ماهر القاضي.. قصة شاب ملهم حفر اسمه بأحرف من نور في سماء العلم
في الجزء الأول عن رحلة العالم المصري «ماهر القاضي»، تحدثت عن نشأته وعمله في الفلاحة والبقالة ومصانع الطوب، والصعوبات الحياتية التي واجهته، والتحولات المنطقية واللامنطقية في حياته، والأشخاص الذين تأثر بهم وغيروا مستقبله، وصولًا إلى الحصول على الدكتوراه من أمريكا وزواجه من تلميذته سابقًا وزميلته حاليًا ورفيقة رحلة كفاحه الدكتورة «نهلة بيومي». لكن في الجزء الثاني سنتعرف أكثر عن الاختراعات التي أنجزها والتي تزيد عن 200 براءة اختراع، وخريطة توزيعها في بلدان العالم المختلفة.
بجانب كل تلك الانجازات كانت هناك ومطبات وعثرات، فهذا العالم المصري الكبير مفصول من جامعته المصرية وكان مطالباً بسداد 9 ملايين جنيه، بل كان متهما وأقامت الجامعة دعوى قضائية ضده، فما القصة والحكاية؟! هذا ما سنعرفه في الجزء الثاني، كما نتعرف أيضًا على حكاية فص الماس الذي فقده في حقيبة السفر خلال عودته من أمريكا إلى مصر، ورحلة عذابه مع قرية البضائع المصرية من أجل بعض الكتب والمعادن، وحكايات أخرى تكشف لنا عن سيناريو عظيم لقصة شاب ملهم حفر اسمه بأحرف من نور في سماء العلم في العالم بأسره.
أكثر من 200 براءة اختراع دولية
بعد سبع سنوات من التعب والمعاناة والعمل الجاد في أمريكا، كانت في جعبة «ماهر القاضي» 10 براءات اختراع دولية مسجلة باسمه حتى سبتمبر 2016. وهذا عمل ضخم وكبير، وفي عام ٢٠١٨ وحده توصل «ماهر القاضي» ومجموعته البحثية إلى مجموعة من الاكتشافات العلمية تم الإعلان عنها في دوريات علمية كبرى يصل مجموع معامل التأثير فيها إلى ١٨٠ نقطة وهو رقم عادة لا يتحقق إلا لباحث واحد من بين ١٠ آلاف باحث. هذه الأرقام تؤكد أن «القاضي» واحد من أهم علماء الكيمياء وعلوم النانو وهندسة علوم المواد في مصر.
واليوم، بعد ما يزيد عن 14 عامًا قضاها في أمريكا منذ قدومه إليها في 2009، تمكّن الدكتور «ماهر القاضي» من ترسيخ مكانته كمخترع متميز، محققًا إنجازًا غير مسبوق بتسجيله أكثر من 200 براءة اختراع عالمية. وامتدت ابتكاراته عبر مجالات متنوعة تستهدف مواجهة التحديات الرئيسية في عصرنا، بداية من تطوير مصادر طاقة مستدامة إلى الارتقاء بمستوى الرعاية الصحية.
براءة الاخترع
ولأن العالم يدار بمنظومة وقوانين لحماية حقوق الملكية الفكرية، فإن براءة الاختراع هي الوثيقة التي تمنح للمخترع الحق في استغلال اختراعه على الوجه الذي يراه في مدة زمنية محددة وتمنع الآخرين من استغلال الاختراع إلا بعد الحصول على موافقة المخترع.
وكل دولة لها قانونها الخاص بها، وبالتالي لا تحفظ براءة الاختراع المحلية حقوق المخترع إلا في الدولة ذاتها. ولهذا اجتمعت المؤسسات الرسمية للعديد من الدول في واشنطن عام 1970 وتم التوصل إلى اتفاقية دولية تسمى PCT أو براءة الاختراع الدولية.
ويشرف على تنفيذ هذه الاتفاقية المنظمة العالمية للملكية الفكرية التي تسمى اختصارًا WIPO وهي مؤسسة رسمية تابعة لمنظمة الأمم المتحدة في جنيف بسويسرا.
عملية تسجيل براءة اختراع دولية طويلة ومكلفة أيضًا، وبالتالي يتولى هذا الأمر هيئات علمية كبيرة مثل الجامعات، حيث لا يستطيع الفرد تحمل المصاريف المطلوبة. وأيضًا لابد من كتابة الاختراع بصيغة قانونية عن طريق محامٍ متخصص في كتابة براءة الاختراع. وبالتالي يحتاج الأمر إلى فريق كبير مكون من المخترع أو مجموعة المخترعين بالإضافة إلى مكتب المحاماة المتخصص وفريق من الجامعه المعني بحقوق الملكية الفكرية. وبعد أن يتم تجهيز براءة الاختراع بالصيغة القانونية تبدأ خطوات التسجيل والتي عادة ما تصل إلى عدة سنوات.
خريطة اختراعات القاضي
توزعت إنجازات الدكتور «ماهر القاضي» البارزة في عالم الاختراعات عبر خارطة العالم بأسره، حيث سجل 46 براءة اختراع في الولايات المتحدة الأمريكية، و18 براءة اختراع في كندا، ومثلها في أوروبا، إلى جانب 18 أخرى في اليابان.
ولم تتوقف إسهاماته عند هذا الحد، بل امتدت لتشمل 16 براءة اختراع في كل من كوريا والصين، ولديه 72 براءة اختراع أخرى مسجلة في باقي أنحاء العالم وهو ما يؤكد على قدرته على ترك بصمة واضحة في مجالات علمية وتكنولوجية متعددة عبر قارات العالم. يكشف مسار الدكتور القاضي عن رحلة استثنائية من الابتكار والتأثير العلمي، تُبرز تنوع وعمق إسهاماته الرائدة التي تسهم في مواجهة التحديات العالمية وتقديم حلول عملية للمشكلات المعقدة التي يواجهها العالم اليوم.
تطبيقات في مجالات الحياة
من بين ابتكاراته البارزة، اختراعات في مجال تخزين وتوليد الطاقة، مثل البطاريات والمكثفات الفائقة، التي تعد بتحويل طريقة تزويد عالمنا بالطاقة من خلال تقديم بدائل أكثر كفاءة، ومتانة، وصداقة للبيئة لمصادر الطاقة التقليدية. تُبشر براءات اختراع الدكتور القاضي في مجال الطاقة الهيدروجينية والسيارات الهيدروجينية بمستقبل لوسائل النقل النظيفة، الخالية من الوقود الأحفوري.
وفي مجال الرعاية الصحية،قد تقدم أجهزته الطبية القابلة للزرع حلا ثوريا لتحسين نوعية حياة المرضى الذين يعانون من الحالات المزمنة. بينما يفتح عمله على مولدات النانو للإلكترونيات القابلة للارتداء أبوابًا جديدة لدمج التكنولوجيا مع البيولوجيا البشرية، وقد يمهد الطريق للتقدم في الرعاية الصحية الشخصية.
بالإضافة إلى ذلك، امتدت إسهامات الدكتور القاضي لتشمل حماية البيئة والمراقبة البيئية، حيث تُظهر براءات اختراعه في تنقية المياه والتمثيل الضوئي الصناعي جهودًا كبيرة للتصدي للتلوث ومواجهة تغير المناخ. أحدثت ابتكاراته في مجال الاستشعار الكيميائي والبيولوجي، إلى جانب الإلكترونيات المطبوعة والمواد اللاصقة الموصلة، ثورة في الصناعات من خلال تمكين عمليات تصنيع أكثر تنوعًا وكفاءة.
كما أن عمله على مواد وأجهزة حماية من التداخل الكهرومغناطيسي حاسم لضمان موثوقية وسلامة المعدات الإلكترونية في عالم يزداد تقدمًا رقميًا. من خلال هذا الطيف الواسع من البراءات، يؤكد القاضي على قوة العلم في تشكيل مستقبل أفضل للبشرية.
أفضل قائد مؤثر وأفضل مدير
كل هذه الانجازات وبراءات الاختراع، جعلت «ماهر القاضي» ضمن قائمة أفضل 10 قادة مؤثرين لعام 2023 من مجلة Iconic Express Magazine، وقائمة أفضل 10 مدراء التكنولوجيا التنفيذيين لعام 2022 من مجلة C-Level Focus Magazine، وهو أول باحث عربي يحصل على جائزة الباحثين الشباب المقدمة من دورية “إنيرجي ستوريج ماتيريالز”. كما تم تكريمه كواحد من الموهوبين الـ 12 من قبل الجمعية الكيميائية الأمريكية والتي تسلط الضوء على مجموعة من العلماء الشبان الذين يتناولون أصعب المشكلات في العالم باستخدام الكيمياء. وحصل «القاضي» على جائزة الابتكار من معرض الالكترونيات الاستهلاكية وهو أكبر معرض للتكنولوجيا في العالم كما أنه عضو في المجلس الاستشاري لبرنامج الهندسة في جامعة كاليفورنيا في سانتا باربرا، واختيرت إسهاماته العلمية باعتبارها مثالًا بارزا على اهم الاكتشافات العلمية السنوية التي تمت في جامعة كاليفورنيا، وتم عرض بعض أعماله البحثية في كتاب الكيمياء للمؤلفين ريموند تشانج وكينيث جولدسبي، أي أن أبحاثه العلمية تدرس للطلاب الجامعيين في جميع أنحاء العالم.
اختراع مشترك لأربعة مصريين
من بين الأبحاث التي شارك فيها «ماهر القاضي»، بحث عن مستشعرات مقاومة للحريق يمكن أن تستخدم في تتبع حركة رجال الإطفاء وإرسال إشارة إنقاذ لاسلكية اذا ما تعرض العمال للخطر. كان البحث ثمرة تعاون بين أربع جامعات في أمريكا وكندا وأوروبا بقيادة أربعة مصريين، وهم الدكتور عبد السلام أحمد والدكتور إسلام حسن والدكتور أيمن نجم، والدكتور ماهر القاضي. ونشرت الصحف عنه في ذلك الوقت.
يمكن زرع هذه المستشعرات في حذاء رجال الحريق حيث لا يزيد حجمها على عملة الجنيه المعدن وبإضافة وحدة صغيرة من البلوتوث يمكن لهذا الجهاز إرسال إشارة استغاثة إذا ما تعرض العامل للخطر.
تعتمد فكرة المستشعر على إنتاج إشارات كهربية تعتمد في قيمتها وسلوكها على حركة العامل الذي يرتديها حيث تستطيع من خلال تحليل الإشارة الكهربية التمييز بين حركة العامل في المشي والجري والقفز والسكون أو ما إذا كان العامل مستلقي على الأرض. وهذا الاكتشاف يكون له تطبيقات عديدة للعاملين في مجال البترول والإطفاء وصناعة الزجاج والصلب و التعدين و حتى ربما تكون مفيدة في الفضاء.
إنتاج كهرباء من الثلج
ومن الاختراعات المهمة التي شارك فيها «ماهر القاضي» مع باحثين مصريين أيضاً ومع مشرفه ريتشارد كانر هو اختراع جهاز يستطيع استخلاص الشحنات الكهربائية من الثلج وتوليد الكهرباء وهو الجهاز الأول من نوعه من تبادل الإلكترونيات.
تم هذا الاكتشاف بالتعاون مع الباحث الرئيسي عبدالسلام أحمد، بجامعة تورنتو بكندا، وعدد من الباحثين المصريين الآخرين وهم إسلام حسن من جامعة ماكماستر بكندا، ود. إسلام موسى من جامعتي كونيكت الأمريكية، وطنطا المصرية، وإسراء الصناديدي من جامعة كونيكت أيضاً.
تأسيس شركة خاصة
عندما قرر «ماهر القاضي» مع ريتشارد كانر أستاذه ومشرفه الشهير بجامعة كاليفورنيا، وچاك كافانا وهو طبيب ورجل أعمال له تاريخ طويل في إنشاء الشركات الناجحة، تأسيس شركتهم الخاصة سنة 2014 باسم «نانوتك انرجي». احتاجوا 10 سنوات كاملة لتطوير البطاريات الخارقة من الجرافين، ووصل عددهم الآن في الشركة إلى 100 فرد والبطاريات بدأت تصل إلى خط انتاج بعد فترة طويلة من البحث والتطوير حتى تصل تلك البطاريات للعملاء. وبدأوا في العينات الأولى ومتوقع البدء في المبيعات الأولى منها مع نهاية عام 2024.
إنتاج أول بطارية
يحكي ماهر القاضي عن هذا الإنجاز، فيقول: «الحمد لله على مدار أكثر من ١٠ سنوات، كان لفريقنا في جامعة كاليفورنيا السبق في ابتكار طرق عديدة وفعالة لإنتاج الجرافين.
حديثاً قامت شركة “نانوتك اينرچي” التي أتشرف بأني عضو مؤسس ورئيس فريق الأبحاث فيها، قامت بالفعل بإنتاج أول بطارية عملية مصنوعة من الجرافين وذلك بعد مجهود أكثر من ٤ سنوات. بطارية الجرافين الموجود بالصورة لها نفس حجم البطارية التي تستخدم في أجهزة اللاب توب وكذلك السيارات الكهربية ولكن بالطبع لها كفاءة أعلى بكثير.»
يمهد هذا الاكتشاف الطريق لإحداث ثورة تكنولوجية مهمة في مجال البطاريات، والمكثفات، وعمليات تنقية المياه والشاشات الإلكترونية، والأحبار الوظيفية، والإلكترونيات المرنة والمطبوعة، والخلايا الشمسية وفي المجال الطبي وكتير من التطبيقات الصناعية الاخرى. ونشرت الخبر أسوشيتد بريس.
نماذج من الاختراعات
من الاختراعات المهمة التي توصل لها «ماهر القاضي» اختراع جهاز نماذج مكثفات سوف يحدث ثورة في عصر الإلكترونيات لعمل نماذج مختلفة لمكثفات أصغر وأكثر كفاءة وتم نشره في مجلة Joule أشهر المجلات في مجال الطاقة في العالم.
ومن الاختراعات أيضا، تطوير جيل جديد من البطاريات التي تعتمد على الزنك بدلا من الليثيوم، مما يمهد لطفرة في مجال الطاقة المتجددة.
أكبر صفقة وأول كتاب
في أكتوبر 2022 وقعت الشركة التي أسسها «ماهر القاضي» وشركائه أول صفقة كبيرة مع شركة Smile Energy لتشغيل أول أنظمة تجارية لتخزين الطاقة بشكل ثابت للعديد من الجزر اليونانية و لديها حاليا 300 ميجاوات من مشاريع الطاقة الشمسية في اليونان وبلغاريا ورومانيا، إلى جانب 700 ميجاوات ساعة من تخزين الطاقة قيد التطوير في نفس المنطقة.
وفي نوفمبر 2022 افتتح «ماهر القاضي» وشركاه والمبنى الجديد يتم استخدامه كخط إنتاج لبطاريات الجرافين. ومع نهاية آخر أيام 2022 انتهى ماهر القاضي من مسودة كتابه الأول والذي اختار له عنواناً مؤقتاً الغرافين والثورة الصناعية الرابعة.
لأول مرة في تاريخ أمريكا
في سبتمبر 2023 ولأول مرة في تاريخ أمريكا، تعاونت شركة «ماهر القاضي» (Nanotech Energy) مع أكبر شركة لإنتاج الكيماويات في العالم (BASF) لتصنيع البطاريات باستخدام المعادن المعاد تدويرها.
جائزة عالمية
وفي ديسمبر 2023، فاز «ماهر القاضي» بجائزة عالمية في مجال البطاريات وتخزين الطاقة. الجائزة مقدمة من مجلة Energy Storage Materials وهي دورية كبيرة تابعة لدار النشر العالمية إلسيڤير ومعامل تأثيرها 20.4. الجائزة لها مصداقية كبيرة في المجال، وقد فاز بها في العام قبل الماضي أكيرا يوشينو الفائز بجائزة نوبل في الكيمياء 2019 عن اختراع بطاريات الليثيوم بالمشاركة مع جون جوديناف وستانلي ويتنجهام.
اهتمام إعلامي عالمي
مع كل بحث واكتشاف مهم لـ «ماهر القاضي»، كانت وسائل الإعلام في أمريكا والعالم كله تسلط الضوء عليها مثل ونوفا ساينس شو، ولا ينسى القاضي حواره عن الجرافين مع غرانت ايماهارا وكان أسطورة تخصصه في الهندسة الكهربية وممثل ومقدم برامج تليفزيونية شهير في أمريكا.
وهناك سلسلة من الأفلام العلمية التي عرضتها قنوات BBC Earth في أوروبا والشرق الأوسط وقنوات PBS في أمريكا. السلسلة بعنوان Breakthrough: the ideas that changed the world بصوت الفنان الإنجليزي الشهير باتريك ستيوارت.
السلسلة مكونة من ٦ أجزاء وتحكي قصة مجموعة من أهم الاختراعات في التاريخ البشري وهي التلسكوب والطائرة والروبوت والسيارة والصاروخ والهاتف الذكي. وفي نهاية الفيلم قدم القاضي رؤية مجموعته البحثية.
الكتب والمعادن في قرية البضائع
ذكرت في الجزء الأول أن «ماهر القاضي» عادة ما يهدي أبحاثه واختراعاته الكبيرة إلى وطنه «مصر»، وارتباطه بالوطن وأرضه وقريته وجامعته كان وثيقًا وكبيرًا، وفي كل مرة كان يعود فيها للوطن، يذهب للجامعة ويزور أساتذته وزملاءه.
«مصر هي الدولة الوحيدة اللي لو رجعت لورا تتقدم، وكل ما أحس بالإحباط أرجع أسمع نشيد اسلمي يا مصر اللي اتعمل بعد ثورة ١٩١٩ ودستور ١٩٢٣. أنا بأعتبره أجمل نشيد وطني في تاريخ مصر وكتبه مصطفى صادق الرافعي.» بهذه العبارات يلخص «القاضي» علاقته بمصر التي يتابع مباريات منتخبها الوطني لكرة القدم ونجمه محمد صلاح في ليفربول، ويشجع أكبر أنديتها النادي الأهلي.
بعد حصول «ماهر القاضي» على الدكتوراه عام 2013، أراد أن يكون ايجابيًا، وقرر نقل تجربته في التدريس والبحث في جامعة كاليفورنيا والمعروف عنها أنها من أكبر الجامعات في العالم، فأرسل وقتها مجموعة كبيرة من الكتب والأدوات التعليمية كان قد جمعها على مدار أربع سنين، وكان من بينها مجموعة من المعادن، على هيئة شحنة من جامعة كاليفورنيا إلى جامعة القاهرة عن طريق بريد دولي معروف. وكان من المفترض أن تصل الشحنة إلى مصر بعد وصوله بيوم واحد، وكلفه هذا الأمر 5000 دولار من جيبه الخاص.
ثم حدثت المفاجأة، ولم تصل الشحنة وتم حجزها في قرية البضائع وطالبوه بتقديم ما يثبت أنه مدرس في الجامعة وأن الكتب للتدريس لا لشيء آخر. أحضر «ماهر» ما يثبت فعلا أنه مدرس بالجامعة لكن عند فحص الشحنة وجدوا المعادن التي لا يزيد ثمنها عن ٢٠ دولاراً وقد أطلع المفتشين على فاتورتها. لم يقتنع الموظفون وشكلوا لجنة وطالبوه باحضار مستند جديد من الجامعة يثبت أنه مدرس بها!
بعد حوارات طويلة، ومجهود حوالي ٣ أشهر ما بين قرية البضائع والجامعة، تم تشكيل لجنة من الخبراء لفحص المعادن والكتب وتم الإفراج عن المجموعة بعد تحديد الجمارك ودفع الفلوس.
يقول «ماهر القاضي» عن ذلك الموقف: «على فكرة في العالم كله مفيش جمارك على الكتب، بس في مصر لازم تدفع. وطلعت من قرية البضائع وأنا لسان حالي بيقول أنا الحق عليا إني فكرت إني أعمل خدمة في البلد دي وأدفع من جيبي الخاص الآلاف من الدولارات علشان أحاول أغير في منظومة تعليمية وإدارية فاشلة. دي بس عينة بسيطة من اللي حصل معايا في مصر. وكانت دي البداية، بداية إعادة التفكير في كل اختياراتي وخططي المستقبلية.”
البونبوني الأغلى في العالم
من المواقف الطريفة التي قابلها ماهر القاضي خلال نفس الزيارة إلى مصر هي حكايته مع الالماس والبنبوني. كانت أول مرة يزور فيها مصر بعد أكثر من سنتين ونصف من الانقطاع لانشغاله بمناقشة الدكتوراة. اشترى فصًا صغيرًا من الألماس ليهديه إلى خطيبته آنذاك «نهلة بيومي» التي أصبحت زوجته فيما بعد، وأثناء تجهيز الشنط وضع «الفص» في حقيبته الكبيرة، وعندما وصل إلى المنزل، لم يجد الفص، ووجد مكانه بونبوني مصري لذيذ! وكان هذا أغلى بنبوني أكله في حياته! كانت هذه هي الرسالة الأولى في الزيارة قبل حوار الكتب وروتين قرية البضائع. يقول إن مختصر الرسالة «إنت مكانك مش هنا.. إنت مكانك هناك.»
إنت مفصول يا ماهر! وهات الفلوس اللي عليك!
ماهر القاضي الذي يهدي أبحاثه العالمية ذائعة الصيت إلى وطنه مصر، هو نفسه الذي طالبته إدارة البعثات بوزارة التعليم العالي المصرية فجأة بسداد مبلغ 9 ملايين جنيه! ما يزيد عن 40 بحثاً لـ «ماهر القاضي» في أكبر الدوريات العلمية العالمية كلها تقريباً باسم جامعة القاهرة. أبحاث في دوريات ذائعة الصيت مثل ساينس ونيتشر تم الاستشهاد بها حوالي ٦٢٠٠ مرة كلها في مصلحة جامعة القاهرة كونها تساعد في تحسين الترتيب الدولي للجامعة.
بعد كل هذه الانجازات الكبيرة التي قلما حققها أحد أبناء الجامعة، أصدرت جامعة القاهرة قرارها بفصل «ماهر القاضي»، بناء على موافقة من مجلس قسم الكيمياء ومجلس الكلية ورئيس الجامعة المفوض من مجلسها، ونص القرار على «إنهاء خدمة السيد/ ماهر فتحي محمد القاضي – المدرس المساعد بقسم الكيمياء بالكلية وعضو البعثة الخارجية بأمريكا مع مطالبته وضامنه بالنفقات اعتبارا من 20/9/2009 (تاريخ السفر)». القرار موقع من عميد كلية العلوم ووكيلها لشئون الدراسات العليا والبحوث.
يحكي «ماهر القاضي» أنه قبل قرار الفصل بسنة كاملة، قد بادر من خلال المحامي الخاص به في أمريكا الذي اتصل بالسفارة المصرية في واشنطن وطلب منها البدء في اتخاذ إجراءات سداد المصروفات التي أنفقتها جامعة القاهرة والحكومة المصرية على بعثته في أمريكا حتى يمكنه الحصول على إخلاء طرف.
قرر «ماهر القاضي» بالفعل تسديد كل النفقات التي أنفقتها الدولة وجامعة القاهرة على بعثته ولم يلجأ لطرق أخرى للتحايل للحصول على إجازات رسمية تعود عليها طلاب الدكتوراه في نفس ظروفه تحت مسمى مرافق زوجة وإجازة رعاية أسرة وغيره وكله بالقانون!
كان المبلغ المستحق حينها على «ماهر القاضي» يبلغ حوالي مليون جنيه مصري شاملاً الضرائب، لكن قطاع البعثات الذي يصفه ماهر بـ «نموذج للروتين الحكومي» أخذ وقتاً طويلًا لنظر الأمر وبحثه وفحصه يزيد عن ٣ سنوات، وبالتالي أصبح المبلغ 3 ملايين جنيه بعد التعويم وتخفيض قيمة الجنيه، لم يرفض «ماهر القاضي» الدفع، بل وافق على دفع الملايين الثلاثة، أو بمعنى أدق كانت ستدفعه بالنيابة عنه جامعته الأمريكية باعتباره صفقة رابحة لها.
ثم حصل ما لم يكن يتوقعه القاضي. إذ فجأة وبدون مقدمات وعدلت اللجنة التنفيذية في إدارة البعثات في مصر لائحتها الخاصة واعتبرت إن اللي فات مات، وطالبوه بسداد 6 ملايين جنيه أخرى بالإضافة إلى الثلاثة ملايين الأولى ليصل إجمالي المبلغ المطلوب منه هو سداد تسعة ملايين جنيه، بخلاف إقامة دعوى قضائية ضده هو والضامن في مصر، وكأنه متهم رغم مبادرته لسداد النفقات قبل صدور قرار الفصل.
أكثر من ٣ سنوات من الروتين، وعدد كبير من الإنذارات وقرارات الفصل ومحاولات الابتزاز، كل تلك الأمور أبعدته عن العمل وأفقدته التركيز في اختراعاته وأبحاثه ومحاضراته، صار مشغولًا بمتابعة المحامين والجلسات والمستندات والملفات والموافقات في مصر وأمريكا، والأدهى أن إدارة البعثات رفضت منحه إيصالًا أو فاتورة بالمبلغ، بل طلبوا منه سداد المبلغ كاش.
نشر «ماهر القاضي» وقتها استغاثة على السوشيال ميديا، وبعدها تدخل وزير التعليم العالي آنذاك، وهو نفسه وزير الصحة المصري حالياً الدكتور خالد عبد الغفار، كما تدخل الدكتور محمود صقر رئيس أكاديمية البحث العلمي، وتغير القرار وتم تطبيق اللائحة القديمة عليه، وسدد القاضي 166 ألف دولار بما يعادل وقتها (2019) مبلغ 3 ملايين جنيه دفعتهم جامعة كاليفورنيا بالنيابة عنه للمكتب الثقافي المصري في واشنطن وبعد انتظار 5 شهور كاملة وصل إخلاء الطرف إلى «ماهر القاضي»، وانتهت الأزمة وأصبح «القاضي» مفصولاً من جامعة القاهرة!
بعد هذا الأزمة تمت ترقية «ماهر القاضي» إلى درجة Research Assistant Professor وهي درجة أكاديمية تكافئ أستاذ مساعد ويكون فيها التركيز على الأبحاث العلمية ولكن دون أي أعباء تدريسية في واحدة من أكبر الجامعات في قسم الكيمياء بجامعة كاليفورنيا.
شجرة علمية كبيرة
يعتبر «ماهر القاضي» نفسه محظوظًا لأنه تتلمذ على يد مجموعة من أعظم علماء الكيمياء في القرن العشرين، نجوم مثل ماري كوري، الأسطورة اللي ما زال بريقها يضيء عالم الكيمياء وإحدى أبرز الشخصيات العلمية في القرن العشرين.
يقول «القاضي» أنه في مشواري العلمي، وجد نفسه ضمن شجرة علمية كبيرة، شجرة فيها تسعة من العباقرة الذين حصلوا على جائزة نوبل. كل واحد فيهم كانت له بصمة خاصة غيّرت وجه العلم في القرن العشرين! هو الآن، جزء من هذه السلسلة، ويتمنى أن يكمل في هذا الطريق. لديه أمل كبير وعزيمة قوية أن يضيف إلى هذا الإرث العلمي، ويتطلع إلى إضافة بصمته الخاصة التي قد تُلهم العلماء في المستقبل إن شاء الله.
نوبل قادمة لا محالة
لا أعرف ماذا يخبىء القدر لـ «ماهر القاضي»، لكن لدي يقين أن سيخطو خطوات كبيرة في سنوات قليلة سوف تقربه من الحصول على جائزة نوبل، أرى أن نوبل قادمة لا محالة، فإن أثر الثورة التي يحدثها القاضي وفريقه البحثي على التطبيقات المختلفة وبدء إنتاجها وتصنيعها وإتاحتها للجمهور والشركات والجهات سوف تحدث نقلة كبيرة جدًا وفائدة عظيمة للبشرية.
سأظل فخورًا بـ «ماهر القاضي» وبما أنجزه خلال سنوات عمره، وبقصة كفاحه الملهمة لكل الأجيال، التي تثبت للجميع أنه لا يوجد مستحيل وأن الأحلام ممكنة طالما آمن بها أصحابها واجتهدوا وسعوا وعملوا على تحقيقها بكل إرادة وإصرار وعزيمة.
رسالة من مُحب
ختامًا.. لدي رسالة من محب لهذا الوطن «مصر».. أتمنى أن تعيد الدولة النظر في القوانين التي تفصل المبعوثين إلى الخارج من جامعاتهم المصرية كما فصلت جامعة القاهرة «ماهر القاضي». وأتمنى ألا تعاقب القوانين الباحثين المتميزين وتطالبهم بسداد ملايين. علماؤنا مشاريع قومية لا تخسر أبدًا، اعتبروا علماءنا مثل لاعبي كرة القدم، لابد أن نحافظ على قوام منتخبنا الوطني من العلماء، وكفانا صناعة الحواجز والشروخ في علاقتهم بوطنهم، هؤلاء العلماء من نوعية «ماهر القاضي» وغيره هم ثروة قومية كبيرة، بإمكانهم رفع راية هذا الوطن عالية بفكرهم وعلمهم. يستحقوا التكريم والاحتفاء والاحتواء، لا الفصل والمقاضاة والمعاناة. اللهم قد بلغت اللهم فاشهد.
لقراءة الجزء الأول من حكاية ماهر القاضي من هنا.