مصرية أصبحت عالمة فيزياء.. تعرّف على قصة إلهام فضالي
تمتلك مصر نماذج ملهمة في شتى المجالات. تمنح تلك النماذج المصريين وغيرهم أملاً ويقيناً ليصدقوا أحلامهم، وأنهم سيصلون إليها حتماً يوماً ما، فتجدهم يتابعون أخبار النجم محمد صلاح ومبارياته وأهدافه ويتبادلون قصص طفولته وحياته ومعاناته.
قبل ولادة صلاح ببضعة أشهر، ولدت فتاة مصرية ملهمة أخرى خاضت مسيرة عظيمة في أوروبا وأمريكا وحققت إنجازات يشار لها بالبنان، ولا أبالغ حينما أقول أنها أكثر تجربة ملهمة لفتاة مصرية عرفتها في حياتي، رحلة شاقة كتبت فصولها فتاة صعيدية كان لها من اسمها نصيب.. اسم على مسمى فعلاً. إلهام.
إلهام محمد توفيق فضالي هي بطلة رياضية سابقة وعالمة مصرية وشخصية استثنائية بكل ما تعني الكلمة من معنى، حققت إنجازًا علمياً غير مسبوق وسيغير وجه التكنولوجيا في المستقبل، نشرت بحثها عن الاكتشاف الجديد في نيتشر Nature أشهر وأقوى المجلات العلمية، وحصلت على جائزة السبق العلمي في الفيزياء عام 2020 من مجلة فيزياء العالم (PHYSICS WORLD) التابعة لمعهد الفيزياء في المملكة المتحدة وايرلندا وهو نفس المعهد الذي حصلت منه على جائزة الباحث الشاب في علوم النانو تكنولوجي لنفس العام.
وحصلت كذلك جائزة أفضل فكرة تكنولوجية إبداعية عام 2020 من المجلة التكنولوجية الهولندية KIJK وجائزة السبق العلمي في مجال العلوم التطبيقية للعام 2021 من مؤسسة Falling Walls بألمانيا.
ثم حصلت على جائزة أفضل رسالة دكتوراه في جامعة آيندهوفن في هولندا. كل تلك الجوائز لم تأت من فراغ.
احتفت وسائل الإعلام المصرية والعربية والعالمية بإلهام فضالي وانجازاتها، لكنني اليوم أقدم على جزأين حكايتها من زوايا أخرى. أتطرق إلى تفاصيل وحكايات وصور ترصد معاناة حقيقية تنشر لأول مرة، نعرف من خلالها من هي العالمة المصرية إلهام فضالي عن قرب، وكيف وصلت إلى ما وصلت إليه وما الصعوبات التي واجهتها والنجاحات التي حققتها هذه العالمة الملهمة؟ ماذا عن مسيرتها الرياضية والتعليمية والتطوعية والبحثية؟ كل تفصيلة في هذه المسيرة تدعو للفخر.
حادث مأساوي
أبدأ من حيث النشأة. ولدت إلهام محمد توفيق فضالي في 9 سبتمبر عام 1991 (31 سنة) بمدينة بني سويف لأب يعمل محاسباً بالبنك الأهلي وتعود جذوره إلى قرية بني مؤمنة مركز ببا، وأم تعمل محاسبة ببنك ناصر الإجتماعي وتعود جذورها إلى قرية النويرة بمركز إهناسيا بنفس المحافظة بني سويف.
يوم 11 يوليو عام 1991 كان والدها هو وخمسة من زملائه في زيارة لزميل مريض بأحد المستشفيات بالقاهرة، في الطريق تعرضت سيارتهم لحادث وغرقت بترعة الإبراهيمية في منطقة مركز الواسطى ببني سويف قرب قرية “زاوية المصلوب“، كان حادثاً مأساوياً وحزيناً على المحافظة بأسرها. كان الأب وقتها يبلغ من العمر 35 عاماً والأم 29 عاماً.
وقت وفاة الأب الذي يكبر الأم بست سنوات، كان لديهما طفل عمره ثلاث سنوات اسمه أحمد، بينما كانت هناك طفلة بين أحشاء الأم لم تولد بعد. وضعتها الأم “أمال كساب” بعد شهرين من الحادث، وكان الأب قبل رحيله هو من اختار اسم “إلهام“، نسبة إلى جدتها لأمها.
وهبت الأم حياتها لطفليها لتكتب هي الأخرى مسيرة كفاح وعطاء عظيمة لأم وسيدة مصرية عظيمة.
الإبتدائية والتمثيل
في المرحلة الابتدائية، درست “إلهام“ بمدرسة الراهبات الفرنسيسكانيات ببني سويف وهي مدرسة عريقة، وكانت وقتها طفلة خجولة، فقررت الأم في ذلك الوقت أن تشركها في كل الأنشطة المدرسية وأن تدفعها لممارسة الرياضة بنفس قدر اهتمامها بالتعليم لتخرج الطفلة من عزلتها.
شاركت ”إلهام“ في تقديم الإذاعة المدرسية وفي قراءة آيات القرآن الكريم في طابور الصباح، وحصلت على النياشين الحمراء بعد تفوقها الدراسي في امتحانات آخر العام طوال سنوات المرحلة الابتدائية. كما شاركت في دور “زكية” الخادمة اللعوب في مسرحية أعدتها المدرسة بمناسبة مرور 100 عام على إنشائها.
رغم نجاحها ووصولها للعالمية، إلا أن بنت بني سويف الصعيدية الأصيلة، لا تنسى حتى اليوم زيارة معلميها وأصحاب الفضل في مراحلها الدراسية المختلفة. تذكرني بأسماء المدرسين الذين تركوا بصمة في حياتها في المرحلتين الإبتدائية والإعدادية وهم الأساتذة إيمان صلاح ومحمود العمري ومحمد عمر وأحمد محمود.
الموسيقى والبيانو والخط العربي
لاحظ محمود العمري مدرس اللغة العربية في الإبتدائية تميز إلهام في الخط، فنصح الأم بمنحها دروساً في الخط العربي لصقل موهبتها. تم ذلك على يد أستاذ عبدالسلام الذي تولى تعليمها خط الرقعة والنسخ. كانت تكتب بهما أبيات الشعر وآيات القرآن وتقلد عناوين جريدة الأهرام بخط يدها ثم يبروز جدها لأمها ما تكتبه ويعلقه على الحائط.
تقول لي خلال حديثي معها: “أنا أحب الشعر العربي والموسيقى الشرقية وكل ما يتصل بهما. بداية معرفتي بالموسيقى كانت عندما كنت أتعلم العزف على البيانو في ابتدائي، بدأت أتعرف على أم كلثوم ونشأتها ونبوغها منذ صغرها من وهي صييته في الموالد في الدلتا حتى وصلت لأن تكون سيدة الغناء العربي. من هنا تعرفت على مزيكا وإنشاد الشيخ زكريا أحمد، والشيخ أبو العلا محمد، وأحببت مزيكا القصبجي والسنباطي وزكريا أحمد وشعر رامي وبيرم التونسي وغيرهم، وطبعا عبد الوهاب.” تخيل طفلة بهذه العقلية والنضج!.
النحت والرسم
في أجازة الصيف، كانت إلهام وشقيقها أحمد يذهبان بصحبة الأم إلى قصر ثقافة بني سويف الذي تعرض لحريق هائل عام 2005 أودى بحياة 50 شخصاً. في نفس المكان كانت إلهام تتعلم الرسم والنحت على المعادن من الألومنيوم والنحاس، وكانت تنحت الآيات القرآنية بخطها العربي المميز، وكان جدها عليه رحمة الله، يشتري لها رقائق النحاس وغيرها من أدوات النحت والرسم من القاهرة لعدم توفرها في بني سويف.
الأولى على الإعدادية
تركت إلهام مدرسة الراهبات الخاصة، وذهبت إلى مدرسة الصفا الإعدادية بنات وهي مدرسة حكومية. كان المصححون يتعرفون على ورقة إجابتها في كنترول الامتحانات بسبب خطها المميز واستعانتها بأبيات الشعر في موضوعات التعبير. خاضت منافسات مسابقة الطالبة المثالية خلال الإعدادية ووصلت إلى التصفيات النهائية على مستوى مصر بمحافظة الإسكندرية وحصلت على المركز الرابع.
في امتحانات الشهادة الإعدادية، حصلت على المركز الأول على مستوى محافظة بني سويف، وكانت في جعبتها 4 درجات من التفوق الرياضي لكنها لم تضف إلى مجموعها حتى لا يتجاوز المجموع الدرجة النهائية. فما قصة تفوقها الرياضي وكيف حصلت على هذه الدرجات؟!.
السباحة ممنوعة في الصعيد
اختارت “إلهام” ممارسة رياضة السباحة وألعاب القوى في نادي بني سويف. كانت الأم تذهب مع طفليها ليمارسوا هم “الثلاثة” الرياضة في النادي بانتظام. استمرت في تدريبات “السباحة” حتى الصف الأول الإعدادي فقط، وشاركت في بطولة سباحة واحدة على مستوى الجمهورية حين كان عمرها ١١ عاماً ضمن بطولات المدارس وشاركت في الأولمبياد المصري الأول الذي نظمته وزارة الشباب عام 2002 ثم توقفت لأن فريق السباحة “بنات” تم إلغاء مشاركته على مستوى البطولات إلا أنها أخبرتني أن فريق السباحة عاد من جديد منذ فترة.
إمكانيات معدومة
هنا قررت “إلهام” أن تستكمل ممارسة رياضة ألعاب القوى، وتميزت فيها وبخاصة في منافسات الحواجز فردي والمركب الثلاثي (الحواجز – الوثب الطويل – دفع الجلة). تحكي “إلهام” عن تلك الفترة وتقول أنها كانت تتدرب وحدها، لم تكن هناك فتاة تمارس تلك الرياضة في بني سويف إلا طلبة المدارس الرياضية كجزء من دراستهم. خلال التدريبات التي تصاحبها فيها الأم، كانت تضع الكراسي الخشبية مقلوبة على الأرض وتربط فيما بينها بشريط من القماش لتحدد الارتفاع المطلوب وكأنها حواجز حقيقية. وكانت تبدأ الـ start من بلوكات أسمنتية لعدم وجود start جري حقيقي.
حلم اللعب في الأهلي
خلال أول بطولة شاركت فيها “إلهام” على مستوى الجمهورية، ذهبت لتسأل الحكم عن كيفية تعديل الـ start لأن ارتقائها كان ناحية اليمين، بينما زميلتها التي تسبقها كانت ناحية اليسار. لا تنسى ذلك اليوم لأن الحكم أعطاها إنذاراً بسبب هذا السؤال، ورغم ذلك تأهلت للنهائي وحصلت على المركز الرابع في الفردي حواجز وعلى الميدالية البرونزية في المركب الثلاثي.
استكملت إلهام انجازاتها في حصد الميداليات لمدة ٤ سنوات تالية، وكان مدربها في النادي يناديها باسم “هيرو” أي بطل بالإنجليزية كنوع من التشجيع، وكانت توقع اللوحات التي تكتبها أو ترسمها بنفس الاسم. في آخر بطولة لألعاب القوى شاركت فيها، كسرت هي والثلاثة الأوائل رقم مصر القياسي في الفردي حواجز مسافة ٦٠ متراً تحت ١٤ سنة. كانت الميدالية الذهبية من نصيب سلمى إمام أبوالحسن لاعبة النادي الأهلي والتي شاركت في بطولة العالم لألعاب القوى عام 2013 في موسكو ومثلت مصر دولياً وعربياً وأفريقياً بينما حصلت منافستها إلهام فضالي على الميدالية الفضية، وآية إيهاب من نادي سموحة على البرونزية.. لا تنسى “إلهام” أسماءهم حتى اليوم.
فعلت بنت بني سويف كل هذا بدون دعم يذكر، وكان السفر والمصروفات على حساب أسرتها، وتقول: “علشان طبعا ماكناش بنلعب كرة قدم يعني وطبعا كنت بألعب في نادي في الأقاليم، لكن النادي في الآخر مرضاش يديني إخلاء (استغناء) علشان ألعب في نادي محترم.” كان حلم “إلهام” كما أخبرتني أن تلعب في النادي الأهلي بصحبة منافستها في البطولات سلمى إمام أبو الحسن التي كانت إلهام تقدرها وتتعلم منها.
تشكيل الشخصية
تخبرني “إلهام فضالي” أن المرحلة الإعدادية هي التي شكلت شخصيتها بشكل عام، لأنها انطلقت فيها بصورة أكبر في الأنشطة الطلابية، وبدأت في احتراف الرياضة ودخول المسابقات والبطولات على مستوى الجمهورية. وكانت تنافس لاعبي الأندية الكبرى كالأهلي وغيرها. بالتوازي كانت تتولى رئاسة اتحاد الطلاب خلال سنوات الدراسة، بالإضافة إلى البرلمان المدرسي، وكانت عضوة نشطة في جماعة الهلال الأحمر بالمدرسة.
وتم اختيارها لتكون عضوة في مراكز التحمل لألعاب القوى وهي مراكز تضم أبرز اللاعبين الحاصلين على مراكز على مستوى الجمهورية، وبها مدربون محترفون يشرفون على التدريبات والتغذية، ولها بطولات مستقلة. يكفيك فقط أن تعرف أن الطالبة الأولى على محافظة بني سويف في الشهادة الإعدادية كانت في الأسبوع السابق لامتحان اللغة العربية موجودة في معسكر رياضي لمراكز التحمل بمحافظة أسيوط التي تبعد عن مدرستها بمسافة 270 كيلو متر تقريبا! كانت هذه هي العقلية والشخصية!.
الطالبة المثالية
توقفت إلهام عن ممارسة الرياضة بشكل إحترافي منذ دخولها الصف الثاني الثانوي بمدرسة الثانوية بنات، لتركز على الدراسة، لضعف الإمكانيات في نادي بني سويف، واستهلاك الوقت الذي يؤثر على تفوقها. لكنها لم تتوقف عن المشاركة في الأنشطة الطلابية، فكانت تشارك في الملتقى الفكري واتحاد الطلبة، وفازت بالمركز الثاني على مستوى الجمهورية في مسابقة الطالبة المثالية.
أول سفر خارج مصر
في 2006، شاركت إلهام في مشروع بريدج التابع لمنظمة دولية هي iEARN لديها فرع في القاهرة، وتتعاون مع منظمة مصرية أخرى هي الجمعية المصرية لمصادر التعليم (E.era)، وكانوا يختارون مدرسة أو اثنتين في كل محافظة ليشاركوا في المشروع الذي يعمل على تنمية مهارات الطلاب في اللغة الانجليزية ومهارات العرض وتقديم بريزنتيشن، والتعبير عن أفكارهم. وفي بني سويف وقع اختيارهم على “المدرسة الثانوية للبنات”.
تعقد المنظمة مؤتمراً سنوياً في إحدى الدول، قدمت “إلهام” للحصول على فرصة لحضور المؤتمر الدولي وأجرت مقابلة في مقر المنظمة الدولية بالقاهرة، وتم اختيارها عندما كان عمرها 15 عاماً لتمثل وفد مصر الذي يضم 10 طلاب وكانت هي الطالبة الوحيدة من بني سويف والوحيدة من مدرسة حكومية بينما باقي الطلبة من مدارس خاصة.
كانت هذه أول مرة تسافر فيها إلهام خارج مصر لممارسة نشاط طلابي متعلق بالتعليم، وكانت تحتاج معها قليلاً من المال لتغطية مصاريف السفر. يومها وقفت الأم أمام قاضي النيابة الحسبية باعتبارها الوصية على ميراث طفليها من والدهما، ولا يجوز لها السحب من الحساب بدون موافقة النيابة. يومها أخبرت القاضي لماذا تريد أن تسحب فلوس من حساب إلهام. لم يصدق القاضي نفسه أنه في بني سويف (المحافظة الصعيدية التي تفرض العادات فيها ألا تسافر الفتيات بمفردهن في هذه السن) توجد سيدة ترغب في سحب فلوس لتسافر بنت عمرها ١٥ سنة بمفردها إلى أوروبا. فيما بعد، أعادت الأم الفلوس المسحوبة مرة أخرى إلى حساب إلهام لأنها حصلت على منحة تغطي مصاريف السفر.. تكشف كل تلك التفاصيل أن والدتها كانت سيدة استثنائية هي الأخرى.
صعيدية في الجامعة الأمريكية
قبل امتحان الصف الثالث الثانوي، وصل إلى “إلهام” بريد إلكتروني من المنظمة الدولية iEARN التي شاركت معها في مؤتمر هولندا عام 2006، يخبرها بوجود منحة من الجامعة الأمريكية لخريجي الثانوية العامة من المدارس المصرية، وهي منحة ممولة من المعونة الأمريكية لمصر لـ “تنمية وإعداد القادة“، وقتها لم تكن تعرف إلهام شيئاً عن الجامعة الأمريكية سوى ما تراه في الأفلام مثل “صعيدي في الجامعة الأمريكية“، وكانت فكرتها أنها لا تضم كليات علمية. يتم اختيار طالب وطالبة من كل محافظة للقبول بالمنحة بشرط ألا يقل مجموع المتقدم عن 85 % في الثانوية العامة وأن تكون لديه مهارات قيادية ومتفوقاً في الأنشطة الطلابية.
أنهت إلهام الثانوية العامة عام 2008 بمجموع 100.1% بعد إضافة درجات المستوى الرفيع. وذهب بها تنسيق الثانوية إلى كلية الطب البشري جامعة بني سويف، بعدما درست علمي علوم في الثانوية العامة لوجود كلية للطب في بني سويف بينما لا توجد كلية للهندسة في ذلك التوقيت، كانت تخشى الاغتراب وتحب أن تبقى بالقرب من عائلتها وزملائها.
بعد ظهور نتيجة الثانوية العامة، تم قبول إلهام في منحة الجامعة الأمريكية. يتلو القبول المبدئي إجراء اختبار في اللغة الإنجليزية، واجتازته أيضا، وفي المرحلة الأخيرة تكون هناك مقابلة شخصية. في أغسطس 2008 تلقت اتصالاً من الجامعة وطلبوا منها الحضور هي وولي أمرها للتوقيع على أوراق قبول المنحة.
الصفوف الأولى في الحروب
بعد تفكير طويل، اتفقت إلهام ووالدتها السيدة العظيمة أمال كساب على أن تعتذر عن قبول المنحة وأن تستكمل دراستها في كلية الطب ببني سويف، وبعد عدة سنوات حكت لأول مرة لماذا كانت تريد دخول كلية الطب؟ فقالت: “الهلال الأحمر هو من جعلني شخصا حالما بالإنسانية دائما ولا أمّل من هذا الأمل، والحياد حتى مع ألد أعدائي وأقدم الخدمة للإنسانية فحسب، دون تفرقه على أساس عرق أو لون أو دين، وتعلمت لأول مرة ماهية التطوع وقيمته. حلمت من يومها أن أكون طبيبة كي أكون في الصفوف الأولى في الحروب والمواقف التي تحتاج إلى الإغاثة داخل مصر أو خارجها. هذا كان واحدا من دوافعي لكي أتفوق وأحصل على مجموع كلية الطب. أمنية ظلت بداخلي لم أفصح عنها أبدا من قبل لأحد.”
الموظف الذي غير حياتها
بعد حسم الأمر بدخول كلية الطب، سافرت إلهام بالفعل إلى القاهرة لتقديم اعتذار عن قبول منحة الجامعة الأمريكية، وعند وصولها وجدت استهجانا من كل الحضور في ذلك اليوم، شرحت لهم بأن تخصصها علمي علوم والجامعة الأمريكية ليس فيها كلية طب. يومها أخبروها أن الجامعة بها كلية هندسة ويمكنها الالتحاق بها! كيف تدخل كلية هندسة وهي لم تدرس علمي رياضيات في الثانوية العامة؟!.
تشعر إلهام حتى اليوم بأنها مدينة بالفضل إلى أحد الموظفين القائمين على المنحة وهو أستاذ “أحمد طه” الذي استقبلها في ذلك اليوم وطلب منها عدم الاعتذار عن قبول المنحة، واقترح عليها أن تخوض التجربة خاصة وأن الدراسة بالجامعة الأمريكية تبدأ قبل الجامعات المصرية بمدة شهر، وإذا شعرت بعدم الارتياح، فيمكنها الاعتذار. ألح عليها الموظف ونصحها بعدم تفويت الفرصة، كما أخبرها أنه يمكنها أيضاً تأجيل الدراسة في طب بني سويف. اقتنعت إلهام بنصيحة الموظف، ووقعت على أوراق التعاقد بقبول المنحة وكانت الطالبة الوحيدة التي فعلت ذلك دون ولي أمرها.
ظلت إلهام تقدم الإعتذار لمدة عامين في كلية الطب، خشية أن تفشل في كلية الهندسة لأنها لم تدرس رياضيات 2 في الثانوية، وظل اسمها موجوداً في كشوف الامتحانات بكلية الطب لعامين.
معسكر تركيا
خلال الثانوية العامة، كانت إلهام قد تطوعت في جمعية الهلال الأحمر في بني سويف، وحصلت على دورات في القانون الدولي الإنساني والإسعافات الأولية، واستكملت التطوع بها بعد دخول الجامعة، فتم اختيارها لتمثل وفد مصر في المعسكر الدولي للصليب والهلال الأحمر على مستوى العالم في تركيا عام 2009 لمدة 10 أيام وكان الوفد يضم فردين فقط من مصر.
ممثلة عن قارة أفريقيا
في مرحلة الجامعة، وتحديدا عام 2012 كانت إلهام مهتمة بمجال البيئة أيضاً وتطوعت في الأنشطة التي تقوم بها مجلة Tunsa وهي مجلة تصدر عن برنامج الأمم المتحدة للبيئة حول القضايا البيئية من منظور الشباب. رشحت إلهام نفسها في الانتخابات الخاصة بالمجلة وفازت فيها لتكون ممثلة عن القارة الأفريقية لمدة عامين وكانت تحضر اجتماعات الأمم المتحدة في نفس المجال وسافرت بسبب انتخابها إلى عدة دول، منها إندونيسيا وجنوب أفريقيا والسويد وأذربيجان.
منحة جديدة للدراسة بأمريكا
خلال دراستها في الجامعة الأمريكية، ظلت إلهام محافظة على تقدير إمتياز طوال سنوات الدراسة، وكان ذلك سبباً في حصولها على منحة أخرى لدراسة فصل دراسي كامل في الولايات المتحدة، استمرت الدراسة لمدة 6 أشهر بجامعة دركسل في فيلاديلفيا، بولاية بنسلفانيا، بالولايات المتحدة وذلك عام 2011.
كشكول ثانية ثانوي
لن تصدق أن هذه الولاية الأمريكية هي نفسها التي كتبت إلهام عنها في كشكول مادة اللغة الإنجليزية بالصف الثاني الثانوي. كانت أول ورقة في الكشكول وأرادت بث الحماس في نفسها وكتابة أحلامها فيها، فكتبت: “د.إلهام محمد توفيق.. الأولى على جمهورية مصر العربية.. عالمة الفيزياء النووية.. جامعة بنسلفانيا“.
يومها وهي في حصة درس خصوصي، لمح ما كتبته أستاذها أحمد زكي وهو في السبعين من عمره وكان يعاني من ضعفٍ شديد في بصره، ونادراً ما يشكر طالباً أو يمدحه. لكنه كتب لها بخط يده باللون الأحمر “إن شاء الله سبحانه وتعالى“. وأضاف ألفاً قبل حرف الدال. أسعدها تعليقه وتصديقه حلمها وظل يتابع معها خطوات حلمها لست سنوات تالية، رغم أنها اختارت مجالاً آخر غير الفيزياء النووية. إلا أن العالمة المصرية تقول: “ممتنة للناس الحلوة اللي بتصدق في أحلامنا حتى لو كانت خرافية وبيساعدونا ويفضلوا يشدونا لقدام“.
بذرة شريف صدقي
من الناس الحلوة التي لا تنساهم إلهام هو الدكتور شريف صدقي. عادت إلهام فضالي من أمريكا في 31 يونيو 2011 بعد الثورة. كانت لديها طاقة وتمتلك حماساً للعمل والإبداع واستكشاف مجالات جديدة. كانت تحلم بوضع مصر في يوم من الأيام على خريطة العلم والتكنولوچيا. راسلت د.شريف صدقي الرئيس الأكاديمي السابق لمدينة زويل. كان وقتها رئيس مركز يوسف جميل للعلوم والتكنولوچيا بالجامعة الأمريكية وهو المركز الوحيد في مصر وقتها الذي كان يضم معملاً نظيفاً تماماً لعلوم النانوتكنولوچي. طلبت إلهام الإنضمام لمجموعته البحثية ولم يكن تربطها به أي سابق معرفة وليس لديها وساطة أو تزكية. خلال نصف ساعة فقط، وصلها الرد وطلب منها مقابلته ووافق على طلبها وبدأت التدريب مع 4 طلاب آخرين في ٣ يوليو من نفس السنة (بعد 3 أيام فقط من عودتها من أمريكا).
في عام 2015، كتبت إلهام فضالي: “دكتور شريف صدقي بذر بذرة ربنا يعلم مدى صلاحها وصدقها لدرجة إنه عملها ورماها البحر ما يعرفش إنه بعد أربع سنين نفس المجموعة ماشية في طريقها وبتحاول تعافر بسببه. أتمنى أشوفه وأقوله شكراً من قلبي“.
إلهام AYB
عندما دشنت إلهام فضالي حسابها على فيس بوك، وضعت بجانب اسمها ثلاثة حروف هم “AYB”، ليكونوا جزءاً من اسمها، فما قصة هذه الحروف؟ هم اختصار لـ “ع ي ب” أي “علشانك يا بلادي” وهي جمعية للتنمية المستدامة بدأت فكرتها في شهر نوفمبر عام 2002، على يد مجموعة من الطلاب الجامعيين، وأشهرت رسمياً في 2005 بوزارة التضامن الاجتماعي المصرية.
انضمت إلهام فضالي إلى الجمعية عام 2008، ثم إلى مجلس إدارتها في الجامعة الأمريكية، وتحكي عن زملائها في تلك الفترة، فتقول: “الناس دي علمتني يعني ايه يبقى عندي مبادئ وقيم بتنظم حياتي وإني ما أخالفهاش حتى لو على رقبتي.. علموني يعني إيه حياتي مترتبة على أولويات ديني وأهلي وبلدي وأصحابي وشغلي ومذاكرتي وكمان حياتي الاجتماعية والترفيه ومينفعش أقصر في أولوية فيهم.. علموني ازاي أعمل توازن في حياتي“.
تضيف: ”كنت بحب أسمعهم أكتر ما أتكلم، كنت بأراقب عيونهم وانفعالاتهم. كان فيه لمعة غريبة في عيونهم وحماسهم ولا كأنهم وزراء في مجلس الوزراء وبيبحثوا حل مشاكل الشرق الأوسط . كان فيهم جدية وعناد وتصميم على النجاح زي ما يكونوا حالفين على كده . كنت أول مرة أشوف ناس بتتعصب وبتزعق لبعض وبتزعل من بعض علشان الشغل مش ماشي صح وإننا مش بنقوم بدورنا اللي ربنا قدرنا أن نكون في المكان ده علشان نعمله“.
رسالة الماجستير
قبل تخرج إلهام من الجامعة الأمريكية، كانت قد تم قبولها لدراسة الماجستير بمنحة من الاتحاد الأوروبي لدراسة هندسة علوم النانو تكنولوجي لمدة عامين (تخصص الإلكترونيات الدقيقة) في بلجيكا والسويد لمدة عام بكل دولة.
البحث العلمي والأرزاق
تقول إلهام فضالي: “مهنة البحث العلمي مش مهنة إن الواحد يبقى نجم النجوم وكل يوم حديث صحفي هنا ومقال هناك ولابسين بدل ليل نهار بنحضر مؤتمرات ونعمل لقاءات وجوائز تنهال علينا وتحقيق المجد. ولو دا حصل والشخص يستحق كل دا من كرم ربنا عليه وباجتهاده دا مش الطبيعي ومش دي الحياة اليومية للباحث اللي أغلبها عقبات وعثرات وقليل من الإنجازات اللي بتحصل بعد خبرة ووقت وعمل شاق وجهد سنوات وقد يعمل الباحث لسنوات طوال ولا يرى نتيجة جهده وتعبه ولا يُكرّم أو يُذكر حتى لو قيمة شغله مش مفهومة لسه، دي كلها أرزاق ومتقسمة ومكتوبة“.
عروض دراسة الدكتوراه
تتذكر الدكتورة إلهام فضالي الفصل الدرامي الأكثر إثارة في حياتها، عندما فكرت في بدء مرحلة الدكتوراه مع مشرفها الذي عرض عليها عرضين، الأول هو اختيار موضوع في الحوسبة الكمية quantum computing وبالأخص (quantum transport) وهو أحد موضوعات الساعة في مجال الفيزياء، وذلك في جامعة دلفت وهي أكبر وأقدم جامعة متخصصة في التكنولوجيا في هولندا. وواحدة من أفضل الجامعات في العالم في هذا التخصص.
أما العرض الآخر، فكان في جامعة آيندهوفن وهي من أفضل جامعات هولندا ولكن ترتيبها عالمياً أقل بكثير من جامعة دلفت، وكان الموضوع الذي اقترحه عليها المشرف في مجال فيزياء الضوئيات (وهو مجال كان غير مفضل بالنسبة إليها على الإطلاق لأن خبرتها فيه شبه منعدمة) والموضوع المقترح عليها من المشرف كان شبه مستحيل لدرجة أن الأبحاث فيه شبه توقفت كما أن المشروع بدأ منذ سنوات والنتائج فيه ليست مبشرة، بالتالي هناك درجة مخاطرة كبيرة.
اختارت إلهام العرض الأول، لكونه مجال تحبه وخلفيتها فيه يمكن أن تساعدها بعض الشيء، كما أنه في أفضل الجامعات، والأساتذة الذين ستعمل معهم من أهم الأساتذة في المجال وهم من وضعوا الكثير من أساسياته. هذا بالإضافة إلى أنها حاولت التقديم لدراسة الدكتوراة مع نفس المجموعة اللي عرضها عليها مشرفها عبر مشرف آخر لكن طلبها رُفض بسبب التنافسية الشديدة بين المتقدمين.
بالفعل، بدأت دراستها في العرض الأول وكانت سعيدة سعادة غامرة لتعلمها أشياء جديدة وسط عمالقة من الطلبة والدكاترة، تقول: “كنت شبه بأجري عشان حتى ألحق آخر واحد فيهم“.
الاستقالة والرجوع إلى مصر
بعد عام ونصف العام من الانتظار لوصول وتركيب الماكينة التي ستعمل عليها في المعمل، يحدث شيء غريب جداً.. تتعطل الماكينة ولا تعمل نهائياً رغم أنها جديدة تماماً وأن التمويل المخصص لمشروعها كان شبه مفتوح من الاتحاد الأوروبي وكذلك من واحدة من أكبر خمس شركات في مجال التكنولوچيا في العالم.
لم تكن المشكلة في الماكينة وحدها، تزامن ذلك العطل مع مشاكل أخرى نشبت بين أعضاء المجموعة البحثية، كان مصدرها أشخاص آخرون، تسببت تلك المشاكل في تعطيل الشغل، وصاحبها شد وجذب ومفاوضات لشهور وشهور.
بعدها اتخذت إلهام فضالي قراراً من أصعب القرارات. طلبت من مشرفها الاستقالة وعدم استكمال الدكتوراه. كان الرجل في حالة ذهول لأنه لم تكن هناك أية مقدمات وبعد ما كانت “طايرة” بالموضوع والجامعة والمجموعة التي يتمنى أي طالب دكتوراه في المجال الانضمام إليها.
استقالت إلهام. لم يكن لديها طاقة ولا ثقة في التقديم لدراسة الدكتوراه من جديد في بلد جديد ومشرفين جدد. العملية كلها كانت مرهقة لها بشكل مرعب وكان في قرارة نفسها أن ترجع إلى مصر بعد الإستقالة وتشتغل في أي وظيفة.. قالت وقتها“سكة الدراسات العليا دي مش سكتي.” فماذا حدث فيما بعد؟!.
للحديث بقية.. في الجزء الثاني نعرف ماذا حدث بعد الاستقالة وحكاية أستاذتها الجامعية التي اتهمتها بالغباء وكيف ردت عليها وتفاصيل أخرى عن المشكلات التي واجهتها ومن ساعدوها ومن أحبطوها ودور الأم في حياتها وقصصها مع الحجاب في مصر وأوروبا.