أخبار الآن | معركة الموت الأخيرة – نار الفتنة
هذا حالُ مدينة الموصل العريقة اليوم.. لكننا سنروي التاريخَ لتحيا في ذاكرةِ أجيالنا المقبلة..
لم تَعصفْ بها أعاصير.. ولم تضربْها الزلازل..
قد انتهكها تنظيمُ داعش في حربهِ ضد الإنسانية والحضاراتِ والمعتقدات والتعايش والثقافة…
لم يشفعْ للموصل تاريخُها الذي يمتد قرابةَ ستةٍ وعشرين قرنا، ولا موقعُها المتقدم في الحضارة العربيةِ الاسلامية،.. بل كان هذا التاريخ هدفا أراد داعش محوَهُ من الذاكرة..
فجروا حدباءها، وجامعَها النوري.. دمروا مار اشعيا، كنيستها التاريخية، وعصفوا بأسواقها التاريخية التي شهدت على مر الأزمان، تجارتَها وموسيقاها وقصيدَها، وغناَء دجلة عند أقدامِها.
كانت هذه المدينة في الأصل حصنا عسكريا آشوريا تم بناؤه عام 1080 قبل الميلاد، لحماية السهولِ الغربية لمدينة نينوى، عاصمةِ الامبراطورية الاشورية. قلاعُها المنيعة كانت تُزين امتداد الضفة ِ الغربية لنهر دجلة حتى عام 612 قبل الميلاد، تاريخ ِسقوط الامبراطورية الأشورية على يد البابليين والميديين. منذ ذلك الوقت، انتقل سكانُ مدينة نينوى للعيش فيها، وصارت نواةً للمدينة التي عرفت لأكثرَ من ألفين وستمئةٍ وثلاثين عاما، باسم مدينة الموصل.
قبل أن يجتاحَها داعش صيف عام 2014، كانت المدينةُ تنبض بالحياة وسط عبقٍ تاريخيٍ خاص، مِزاجهُ من استراتيجيةِ موقعها الجغرافي الذي جعلها حلقةَ وصلٍ بين حضارات العالم القديم، ثم بوابةَ التقاءِ مدن العالم الإسلامي مع بعضها البعض لأكثر َ من ثلاثةَ عشر قرنا.
تحت هذا الخراب في منطقة القليعات بالمدينة القديمة، تراكمت قصص ُ الأيام التي عاشتها الموصل إبان سيطرةِ داعش عليها والحربِ التي دارت رحاها خلال معاركِ تحريريها.
قصصٌ ستحتاج وقتا طويلا لكي يرويها آخرُ الشهود، وآخرُ الناجين الذين قدّرَ لهم أن يعيشوا ليحكوا لنا ما جرى في الأيام الأخيرة لتلك الحرب التي حولت المدينةَ لأنقاض.
أسماءُ الضحايا الذين يتذكرهم مصعب الحمداني، ليست إلا جزءا من قائمةٍ طويلة لألاف الضحايا الذين سقطوا خلال الحرب الأخيرةِ لداعش في الموصل، وهي الفترةُ التي امتدت من ربيع عام 2017 حتى اكتمال تحرير المدينة في التاسع من تموز /يوليو من العام نفسه.
كان واضحا من مجريات الحرب أن داعش قرر التضحيةَ بالمدينة وسكانِها في ما يمكن تسميتُه ”معركة َ الموت الأخيرة”. فعوضاً عن انسحابهِم إلى غرب الموصل، تراجع مقاتلو داعش إلى المدينة القديمةِ وتحصنوا فيها، مستخدمين قرابةَ ستين ألفَ عائلةٍ موصلية دروعاً بشرية، جعلوها خطَ دفاعهم الأول.
وبعد صمت الرصاصِ والقذائف، ودحر داعش، عرف العالمُ المزيد عن هول الجرائمِ التي ارتكبها داعش بحق الموصليين. فقد تم انتشالُ أكثرَ من أربعة ألافٍ وستمئةٍ وخمسين جثة لأطفال ونساءٍ ورجال من تحت الأنقاض، كان منها حوالى ألفي جثةٍ مقطعةٍ أو متفحمة، ما يزال أصحابُها مجهولي الهوية حتى الآن.
معظمُهم قتلهم مسلحو داعش حين كانوا يحاولون الهروبَ من مناطق سيطرته أو جراءَ القصفِ المتبادل، أو جوعاً نتيجةَ المجاعة التي ضربت المدينة بعد ان احتكر مسلحو داعش معظمَ المواد الغذائية والمياهِ الصالحة للشرب والوقود، ومنعوها عن باقي أهالي الموصل.
كان الموت الداعشيُ يترصد أهالي المدينةِ الهاربين منها في رحلة مصيريةٍ للنجاة من السجن الإجباري الذي فرضه داعش عليها. وعند كلِ ناصيةٍ أو زقاق، كانت تفوح رائحةُ التطرف، تترصد بالهاربينَ عبر الطرقات للاقتصاص من رغبتِهم بالحياة.. ومن على سطوح المنازل، تقنصُهم عينٌ تسهر لاجتثاثِ أرواحهم..
في مثل هذه الأجواء، وقعت المجزرةُ التي سميت بمجزرة معمل البيبسي في منطقة الزنجيلي.. قتَل مسلحو داعش أكثر من مئتي موصلي كانوا يحاولون الهربَ، فيما سقط مئاتٌ آخرون برصاص قناصتِه. لكن إرادة الحياة عند أهالي الموصل كانت أقوى من رائحةِ الموت على يد داعش، فتسربت آلافُ العوائل ليلا عبر الأزقةِ الضيقة وسطوحِ المنازل، وعبَر بضعةُ آلافٍ آخرين سباحةً تحت جنح الظلام، من الضفة اليمنى لنهر دجلة التي كان يسيطر عليها داعش، إلى الضفة اليسرى التي كانت تسيطر عليها القواتُ العراقية.
تحت تهديد السلاح، استولى داعش على خط المنازلِ الممتد على طول الضفة اليمنى لنهر دجلة، ونقل إليها أشرسَ مقاتليه، ونشر قناصتَه على سطوحها، في محاولةٍ لضمان عدم هروب الأهالي سباحةً عبر النهر.
نهر دجلة الذي عرفهُ الموصليون منذ قدم التاريخ مصدراً للحياة، تحوّل حينها للعبة روليتٍ روسية. فعبورُه قد يُعيدهم للحياة من جديد، وقد يأخذهم إلى الضفة الثانية من هذه الحياة، غرقاً لارتفاعِ مناسيبه وامتدادِه لمئات الأمتار، أو قتلاً على يد مسلحي داعش الذين لم يرأفوا بكل من وقعَ بأيديهم وهو يحاول عبورَ النهر للنجاة.
بالرغم من ذلك، اختار موصليون كثر تجربةَ الروليت الروسية عبر نهر دجلة. ومنهم من دفع بأولاده إليها أملاً في نجاتهم. من هؤلاء رفعت، إبنُ منطقة الشهواني الذي أقنع ولديه المراهقين بعبور دجلة سباحةً في الليل.. عاطفةُ الأب التي غالبا ما تحمي أطفالها، شعرت أن ذلك أرحم من البقاء وسط رحى الحربِ الدائرة في معارك التحرير.
أن يموت أهلُك لهو أمرٌ جلل. فما بالك بأن تُضطر لإبقاءِ جثثهم معك لعجزِك عن دفنهم بسبب زخات المدافعِ المستمرة. يروي لنا رفعت عن هلاك والدته جوعاً خلال أيام الحصارِ الأخيرة، وكيف لم يجدْ مكانا مناسبا لدفنِ جثتها. كان دفنُ الموتى وسط ساحات المنازل أو الاحتفاظُ بهم لحين انتهاء الحرب، هو ما اضُطر إليه آلافُ الموصليين في تلك الأيام.
حتى نيسان/ أبريل من عام 2019، ما زالت جثثُ كثيرٍ من مسلحي داعش مطمورةً تحت أنقاض المنازل، أو متروكةً عند مفارق الطرقات. وخلال تجوالك في المدينة سترصدُ بقايا عظمية لقتلى داعش.
وسط هذا الدمار، يحاول الموصليون ممن بقوا في المدينة أو رجعوا إليها مواصلةَ حياتهم. هذا الخرابُ يحتاج وقتاً طويلاً وجهوداً حكوميةً لتنفضَهُ المدينة عن كاهلها.
رحل عن المدينة كثيرٌ من أهلها. لكن من بقي أو عاد يستند إلى تجربةِ التاريخ الممتد على مدى 26 قرنا لهذه الحاضرةِ العربيةِ العريقة التي استطاعت أن تنهض دائما من جديد وإن كان غزاةُ هذا العصر قد حاولوا محو ثقافتِها ونهبَ تاريخها.