسية للعصر الصناعي الذي يوصف غالباً بشرارة الاحترار العالمي جراء العمليات الصناعية التي نجمت عنها زيادة هائلة من الغازات الدفيئة في الجو. ففيما تم إهلاك الطبيعة وإخضاعها والاستغلال المفرط لها بدءاً مع الغزو الأوروبي للقارة الأمريكية وأفريقيا وآسيا على امتداد القرنين السادس عشر والسابع عشر، أصبح العصر الصناعي الذي تميزت به نهاية القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر، عود ثقاب يحمي الأرض على نار هادئة عبر إطلاق المزيد من الغازات الدفيئة الى الغلاف الجوي.
ونتجت عن الأنماط الزراعية والغذائية الحديثة التي للأنظمة الاستعمارية اليد الطولى فيها، الأزمة الأيكولوجية الحالية التي تهدد مصادر شربنا وغذائنا والنظم البيئية بطبيعة الحال. ولو نظرنا الى البيانات التي توفرها مراكز الأبحاث والهيئات الدولية عن مسؤولية انتاج الغذاء والزراعة حيال ما وصلت اليه البشرية، نكتشف حجم آثار انتاج وسائل الانتاج والممارسات الزراعية المكثفة على النظم الطبيعية. كما نلاحظ النتائج العكسية لذلك حيث تتأثر كميات الأغذية ونوعيتها بالتدهور البيئي الحاصل في العالم.
تُعد عمليات إنتاج الغذاء مسؤولة عن 26٪ من الانبعاثات الحراري في العالم. ويعود سبب ذلك الى استخدام نصف الأراضي الصالحة للسكن في العالم للزراعة، وذلك من دون الأراضي الصحراوية وتلك المغطاة بالجليد بطبيعة الحال.
يؤدي هذا الاستغلال بدوره الى تغذية مفرطة للمجاري المائية الطبيعية والمحيطات تبلغ نسبتها 78٪ ما يسبب الاخلال بالتنوع البيولوجي المائي لصالح الأنواع النباتية. بالإضافة الى كل ذلك، يتم استخدام 70٪ من عمليات سحب المياه العذبة لزراعة الحبوب والثروة الحيوانية، ذلك ان الكتلة الحيوية للحيوانات الثدية (الماشية) تشكل 94٪ على الأرض وتفوق بذلك الكتلة الحيوية للثدييات البرية بمعدل 15 مقابل 1. أما الكتلة الحيوية للطيور (الدواجن) فهي 71٪، أي ان المدجنات تفوق البرّيات بمعدل 3 مقابل 1.
أزمة غذاء: ما العمل وماذا نأكل؟
بالإضافة الى النمو السكاني السريع حيث بلغ 8 مليار انسان على الأرض، تعد الأنماط الغذائية السائدة بما فيها الافراط والتبذير، ناهيك بالقضاء على أنماط الغذاء المحلية (الأصلية) من قبل شركات الغذاء العالمية، مسؤولة عما وصلت اليه النظم البيئية من التدهور. تالياً، تعد طريقة تناولنا للأطعمة ومعالجة ما يزيد عن حاجتنا، وكيفية إنتاجنا للغذاء، عاملاً جوهرياً في مواجهة أزمة المناخ وسبل معالجتها. كما انها ضرورية للحد من الإجهاد المائي والتلوث، واستعادة الأراضي والغابات أو الأراضي العشبية، ناهيك بحماية الحياة البرية في العالم، وحماية البيئة.
بحسب بيانات Ourworldindata إذا تحول الجميع إلى نظام غذائي نباتي، فسنقلل استخدام الأراضي العالمية للزراعة بنسبة 75٪. سيكون هذا التخفيض الكبير في استخدام الأراضي الزراعية ممكناً بفضل تقليل الأراضي المستخدمة للرعي وتقليل الحاجة إلى الأرض لزراعة المحاصيل. ولكن يبدو هذا الحل “مثالياً” نوعاً ما ولا يخلو من ترف استعماري، ذلك ان هناك ملايين من السكان الأصليين والمجتمعات المحلية تعتمد اللحوم من أجل الحصول على البروتين والسعرات الحرارية اللازمة، انما دون الحاق الأضرار بالنظم البيئية والتنوع الأحيائي.
فهي تعيش على الطبيعة ووفق شروطها منذ آلاف السنين وتوازن بين احتياجاتها واحتياجات الطبيعة بالفطرة والثقافة المحليتين.
ولو قمنا بمقارنة واضحة بين الاحتياجات الاجمالية للحبوب في العالم، نلاحظ ان البشر يستهلك أقل من النصف (48٪) من الحبوب في العالم. تذهب 41 في المئة منها لتغذية الحيوانات و11 في المئة لإنتاج الوقود الحيوي (انتاج الوقود من الذرة في البرازيل على سبيل المثال).
ويتطلب كل ذلك 70 في المئة من المياه العذبة في العالم، بما فيه انتاج الطاقة. ولا يرتبط الأمر هنا بحاجة الإنسان لــ الغذاء فقط، بل بتلك الأنماط الاستهلاكية التي فرضها العالم الحديث على المجتمعات والمدن حيث تشكل صناعة اللحوم ملمحها الرئيسي.
تُبين لنا الأرقام المذكورة حجم الآثار التي تتركها هذه الصناعة على النظم البيئية، وكذلك الآثار العكسية التي يتركها التدهور البيئي جراء ذلك على مجمل النشاط الزراعي والغذائي، تحديداً على المجتمعات الأصلية والفقيرة.
من هنا يمكن القول بأن الجهود المطلوبة لحماية الأرض ونظامها الطبيعي، وفيه مصادر الغذاء والمياه والطاقة، لا تقتصر على مجالات الوقود الاحفوري والنقل والصناعات فقط، بل تشمل جميع المجالات الحيوية بما فيها النظام الغذائي.
قصارى القول، لا يمكن للبشرية أن تستمر على الأنماط الاستهلاكية التي فرضها العصر الصناعي وقبله عصر اخضاع الطبيعة، لأن الطريق معبدة بالمزيد من المخاطر وصارت إعادة التفكير بما نأكل ونستهلك جزءً من عصر ما بعد الحداثة، ذلك ان الآمال التي وعدتنا إياها “الحداثة” وتنظيراتها المتعددة محفوفة بالمجاعة.