مستشفى أبو الريش الياباني.. صرحٌ كبير يرعى أطفال مصر
مؤلمٌ أن تُختّبر في أبنائك، في هذه اللحظة -وفيها وحدها- من كل لحظات العمر، تتمنى لو يُصيبك المرض، يقفز إليك قفزًا من أجسادهم إلى جسدك، تقول حينها “يا رب أنا، وهم لا”، دعوات صادقة لا تتمنى المرض حقًا بقدر ما تتمنى الشفاء. كان هذا هو حالي وشقيقي محمود خلال الأيام الماضية، وحتى الآن، حيث أصيب نجله مالك، والذي يبلغ من العمر 4 سنوات، المبتسم دائمًا، والعصبي أحيانًا ببعض من أعراض الأنفلونزا.
ومالك مثلهُ مثل ملايين الأطفال في مصر، يسير كغيره على طريقة الكشف وتلقي العلاج.
ذهبت به والدته إلى أحد أطباء قريتنا (جريس بمركز أشمون في المنوفية) في عيادته الخاصة، لا أعرف كيف شخّص المرض، ولا طريقته التي يستخدمها لمحاربتهِ، ولكنه وصف دواءً لا يشفي، بل زاد من وطأة المرض، فكرّرت والدته الزيارة؛ علّ “الطبيب” ينجح هذه المرة في التشخيص، أو كتابة العلاج المناسب، وكانت المرة الثانية كسابقتها. حالة مالك إلى أسوأ.
إذن، ليس أمامنا بديل، وكحال كل الأطفال أيضًا، يجب تغيير الطبيب، وهذه المرة تعامل الطبيب مع الموقف باحترافية أكثر، فطلب فحوصات وأشعة. والطبيب الأمين، يقول “لا أعرف عندما لا يعرف”، هذا ما فعله الطبيب الثاني، وطالب بعرضه على استشاري في تخصص معين.
الطبيب الثالث في أيام، وحال الطفل يقول “ما الذي يحدث، من طبيب إلى آخر، ومن علاج بالحقن إلى آخر بالشراب”. وحالي أنا يقول: “لماذا يوجد لدينا في مصر هذا التشوه، والعشوائية في أهم ملف، وأغلى ما نملك وهو صحتنا، لماذا لا يوجد نظام مُحكم، لا يتسبب فيه طبيب عن جهل أو لامُبالاة في مشاكل صحية لطفلٍ كان يمكن تلافيها لو تم التشخيص بدقة مبكرًا وعدم تجربة علاجات مختلفة غير مجدية”.
العشوائية مضاعفة
كل هذا دار في عقلي، ولم نكن وصلنا إلى المرحلة الثانية من رحلة علاج مالك، وفيها كانت العشوائية مضاعفة، واللامبالاة سائدة، والتشوه هو المشهد الطبيعي المعتاد. فقط أنا الذي لم يكن منخرطًا بما فيه الكفاية للتعرف على أبعاد المنظومة، وربما يكون هذا سبب رغبتي في كتابة هذا المقال، ربما وأحدهم يقرأه الآن يقول “لماذا هذه الأفورة، فهذا هو الطبيعي، وما يحدث دائمًا” لأرد أنا على هذه الرسالة التخيلية بالقول “هذا الأمر ليس طبيعيًا، ولا يجب أن يكون كذلك”.
وللأمانة، هناك جوانب مُختلفة ومُضيئة في هذه القصة، ومُطمئنة في نفس التوقيت، بشرط أن يعرف الشخص كيف يصل إليها، كيف يُنقذ نجله أو نفسه من الجانب المظلم؛ ويعبر إلى الجانب الآخر من الشاطئ، حيث يمكنه الاطمئنان، لأنه وصل إلى الجانب السليم من المنظومة”.
وصلنا إلى مرحلة علاج مالك في مستشفى أشمون العام. ولا أعرف كيف حدثت هذه المعادلة، كيف لمستشفى مديره، على درجة كبيرة من الاحترام والإنسانيّة، بينما هو “المستشفى” غارقٌ في الفوضى، والإهمال.
سأذكر مشهدًا واحدًا من كثير في هذا المستشفى، لكنه مُعبر، ولا يحتاج بعده إلى شرح، فهل يتصور أحد أن يتم تنظيف غرفة الرعاية المركزة بنفس الأدوات التي يتم بها تنظيف الحمامات؟ هذا ما حدث.
ولأنني وعدت أن أذكر مشهدًا واحدًا، فلن أتحدث عن سلوك بعض الأطباء هناك، وربما اعتيادهم على مشاهدة المرض، والمرضى. ولا يشغلهم كثيرًا حال كل أسرة تتمنى شفاء نجلها. من ناحيتها وعدت وكيلة وزارة الصحة في المنوفية الدكتورة رشا خضر بالتحقيق في هذا الأمر.
مستشفى آخر
كان القرار، ورأي كل الأطباء، والاستشاريين الذين لجأنا إليهم بالفحوصات. هو نقله إلى مستشفى آخر، يمتلك الإمكانيات لعلاجه، وهو ما حاولنا فعله، وبعد ساعات من المحاولات تم توفير سرير في غرفة الرعاية المركزة بمستشفى أبو الريش الياباني. هذا الصرح المصري الذي يفخر به كل مواطن، وبالخدمة المقدمة فيه، وبطاقم الأطباء والتمريض.
تواصلت معي طبيبة في مستشفى أبو الريش الياباني، وهي مثال للطبيبة الشابة المتميزة، والتي استقبلت مالك على باب المستشفى. وأنا أتحدث معها عقد عقلي سريعًا مقارنات بينها وبين الأطباء في مستشفى أشمون العام، الذين شاهدتهم وتحدثت معهم، وتوقفت أمام كمية الاختلافات المهنية والشخصية بينهم.
تعلمت الكثير في هذه التجربة التي أتمنى أن تنتهي قريبًا بعودة مالك إلى البيت، ويبدأ في مناكفة آدم، وكارما وزينة، هو يُحب “علي” المولود حديثًا، هذه التجربة وضعت عيني في أيام على مشاكل وتراكمات عقود من الزمن، يااااااااه لو كان يمكنني أن أضيف أمنية أخرى، وكانت الأماني تتحقق، كنت سأتمنى أن تنتهي كل التراكمات هي الأخرى بشفاء مالك وعودته. أو على الأقل تتحقق في المستقبل القريب، ففي بعض المواقف لا نملك سوى التمني.
تتركنا قصة مالك مع الكثير للتفكير، فهي ليست مجرد قصة فردية، بل هي نموذج لتحديات الرعاية الصحية التي يواجهها العديد من الأطفال في مصر. إنها دعوة للنظر في أنظمتنا الصحية وتحسينها، وتأمين رعاية شاملة ومناسبة للجميع. ولنعمل جميعًا معًا من أجل مستقبل صحي أفضل للجميع، وليشفي الله مالك.