نهاية القرن الرابع عشر قدم التتار المسلمون إلى ليتوانيا، معظمهم أتى من شبه جزيرة القرم، وثمّة آخرون أتوا من دول إسلامية مجاورة في الحقبة الشيوعية، وقد استوطنوا في ليتوانيا واستقروا فيها. آنذاك انخرط معظمهم في السلك العسكري، لكن مع الوقت راحوا يندمجون في المجتمع الليتواني أكثر فأكثر، فاتجهوا إلى الدخول في مجالات أخرى أيضاً وبات انخراطهم لا يقتصر فقط على العسكر.
التتار في ليتوانيا متجذرون تاريخياً
بعد ذلك بزمن، ومن حين إلى آخر كان المسلمون الليتوانيون يتنقلون بين دوقية ليتوانيا الكبرى وبين الدولة العثمانية. لقد كان هناك 3 أقسام للمهاجرين المسلمين إلى ليتوانيا:
- الأول، المهاجرون السياسيون من المجموعات والقبائل التتارية، وكان هؤلاء من أوائل المسلمين الذين ظهروا في ليتوانيا.
- الثاني: الجنود المسلمون الذين اتخذهم فيتاوتاس (Vytautas) الدوق الأكبر لليتوانيا لحمايته الشخصية في نهاية القرن الرابع عشر
- والثالث: أسرى الحرب الذين أسروا خلال الحروب بين دوقات ليتوانيا وبين أعدائهم المسلمين في أقصى الحدود الشرقية لدوقية ليتوانيا الكبرى.
والجدير بالملاحظة أنّ التتار استقروا فقط في المناطق الشرقية من ليتوانيا، وأغلبهم كان في العاصمة فيلنيوس (Vilnius) وما حولها، حيث إنّ بعض تلك المستوطنات لا تزال تحمل أسماء ذات أصول تركية.
في ذلك السياق، تقول المؤرخة التتارية تمارا بايراسوسكايتو (Tamara Bairašauskaitė) لـ”أخبار الآن” إنّ “اندماج التتار كان سريعاً جدّاً في دوقية ليتوانيا الكبرى، وكذلك في الآونة الأخيرة. لقد تمكنوا من الحفاظ على هويتهم لكنّهم فقدوا لغتهم. وفي القرن السابع عشر لم يتحدثوا لغة التتار، لكنّهم حافظوا على دينهم والفضل في ذلك يعود الى كتبهم الدينية، لا سيما القرآن الذي ترجموه الى البولندية، البيلاروسية وحتى إلى الروسية، والآن القرآن موجود باللغة الليتوانية”.
لماذا سُميت بـ “قرق تتار” أو “الأربعين تتار”؟
أخبار الآن قصدت قرية قرق تتار (Keturiasdešimt Totorių) التي تقع جنوب العاصمة فيلنيوس، وهي قريبة من الحدود البيلاروسية. هي واحدة من أقدم مستوطنات التتار الليتوانيين. تمّ ذكر أول مسجد في تلك القرية لأوّل مرّة العام 1558 وقد احترق خلال الحروب النابليونية.
وفقاً لأسطورة تشرح اسم تلك القرية، منح فيتوتاس التتار (Vytautas the Great) امتياز الحفاظ على دينهم وعاداتهم، بما في ذلك تعدد الزوجات العرفي. كان لرجل تتار أربع زوجات، وأنجبت كل زوجة عشرة أبناء، ومن هنا جاء اسم القرية – “أربعون تتار”.
خلال الاحتلال السوفيتي، تمّ تحويل أربعين توتاري إلى مستوطنة ثانوية لكلية فيلنيوس السوفيتية الزراعية التقنية. اليوم، Keturidesištii Totorių هي قرية شوارع تتميز شوارعها بتقاطعات شديدة الانحدار. تمّ الآن استبدال بعض المنازل الخشبية التي كانت موجودة هنا بمنازل من الطوب.
كان الطقس بارداً للغاية ومنذ وصولنا إلى المنطقة لم يتوقف تساقط الثلوج لكن السكان هنا اعتادوا على المناخ بكلّ أحواله فيما نحن حاولنا قدر الإمكان التماسك في ظلّ تدني الحرارة لتلك الدرجة. خلال ذلك اليوم الذي قضيناه في المجمّع هناك تعرّفنا على الكثير من جوانب حياة التتار من التاريخ وصولاً إلى عاداتهم المميزة.
“لا راحة مع وجود جيران مثل بيلاروسيا وروسيا”
في الحقيقة، فنحن لم نستكشف فقط الجوانب التاريخية والاجتماعية للتتار المسلمين هنا، إنّما تبيّن لنا ما هو أعمق بكثير… شيء لم يقله التتار إطلاقاً ولم نسألهم نحن عنه أيضاً، وهو أنّ حياتهم مختلفة تماماً عن حياة أخوانهم التتار في جزيرة القرم الأوكرانية التي احتلها الروس العام 2014. فرفضهم للروس يرتكز على سياسة الروس التاريخية في محو هويتهم وتبديدها.
يخيفهم ما يأتي به الروس وحلفاؤهم، وذلك ما عبّر عنه صراحة زعيم التتار في ليتوانيا موتيوس جاكاباسكس (Motiejus Jakubauskas)، الذي اختصر القصة بما يتعرض له تتار القرم قائلاً: “لا يمكننا أن نشعر بالراحة مع وجود جيران مثل بيلاروسيا وروسيا لأنّنا لا يمكننا أن نعلم متى سينهار كلّ شيء وسيبدأ الهجوم. هناك أمور سيئة تحدث حولنا، إذا نظرنا إلى ليتوانيا فهناك بيلاروسيا من جهة، وهي تدعم الروس، ومن الجهة المقابلة هناك روسيا في منطقة كاليننغراد”.
“تحت أي علم سيكون الوضع أفضل”؟
وتابع: “تحت أي علم سيكون الوضع أفضل، بالطبع تحت العلم الأوكرني لأنّها بلد ديمقراطي ومتحمسة للسلام و هي لا تعتدي على أحد تتار شبه جزيرة القرم يذكرون تماماً عندما تمّ ترحيلهم من جزيرة القرم إلى كازاخستان وروسيا لا أعتقد أن أحداً يريد أن يعيش في ظل الحكم الروسي مجدداً وهذا هو شعورنا أيضاً”.
في الصورة المرفقة أدناه، مسجد قرية “قرق تتار”.. فذلك المسجد يعتبر أوّل مسجد بُني في تلك القرية، إذ يشير المؤرخون إلى أنّه شيّد العام 1558، وهو حتّى تلك اللحظة يخضع للترميم بين الحين والآخر، علماً أنّ غالبية المساجد هناك تشيّد باستخدام الأخشاب، ومع الوقت راح التتار يقيمون المزيد من المساجد لآداء شعائرهم وسط ترحيب من قبل الدولة الليتوانية ودعمها.
عدد سكان “قرق تتار” هو 500 نسمة
من جهتها، شرحت رئيسة المجتمع الإسلامي السنّي التتاري فاطمة أسانافيتشين (Fatima Asanavichiene) تاريخ ذلك المسجد، قائلةً: “ذكرت الوثائق التاريخية أنّ ذلك المسجد كان موجوداً في القرن الخامس عشر لكن تمّت إعادة بنائه مرات عديدة، أيّام نابليون اُحرق بالكامل، ثمّ أعيد ترميمه، وتمّ الحفاظ على شكله على مرّ العصور، لا يوجد عدد كبير من المسلمين هنا في القرية، عدد سكانها هو 500 نسمة منهم 120 من التتار المسلمين. يوجد قسم مخصص للرجال في المسجد، هو مقسّم الى جزئين، وهناك على الجانب الآخر من الجدار القسم الصغير المخصص للنساء. كان عدد المساجد الليتوانية كبيراً، لكن اليوم لم يتبق منها سوى أربعة”.
إذاً في تلك القرية الصغيرة من حيث عدد سكانها بالدرجة الأولى، تحرص الأسر على تعليم أبنائها العادات والتقاليد الإسلامية والتمسك بهوية البلد حيث يعيشون في الوقت نفسه. سلام هو أحد الشبان من تتار ليتوانيا شرح لـ”أخبار الآن” كيف يتعلم عن الإسلام قائلاً: “مسجد فورتي تتارز أقصده دائماً، هناك عدة مساجد في فيلنيوس، كمسجد نيميسز وهو جميل جدّاً لكن ليس المسجد الذي أفضله، وهناك مسجد في وسط المدينة التجاري، لكنه لا يشبه المسجد كثيراً، وذلك المسجد جميل، إنه من المساجد المفضلة لديّ. ثمّة شخص مسؤول هنا و هو رمضان، هو الإمام، أنا أتعلم الكثير منه، في ذلك المسجد أتعلم الكثير من الأمور عن الإسلام”.
شاهدوا أيضاً: تتار القرم المسلمون.. من الإبادة السوفيتية إلى غزو بوتين ثمّ المواجهة