نظام بشار الأسد أفسح المجال لإيران بأن تتصرف دون قيود
مما لا شك فيه أن الأحداث الجارية اليوم في غزة اختبرت وكشفت قوة وضعف المحور الإيراني في المنطقة على عدة جبهات، منها الجبهات المباشرة ومنها الجبهات البعيدة.
ففي اليمن، لم يكن يتوقع أحد أن يكون لميليشيات الحوثي دورًا بارزًا في الضغط على إسرائيل والمجتمع الدولي من خلال ابتزازها للقنوات البحرية التي تمر فيها السفن الدولية، على الرغم من البعد الجغرافي ما بين اليمن وإسرائيل لكنه أصبح اليوم نقطة شائكة استدعت عددًا من الدول لتشكيل تحالف دولي بهدف تقويض عملياتها العسكرية ضد إسرائيل أو حلفائها.
الجبهة الأخرى من حلفاء إيران هي جبهة حزب الله، وبالرغم من خسائره الكبيرة منذ 7 أكتوبر وحتى اليوم، إلا أن دوره لا يزال أشبه بدور المناوشات المتبادلة ولا تتجاوز حدود الحرب المفتوحة.
حزب الله راهن ولا يزال يراهن على أن إسرائيل لن تتدخل في الجانب اللبناني، لذلك دوره مقتصر على أن يبقى أمام أنصاره بأنه معادٍ لإسرائيل، على الرغم أن كل تحركاته يتم توجيهها من قبل إيران وقيادات الحرس الثوري.
ما يعنينا أكثر في هذا المقال هو الجبهة الأهم، وهي سوريا والعراق، حيث النشاط العسكري الأكبر والأكثر تحركًا من باقي الميليشيات المدعومة من إيران.
جبهة دير الزور الأكثر استراتيجية للميليشيات المدعومة من إيران
كل المعطيات والتطورات التي حصلت في الأسابيع السابقة، عززت فكرة أبناء المنطقة حينما تحدثوا عن المشروع التوسعي الذي بناه قاسم سليماني.
المشروع الذي تعتبر بوصلته الرئيسية هي محافظة دير الزور شرق سوريا والتي تعتبر محورية بالنسبة للميليشيات المدعومة من إيران، ليس بالأمر الجديد أن هذه الميليشيات تستهدف القواعد الأمريكية في دير الزور أو عموم شمال شرق سوريا، بل زادت وتيرة الاستهداف بالتزامن مع الأحداث التي تجري في غزة منذ 7 أكتوبر.
ولكي نسمي الأمور بشكل أوضح، فإن شرارة التحرك الإيراني المتمثل بميليشيات الحرس الثوري وحزب الله وكتائب أخرى كـ(زينبيون وفاطميون وسواهم)، قد بدأت في دير الزور تحديدًا بدأ منذ قبل أحداث غزة، حينما تغلغلت هذه الخلايا في مناطق شرق نهر الفرات الضفة التي تتواجد عليها القوات الأمريكية وشريكها العسكري في قتال داعش “قوات سوريا الديمقراطية”.
استغلت تلك الخلايا الإيرانية الحراك العشائري في دير الزور ضد قسد، من جهة وفي نفس الوقت اعتمدت على أسلوب الاستهداف المباشر ضد القواعد الأمريكية مع تبني لتلك الضربات من جهة ثانية في مرات عديدة.
هذه الفرصة التي انتزعتها إيران من القوات الأمريكية هي أن الخلاف الحاصل بين قسد وأبناء العشائر، تم توظيفه بالشكل الخفي لصالح المشروع الإيراني بضرب استقرار المنطقة وزيادة الضغط على القوات الأمريكية.
فالإيرانيون همهم الأكبر من مناطق شرق الفرات هي منابع النفط والغاز وتوسيع نفوذهم في أكثر بقعة جغرافية غنية بالثروات ومتموضعة في موقع استراتيجي مهم مع العراق، الممتد لباقي الميليشيات المدعومة من إيران ذاتها.
في ضل كل هذه التعقيدات، حاول الروس ولمرات عديدة أن يضبطوا تحرك هذه الميلشيات ضد القوات الأمريكية، ليس لسواد عيون الأمريكان. بل من خشية الروس أن التصعيد المستمر سوف يهدد عرش بشار الأسد والذي هو أهم بالنسبة للروس من أي شيء آخر في عموم سوريا. فالحفاظ على بشار الأسد بالنسبة للروس هو المعادلة السياسية الوحيدة لها في المنطقة التي تبقيها هناك حتى اليوم.
أيضًا تسعى روسيا الا تخوض حربًا باردة مع الأمريكان في سوريا. وحتى أن كل الضربات الجوية الإسرائيلية والأمريكية التي حصلت في السنوات الماضية، لم يتدخل الروس فيها أو يمنعوها.
كيف بدأ التغيير الديموغرافي في سوريا؟
التبشيير بالانتماء للمذهب الشيعي هو مفتاح التغيير الديموغرافي: لا شك أنّ الحديث عن الأقليات الطائفية في سوريا كان حديثا ممنوعا نقاشه في العلن، ونحن نتحدّث عن حقبة صعود نظام البعث بالتأكيد، وكان الحديث عن التنوّع الطائفي والإثني العرقي حديثا في الشأن العام الذي لم يكن فضاء متاحا، وتعدّ حقبة الثمانينيات والمجازر التي ارتكبها جيش الأسد بحقّ الإخوان المسلمين من الفترات التاريخية الحسّاسة التي تلتها حالة رعب من الخوض في موضوعات مرتبطة في الدين، فلا حديث عن السلفية ولا تخصيص للحديث عن أهل السنة والجماعة ولا طوائف أخرى من قبيل العلوية والدروز والإسماعيلية ولا حتى الشيعة.
وكانت الخطابة الدينية مقيّدة إلى موضوعات محدّدة في الدين واقتصرت على موضوعات غير ذات طابع إشكالي من قبيل (أركان الإسلام – حلاوة الإيمان – البر والتقوى) وفي أحسن الأحوال عن الأمور الحياتية اليومية.
لذا كانت الهويات الدينية الأقلّوية كالشيعة غير متاحة للحديث عنها قدحا أو ذما أو مديحا لغير أهله، والمقصود بهم من أتاح لهم النظام التحرّك في فضائه أو التبشير به.
أما تاريخيا فإنّ جذور التشيّع في سوريا فتعود إلى القرن الأول الهجري، إلا أنّه أخذ في الانتشار في القرن الرابع الهجري، مع سيطرة الدولة الحمدانية الشيعية على حلب، واستمرت خلال عهد الدولة الفاطمية، إلا أنّها انحسرت مع بداية الدولة الأيوبية والعثمانية بسبب محاربتهم لها، إلى أن أصبح الشيعة الإثني عشرية بحلول القرن العشرين، أقلية صغيرة للغاية في سوريا.
ومع أنّ القرن العشرين شهد في بداياته وتحديدا في العام 1925 حِراكا في اتجاه نشر التشيّع على يد عالمٍ ديني يُدعى عبدالرحمن الخيّر، إلا أنّ الحِراك لم يكن مُجديا وذا أثر إلا بعد صعود حافظ الأسد وتسلّمه مقاليد الحكم وانقلابه على رفاقه البعثيين الذين تسلّموا مقاليد الحكم منذ بداية الستينيات، وتحديدا مع زيارة “موسى الصدر” في عام 1974، إلى شيوخ الطائفة العلوية في المنطقة الساحلية من البلاد.
وقد سبقه “آية الله الشيرازي”، الذي أصدر الفتوى الشهيرة، والتي تفيد أنّ أهل تلك المنطقة ينتمون إلى الشيعة الإثني عشرية ومع أنّ العلوية لا يعتبرون أنفسهم شيعة إمامية إثني عشرية، إلا أنّهم يعدّون من الفرق الباطنية الشيعية، ويذكرهم الشهرستاني صاحب “الملل والنِحل” 6 باسم النصيرية، وهو الاسم الذي استخدمه الباحثون المسلمون، إلا أنّهم لا يُعرفون إلا باسم “العلويّة” ويُحصيهم الشهرستاني ضمن غلاة الشيعة، إلا أنّ الواضح والجلي هو أنّ العلويين يرفضون أن يتم لصقهم بالشيعة الإثني عشرية.
ويبدو أنّ فتوى الشيرازي وتوجّه العلويّة الذين صاروا يمتلكون زمام الأمور في الدولة السورية، كان له الدور الأبرز في صعود ملفّ التشيّع، لكن لم تتحوّل إلى أعداد كبيرة إلا بسبب أنشطة “جميل الأسد المكثفة“، الشقيق المتديّن لـ”حافظ الأسد”، وذلك خلال فترة ثمانينات القرن العشرين.
فقد بدأ “جميل الأسد” بتشجيع التحوّل إلى المذهب الشيعي في المنطقة نفسها، وبخاصة بين أعضاء الطائفة العلوية (وكان لتأسيس جمعية المرتضى من قبل “جميل الأسد دور في نشر التشيّع بتركيز أكبر بين أبناء الطائفة العلوية بغاية إظهار أنّ العلويين ينتمون إلى المجتمع الأكبر من الشيعة وليسوا أقلية، ونشطت كذلك في مناطق متعدّدة أخرى في سوريا.
وعقب قمع النظام العراقي للشيعة في بداية التسعينيات، توجّه العشرات من الشخصيات الشيعية إلى دمشق ومارست نشاطا شيعيا دعويا شبه رسمي، وبضوء أخضر من الأسد، وافتتح آية الله محمد حسين فضل الله، مكتبا في حي السيدة زينب في دمشق للتشيّع، ومنح مساحة من الإعلام لنشر التشيّع حيث تم بث برنامج للمبشّر الشيعي العراقي “عبدالحميد المهاجر”.
فيديو متداول من أحد ضواحي العاصمة السورية دمشق
ولمعرفة كيف لا يتدخل نشاط الأسد في النشاط الثقافي والديني لإيران في سوريا
إليكم الرابط:https://t.co/VuYvkn9TwA#أخبار_الآن#سوريا #دمشق pic.twitter.com/bYQVi0o1G1— Akhbar Al Aan أخبار الآن (@akhbar) February 2, 2024
وقد أخذ التشيّع منحى جديدا بعد أحداث تموز في جنوب لبنان، والتي أظهرت حسن نصر الله الأمين العام لحزب الله اللبناني بمظهر البطل في الإعلام السوري وقاهر إسرائيل، حيث إنّ فئة من الناس لم تعد ترى حرجا في الالتفات والانتقال إلى التشيّع.
إلا أنّ التشيّع والتبشير به أخذ أبعادا أخرى بعد التدخّل العسكري الإيراني في الصراع السوري المسلّح، بعد أن ساعدت حكومة إيران النظام السوري في النيل من المحتجّين السلميين وقمع الاحتجاجات.
ومنذ العام 2012، تطوّر الشيعة في سوريا على الصعيد المؤسّسي، عبر سلسلة خطوات بدءًا من إطلاق حركات كشفية خمينية، في حمص ودمشق مثلًا، وصولًا إلى إنشاء سلطة دينية خاصة بالطائفة، تتمثّل بالمجلس الإسلامي الجعفري الأعلى في سوريا الذي تأسّس في العام 2012، في خطوة مُستلهَمة من المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى في لبنان.
ظهرت هذه المؤسسات في الوقت نفسه تقريبًا مع بدء التدخلات من جانب إيران وحزب الله وشيعة العراق في النزاع السوري.
دير الزور على خريطة النفوذ الإيراني وعلاقته بالتشيّع والتغيير الديموغرافي
لدير الزور أهمية كبرى بالنسبة لإيران، منذ السنوات الأولى لتدخلها في دعم نظام بشار الأسد، وأهمية دير الزور بالنسبة للإيرانيين لها أسباب كثيرة منها عسكرية وسياسية وحتى عقائدية ضمن مشروع إيران التوسعي في المنطقة.
فهي امتداد لهم في العمق الجغرافي الواصل بين سوريا والعراق باعتبارها محافظة على الحدود السورية العراقية، هي امتداد لهم من أجل حركة العبور بينها وبين مناطق تمتلك فيها أذرعا وملفات استراتيجية، وطريق العبور هذا هو طهران، بغداد، دمشق، بيروت، أي على خطى تنفيذ مخطّط الهلال الشيعي، وقد كثّفت من تواجدها في دير الزور، حيث تنشط فيها العديد من الميليشيات التي تتبع لها هناك.
منذ نهاية 2018 بدأ النفوذ الإيراني في شمال شرق سوريا يزداد في جوانب كثيرة، ولا يقتصر فقط على تقوية وتعزيز الجانب العسكري في تلك المنطقة الأكثر استراتيجية بالنسبة لهذه الميليشيات.
تطور الأمر لفتح الحدود بين حلفاء إيران في العراق وحلفائها في سوريا. وأصبحت المعابر البرية بشكل مباشر تنقل المئات ممن يسمون بالحجّاج والذين يأتون ضمن وفود سياحية لزيارة الأماكن الدينية التي تتبنى الجهات الدينية الشيعية في العراق تنضيم هذه الزيارات. بشكل مباشر الزيارات المتكررة إلى العاصمة دمشق وعدد من أحياء العاصمة بما فيها منطقة السيدة زينب.
حتى بعد اغتيال قائد فيلق القدس قاسم سليماني، ازداد النشاط الثقافي والديني ما بين العراق وسوريا. فنظام الأسد لا يتدخل في هذه الشؤون بالمطلق، ووجوده هو تحت مظلة الميلشيات الإيرانية والحماية الروسية.
أفسح نظام الأسد المجال لإيران بأن تتصرف دون قيود في عديد من المجالات، حتى وصل بهم الحد أنهم أصبحوا ينافسون الروس داخل المناطق أو المحافظات التي يتواجد بها كلا الطرفين.
فبشار الأسد وبالرغم من العلاقات التاريخية مع الروس، إلا أنه لا يضمن بقائه في السلطة إلا بوجود الإيرانيين الذين دخلوا إلى سوريا منذ السنوات الأولى للثورة السورية وقبل حتى تدخل الروس في سوريا.
النفوذ الإيراني أصبح غير محدودًا في قلب دمشق، وما نشاهده اليوم من تحكم هذه الميليشيات الإيرانية بمفاصل الدولة السورية هو خير دليل على ذلك.
المشروع الإيراني أساسه مبني على وصل هذه الميليشيات التي تدعمها إيران، ببعضها البعض وتفعيل الضغط الجماعي على إسرائيل من جهة وعلى الولايات المتحدة من جهة أخرى.
لم يعد الموضوع محصورًا بغزو ثقافي شيعي يقوده رجالات الدين الشيعيين سواء العراقيين منهم أو الإيرانيين، ولم يعد الموضوع يتعلق بطمس معالم الهوية السورية وهوية دمشق العاصمة الأقدم في العالم. بل أصبحت كل هذه الأجندات هي ضمن أولوية المشروع الإيراني في اللعبة السياسية وحتى التي لا تقتصر على إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية، بل الضغط على الدول المجاورة وعلى دول الخليج العربي بشكل مباشر.