وضع المكون العربي شريكاً.. شرط رئيسي بعد حل مجلس دير الزور العسكري
ليست هي المرة الأولى التي يتأزم فيها الموقف في شمال شرق سوريا ولكن هذه هي المرة الأولى التي وصلت فيها الأمور إلى الصدامات العسكرية المباشرة بهذا الشكل ما بين أبناء ينتمون لعشائر المنطقة وقوات سوريا الديمقراطية المعروفة بقسد.
دلالات هذه الصدامات هي الفراغ الكبير وسوء العلاقة وتراكمات كثيرة ما بين الإدارة الذاتية المنضوية تحت قسد وما بين المكون المجتمعي وخصوصاً في دير الزور, المنطقة الجغرافية الأكثر أهمية لكل الأطراف الدولية المتنازعة عليها.
وفي دير الزور وحدها يتواجد كلاً من التحالف الدولي وشريكه في قتال تنظيم داعش قسد، القوات الروسية، الميليشيات الإيرانية، نظام الأسد. ونشاط ليس منقطع بين الحين والآخر لخلايا تنظيم داعش الذي تم هزيمته عسكرياً في آخر معاقله في بلدة الباغوز على يد التحالف الدولي وقسد في مارس 2019.
وبتاريخ الثامن من شهر سبتمبر 2023، أعلنت قسد عن انتهاء عملياتها العسكرية في عمق ريف دير الزور الشرقي, العملية التي جاءت بعد أن أصدرت قراراً بحل مجلس دير الزور العسكري المنضوي تحت صفوفها، لتتطور الأحداث لاحقاً إلى صدامات مباشرة مع أبناء من عشائر دير الزور في مدينة البصيرة وبلدة الشحيل والحوايج، ولاحقاً في بلدة ذيبان التي تتواجد فيها مشيخة قبيلة العقيدات المتمثلة بعائلة الهفل.
العملية العسكرية .. من أين بدأت؟
مع حسم قسد قرارها داخلياً بحل كامل للمجلس العسكري واعتقال القادة المطلوبين وعلى رأسهم أحمد الخبيل المعروف باسم أبو خولة, كانت قد وضعت خطة عسكرية مكملة للخطوات الأولى وتقتضي مداهمة كافة الأفواج والثكنات العسكرية التي مسماها جميعاً تحت المجلس العسكري والتي كان يترأسها أبو خولة وهي موزعة في أرياف دير الزور الغربي, الشمالي, والشرق.
اللافت للأمر أن الريف الغربي في دير الزور والذي تتواجد به قبيلة البقارة بشكل كبير, لم يقف بشكل علني بوجه قوات سوريا الديمقراطية حينما قررت الأخيرة حل ألوية وكتائب المجلس العسكري والمنتشر أيضاً في الريف الغربي لدير الزور, لم تكن هناك انتفاضة مسلحة ضد ما تقوم به قسد.
على العكس تماماً ما جرى في الريف الشرقي وتحديداً في المناطق المقابلة لمدينة الميادين على الضفة الغربية لنهر الفرات، والميادين التي تتمركز بها القوات الروسية ونظام الأسد وميليشيات إيرانية.
مسارين.. عسكري وسياسي لقسد
قبل أن تنتهي العملية العسكرية بيوم واحد, كانت قسد واثقة من نفسها في أن هذا الصدام العسكري المباشر مع أبناء العشائر سوف يحسم لصالحها, وكانت تعمل على توجه ثاني يخفف حدة التوترات مع هذه المنطقة التي تضم أكبر عشائر شمال شرق سوريا, أرسلت وفداً من قياداتها المتمثلة بالمدعو سيماند وباران وهما قيادات كردية غير محلية, طلبوا لقاءً مع مجاميع من وجهاء العشائر في عموم دير الزور وخصوصاً المناطق الساخنة ” الشحيل – الحوايج – البصيرة ” في منطقة السبعة كم والتي تقع تحت سيطرة قسد, والاجتماع لم يحضره أحداً من عائلة الهفل أو ذويهم, وحضره وجهاء من عشيرة البكير والعقيدات بشكل مباشر وبحكم أن التواجد لهاتين العشيرتين في هذه المنطقة هو الأكثر.
في مبادرة يبدو أنها لتخفيف الاحتقان وإعادة التأكيد من قسد للجميع أنها قادرة على ضبط المنطقة من كل الجوانب بما فيها الجانب الأمني وأنها الشريك الأوحد للولايات المتحدة الأمريكية، الكوادر الكردية في الاجتماع ركزت على المرحلة التي تأتي بعد انتهاء هذه الصدامات العسكرية مع الاعتراف بالأخطاء الكبيرة التي ارتكبتها قسد في اعتمادها على قيادات فاسدة مثل أحمد الخبيل المعروف باسم أبو خولة. هذه الشخصيات الفاسدة التي كانت حجراً عائقاً في تحقيق ما يمكن أن يتم للمنطقة على حد زعم هذه الكوادر.
توسعت دائرة النقاشات بين الوجهاء وسيماند مع باران, الوجهاء المحليون أرادوا حلًا جذريًا لهذا الفراغ الكبير بين المكون المجتمعي وقسد وأن مرحلة اعتماد قسد على أبو خولة هي المرحلة الأكثر فشلاً سياسياً ومجتمعياً بل وأنها أفسحت المجال لأطراف أخرى لاستغلالها وعلى رأسهم خلايا داعش التي لم تتوقف في استغلال المنطقة للترويج للتنظيم وتواجده فيها.
كان كلاً من باران وسيماند تم إرسالهما بشكل عاجل من قبل مظلوم عبدي, وكل ما حملوه من وعود في هذا اللقاء كانت على لسان مظلوم عبدي مع تأكيدهم بأن مرحلة ما بعد أبو خولة لن تكون كما قبل, وأن العقبة الكبيرة التي كانت تواجهنا في دير الزور هي نفوذ أحمد الخبيل ومحاولته التمرد على سلطة قسد. الوعود التي تمثلت في تحسين الوضع الاجتماعي والخدمي والأمني وتفعيل دور حقيقي مع أبناء المنطقة.
ماذا عن مجلس دير الزور العسكري بعد حلّه من قبل قسد؟
المراقب للعلاقة ما بين قسد وسكّان المنطقة, لن يستطيع الحكم وبشكل متهور أن حل المجلس العسكري هو سوف يكون بديله الاعتماد على غير المكون العربي في محافظة عشائرية عربية خالصة كدير الزور.
المكون الذي كانت ولا تزال قسد تستخدمه كورقة حتى في الجانب السياسي والمحافل الدولية. فالشرط الرئيسي للسياسة الأمريكية على قسد أن تعتمد على وضع المكون العربي شريكاً معها في إدارة المنطقة وقتال تنظيم داعش, على الرغم من تسييس لهذا الملف من قبل الإدارة الذاتية في السنوات الماضية والاعتماد على الشخصيات الفاسدة وغير مقبولة مجتمعياً فقط كورقة للرد على المنتقدين. وهذا ما ثبت للجميع اليوم فيما يجري من أحداث شرق دير الزور.
في دليل آخر على سياسة قسد بالاعتماد حتى في هذه المرحلة على المكون العربي حتى بعد إقصاء أبو خولة, انتشرت العديد من المواد المصورة في العملية العسكرية والتي أوضحت بشكل مدروس مسبقاً على إشراك المكون العربي في هذه العملية العسكرية, كان إبراهيم العاصي المعروف أيضاً باسم أبو الحارث الشعيطي هو من أبرز تلك الوجوه.
العملية التي أطلقت عليها قسد ما سمّتهم بالخلايا التي تنفذ أجندات لنظام الأسد وارتباطات مع نواف البشير المتواجد أيضاً مع النظام السوري غربي الفرات والذي يعبث في مصير شرق الفرات باستمرار, هذا ما ذهبت إليه قسد في عناوين معركتها التي أطلقتها في دير الزور.
في خضم العملية العسكرية لقسد شرق دير الزور, كان أكثر المستفيدين من هذه الأحداث هو نظام الأسد والميليشيات الإيرانية بالإضافة لتنظيم داعش الذي له ثأر كبير مع المكون المجتمعي الديري.
فدير الزور كانت قد قاتلت تنظيم داعش في عام 2014 إلى أن سقطت مدينة الموصل العراقية في 8 حزيران 2014 حيث أعاد داعش الحرب من جديد على دير الزور وارتكب فيها مجازراً مروعة ولا ننسى مجزرة التنظيم بحق عشيرة الشعيطات والتي راح ضحيتها المئات من أبنائها.
ما سهّل على النظام السوري استغلال وجر الأحداث لصالحه هو الموقع الجغرافي للمناطق التي يتموضع بها غرب الفرات, والقرى والبلدات المقابلة له شرق الفرات المنتفضة ضد قسد وسياساتها.
فنظام الأسد بدأ بضخ خطاب استعطافي عشائري للعديد ممن حمل السلاح ضد قسد في هذه الأحداث, فالعدو الأول للأسد وحسب ما يسعى له دائماً هو الوجود الأميركي.
ولعل تركيز الأسد دائماً وعبر رجالاته على دير الزور بسبب تواجد أكبر وأقوى القواعد العسكرية الأمريكية وهما في حقل العمر النفطي ومعمل كونوكو للغاز.
لا يفصل بين القواعد الأمريكية ومناطق الأسد سوى ضفة نهر الفرات, لذلك فإن نظام الأسد ومعه الروس والإيرانيون يسعون جاهدين لاقتناص أي فرصة تحدث شرق الفرات في النيل من الوجود الأميركي, وهذا ما حصل في الحراك الشعبي مؤخراً.
أين باقي العشائر في دير الزور ؟
حمل السلاح من قبل أبناء العشائر في بعض البلدات في الريف الشرقي بوجه قسد لم يلاقي تأييداً كليّاً وواسعاً من أبناء محافظة ترتبط بالعرف العشائري والمجتمعي, وهذا يفهم منه أن باقي القبائل والعشائر لم ترد أن تفسح مجالاً لأطراف النظام والروس وداعش وإيران بأن يشيطنوا المنطقة لصالحهم, بالرغم أن باقي العشائر والقبائل في دير الزور هي ليست بأحسن حال ممن حاول أن يسمع صوته للجميع من خلال حمله للسلاح ومواجهة قسد.
فأبناء العشائر الذين لم يشاركوا في هذه الصدامات العسكرية, ذهبوا إلى تفضيل السيء على الأسوأ، فبالرغم من سوء سياسة وإدارة قسد في المنطقة, إلاّ أن الأخطار الأخرى تعتبر بالنسبة لهم هي أسوأ بكثير مما يمكن أن يحصل للمنطقة.
إلى أين ذاهبة المنطقة؟
مما لا شك فيه أن السيناريوهات الحالية والمقبلة للمنطقة أصبحت مفتوحة لأطراف كثيرة والغالبية من هذه الأطراف يتواجد على ضفة الفرات الغربية.
فاستغلال النظام السوري وإيران وأطراف أخرى مثل داعش لما جرى ويجري في دير الزور, لن يقتصر فقط على مرحلة الصدام الذي حصل ما بين أبناء العشائر وقوات قسد في المرحلة السابقة.
والخبر السيء أن هناك حالة تخوّف لدى السكان المحليين مما هو ما بعد انتهاء هذه العملية العسكرية, التخوّف نابع بسبب عدم التوصل إلى تهدئة أو لصيغة تفاهم منذ البداية ما بين قسد وأبناء العشائر التي يقودها الشيخ ابراهيم الهفل, والذي لا يزال يحث ممن قاتل معه في الأيام الماضية على أن يستمر في التصدي لقوات قسد ضمن استراتيجية أسماها بالاستنزاف, هذا التصعيد العسكري المقبل والمجهول ربما يخدم قسد أكثر من جوانب عديدة بما فيها الجانب السياسي الذي تستمر في تحصيله دولياً لشرعنة وجودها, لكن ماذا عسى قسد فاعلة مع إدراكها بأن الوضع الأمني المقبل لن يكون أكثر هدوءاً مما كان عليه في السابق؟
من خلال اجتماع قيادات من قسد مع بعض من شيوخ ووجهاء ريف دير الزور الشرقي أثناء سير العملية العسكرية, يبدو أن قسد لديها بدائلاً لاحتواء الموقف على الأقل مجتمعياً وخدمياً, حيث تسعى اليوم إلى إعادة ترميم العلاقة ولو جزئياً ما بين أبناء دير الزور والإدارة الذاتية من خلال إفساح المجال لشخصيات جديدة في لعب الدور في الإدارات المدنية والعسكرية,
لكن هذا كله لا يزال حبراً على ورق ولا تزال فقط شعارات وخطط موضوعة مالم يتم البدء فيها من أجل امتصاص هذا الغضب وإظهار مدى جدية قسد في المشاركة الحقيقية مع العرب وأبناء العشائر في إدارة مناطقهم وعدم الإملاءات الموضوعة مسبقاً على منطقة تقع على كف عفريت. الوعود التي أطلقتها قسد يُفهم منها أن التحالف الدولي والإدارة الأمريكية تمارس ضغوطاً خفية عليها على الرغم من عدم منع التحالف لقسد من إيقاف العملية العسكرية منذ ساعاتها الأولى.
المنطقة وبحكم موقعها الجغرافي وتعدد الأطراف المتنازعة عليها, لا تحتمل بالمطلق نوايا وشعارات من قسد بدون أفعال عاجلة ومستدامة, فلو نظرنا بتجرد لأكثر الرابحين في هذا النزاع لوجدناهم هم ذاتهم الذين غذوا النزاع في مراحل سابقة وبصوت عالٍ.
إن كانت روسيا أو نظام الأسد أو داعش أو أطراف أخرى, مما لا شك فيه أن جميعهم يهدف إلى تحقيق مكاسب سياسية في زيادة التوتر, ومعظمهم كان يرسل هذه الرسائل للطرف الأمريكي أو المجتمع الدولي بأن له وصول مباشر في شرق الفرات, وهذا شرخ كبير آخر وهو شرخ أمني ومجتمعي يدل على عدم وجود سياسة دولية صحيحة لإدارة على الأقل مناطق شرق سوريا وبالتحديد دير الزور.
اليوم الأطراف التي تبحث عن نصر سياسي, قد تمكنت من إظهاره من خلال استغلالها للوضع الحاصل شرق الفرات, بالرغم أن أهالي دير الزور كانت ثورتهم منذ 2011 هي ضد النظام السوري والأطراف المنضوية معه, لكن اختلفت السياسات من قبل النظام السوري اليوم مع وجود خصم كبير له ولإيران وهي القوات الأمريكية المتواجدة في دير الزور.
فملف العشائر أو اللعب على هذا الوتر في النيل من الأمريكان أصبح أولوية أساسية للنظام السوري وحلفائه, بينما داعش نجده شامتاً بما يجري في المنطقة بحكم أن كلا الطرفين المتحاربين هما خصمٌ له ولذلك يكتفي بالمشاهدة وانتزاع بعض الفرص لصالح خلاياه وتنظيمه.
فهل وصلت رسالة أبناء دير الزور من خلال المواجهات مع قسد ” عشائرياً”؟ أم أن قسد استطاعت احتواء الموقف و إبعاد الشيخ إبراهيم الهفل من المنطقة من أجل أن يصبح الملف العشائري بيدها ورقة كبيرة للمستقبل المحلي والسياسي؟