العقوبات الاقتصادية وحدها لا يمكن أن تؤدي إلى نتائج ولا تثمر في إخضاع الأنظمة المستبدة
تفترض نظرية العقوبات الاقتصادية التي تفرضها دول كبرى على دول صغيرة أن الضغط عبر المقاطعة والعقوبات سيترجم بدوره إلى ضغط على الحكومات من اجل التغيير. لكن في الأنظمة المستبدة والدكتاتورية حيث الديمقراطية غائبة لا توجد أي وسيلة يمكن للمواطنين أن يلجأوا إليها للضغط وإحداث التغيير المطلوب. وهذا يثبت أن العقوبات وحدها لا يمكن أن تؤدي إلى نتائج حقيقية ولا تثمر في إخضاع الأنظمة المستبدة.
تلجأ الدول الكبرى إلى نظام العقوبات لأجل الردع وتحقيق أهداف استراتيجية. لكن عندما تكون الدولة المستهدفة بالعقوبات دولة لا تملك تنويعا في الإنتاج والتصدير فقد لا تكون العقوبات مؤثرة. وتدرك الأمم المتحدة وكذلك الولايات المتحدة والدول الكبرى الأخرى أن العقوبات التي تصدر يكون لها تأثيرها السلبي على الناس العاديين.
قد تضعف الأنظمة من الناحية السياسية والدبلوماسية لأن ضغط العقوبات سيجعل من النظام منبوذا في الساحة الدولية لكن الأمر ليس ذات أهمية بالنسبة لتلك الأنظمة فكل ما يهمها في الأصل هو بقاؤها في سدة الحكم.
هل أثمرت سياسة العقوبات؟ هل كانت تؤدي إلى النتائج التي كانت يسعى إليها من فرضها؟ لم يحدث أن أثمرت سياسة العقوبات. فالدول الكبرى تتعامل مع دول العالم على أساس أنها تعيش حياة ديمقراطية وان العقوبات ستدفع الشعوب للثورة على أنظمتها وإجبارها على تغيير سياستها. هذا قد يحدث في الدول الديمقراطية مثلما حدث في النمسا عندا فاز مرشح النازيين الجدد في انتخابات الرئاسة فكان الضغط الأوروبي والمقاطعة الأوروبية كافيان لإسقاط الرئيس الجديد.
لكن هل العقوبات سلاح ناجح؟ فالدول التي تعاقب أو تقاطع تحكمها أنظمة مستبدة وعند فرض العقوبات تجد شعوب تلك الدول تزيد من تأييدها المعلن للنظام، مع أن ذلك التأييد يكون بالإكراه، أما النظام فلا يتأثر.
والأمثلة كثيرة على ذلك وأولها وأكثرها وضوحا كوبا. فقد حاصرتها الولايات المتحدة وقاطعتها وفرضت عليها عقوبات اقتصادية لعقود عديدة لكن نظامها السياسي لم يخضع ولم يغير من نهجه وشعبها لم ينتفض على نظامه ولم يسقطه. وهناك أيضا كوريا الشمالية، وعراق صدام حسين وسوريا وليبيا القذافي وفنزويلا وهاييتي وهناك الكثير غير هذه الدول لم تستطع العقوبات أن تغير من سياسة أنظمتها.
تؤدي العقوبات الاقتصادية في العادة إلى تخفيض دخل الدول المستهدفة ولكن ما ينتج عن ذلك ليس انخفاض دخل الأنظمة ولكن انخفاض مستوى الخدمات المقدمة للشعب وانخفاض مخصصات التعليم والصحة والتطوير والخدمات الاجتماعية الأخرى وينتج عنه زيادة أعداد الفقراء ونقص دخول العاملين من الطبقة الدنيا والمتوسطة. فالتأثير السلبي للعقوبات يطال الشعوب بينما يواصل أركان الأنظمة حياتهم المرفهة كالمعتاد.
عندما تفرض العقوبات بغطاء دولي من مجلس الأمن وبموجب الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة تكون مُلزمة لجميع الدول ومع ذلك تظل هناك استثناءات إنسانيه عادة ما يتم استخدامها لخرق العقوبات من قبل الأنظمة الدكتاتورية وغالبا لا تنجح العقوبات في فرض أي خيار على الأنظمة المستبدة.
دراسات عديدة عالجت موضوع العقوبات الاقتصادية وكانت خلاصتها أنه لا يمكن الحاق ضرر بنظام استبدادي بواسطة العقوبات الاقتصادية دون الحاق الأضرار الكبرى بالشعب الخاضع لهذه الأنظمة. وتؤدي العقوبات في العادة إلى تقوية نفوذ الأشخاص المستهدفين من أركان النظام. لذلك لا تؤدي العقوبات إلى خلق غضب شعبي على الأنظمة التي عادة ما تحكم بالحديد والنار وتعرف كيف تعيد توجيه الغضب الشعبي إن وقع نحو الدول التي تفرض العقوبات وتستخدم إفقار الشعب لإحكام قبضة الحكم عليه.
لا تتأثر الأنظمة الاستبدادية بالعقوبات الاقتصادية لأنها أنظمة لا يهمها شعبها ولا يهمها مستقبل دولها بقدر ما يهمها البقاء في السلطة. وقد نجد الشعوب جائعة وتعاني اشد المعاناة بينما ينعم النظام ورجاله في حالة رخاء واسترخاء ورفاهية. ولم يحدث أبدا أن سقط نظام نتيجة العقوبات الاقتصادية أو استجاب للقرارات الدولية نتيجة العقوبات. على سبيل المثال لم تستطع العقوبات الأميركية والدولية التي فرضت على العراق عند غزو الكويت على إجبار الرئيس صدام حسين على سحب قواته من الكويت ولم يذعن للقرارات الدولية إلا عند استعمال القوة ضده..
هل أسهمت العقوبات في تغيير ميزان القوى في بلد ما؟ النظام الإيراني فرضت عليه عقوبات بعد انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي منتصف العام ألفين وثمانية عشر ولم تغير طهران من تصرفاتها سواء فيما يخص مشروعها النووي أو دعمها للحركات والتنظيمات الإرهابية في المنطقة. الخاسر الوحيد كان ولا يزال الشعب الإيراني.
على عكس ما يريد الغرب أدت العقوبات الاقتصادية إلى تقوية النظام الإيراني الذي يستغل العقوبات لإحكام قبضته على السلطة. فالنظام الإيراني مثل بقية الأنظمة الدكتاتورية ينتعش في ظل الحصار والعقوبات لأن أركان النظام لديهم مافيات تعمل في التجارة والسوق السوداء واستمرار العقوبات هو الضمانة الأقوى لتحقيق المزيد من الأرباح.
تعزز العقوبات الاقتصادية في العادة سلطة الأنظمة المستبدة التي تعمل على خلق سوق سوداء يستفيد منها المتنفذون من رجال النظام فيظهر بمظهر بطولي على أنه يقوم بتوفير الغذاء والدواء لشعبه بينما الحقيقة أنه يتكسب من معاناة شعبه. فالتأثير الأساسي للعقوبات يقع على الشعوب أما الأنظمة فتعرف كيف تحمي نفسها وتتفادى العقوبات بل واحيانا تزدهر الأنظمة ويتعزز نفوذها الداخلي فضل العقوبات الاقتصادية ويستخدمها الحكام دليلا على انهم محقين في مواقفهم بمواجهة الدول الكبرى.
أحيانا تحرم بعض العقوبات رجال الأنظمة المستهدفة من التصرف بحساباتهم البنكية في الخارج. لكن هذا أمر لا يؤدي إلى أي نتيجة. فمعظم الأنظمة الدكتاتورية تحتفظ بكميات هائلة من الأموال النقدية. فقد جمعت إيران على سبيل المثال أكثر من مئة مليار دولار نقدا تمكنت بواسطتها من التحايل على العقوبات لتغطية وارداتها ورجال هذه الأنظمة من جانبهم لا يتعاملون بالأرصدة البنكية عبر البنوك الدولية وليس لهم أرصدة في الخارج بل يحتفظون بالمبالغ النقدية في خزائنهم وقد رأينا أمثلة على ذلك في بعض الأنظمة التي سقطت وفتحت خزائنها في القصور وكانت مكدسة بالأموال.
في جميع الحالات التي فرضت فيها عقوبات بحق دول تحكمها أنظمة مستبدة ودكتاتورية كانت الضحية هي الشعوب. لم يحدث ولا مرة واحدة أن سقط نظام نتيجة العقوبات الاقتصادية أو انتفض شعب على نظامه بسبب العقوبات. لذلك ربما حان الوقت لتبحث الدول الكبرى في وسائل جديدة مختلفة للضغط على الأنظمة وإسقاطها بدلا من إسقاط الشعوب.