كيف شكلّ نموذج التعاون هذا حصنا منيعا ضد الإرهاب؟ وكيف مهّد هذا التعاون الطريق لتشكيل أرض خصبة لجهود إعادة التأهيل وإعادة الإعمار بعد داعش والحفاظ على الموروث الديني في البلدة؟ وكيف مهّد هذا التعاون الطريق لتشكيل أرض خصبة لجهود إعادة التأهيل وإعادة الإعمار بعد داعش والحفاظ على الموروث الديني في البلدة؟
الزمان: فجر السابع والعشرين من فبراير العام 2014
المكان: بلدة تل معروف
مجاميع مسلحة إرهابية تهاجم بلدة تل معروف و تعيث خرابا في البلدة
تلك هي شهادة سيدة عايشت ليلة هجوم داعش على تل معروف … ترويع وتنكيل ونهب طال كل مرافق البلدة ومنازلها ودمار متعمد لحق بمسجدين أساسيين بعد حرق المكتبة التي كانت تضم آلاف من الكتب الدينية والمصاحف الشريفة.
استخدم التنظيم الحجج الأيديولوجية في محاولة لتبرير هجماته على الأضرحة، كما أكّد خادم المرقد الخزنوي في قرية خزنة الملا محمد حاجي، مؤكّداً أنّ المجموعات التكفيرية أتت من مناطق لا نعرفها ولا تعرف توجهاتنا السياسة التي لا علاقة لها بالسياسة.
الجمعية العمومية للعائلة الخزنوية شجبت في حينها في بيان اصدرته الإعتداء السافر على حرمة بيت الله (الجامع الكبير) والذي صلّى فيه على مدى عقود ملايين المسلمين كلّ البلاد وقامت ايضا بتفجير المرقد الشريف حيث ضريح شيوخ النقشبندية الخزنوية رغم أنّ القيمة المعنوية الخزنوية لا تكمن في أبنيةٍ بقدر ما تكمن في قلوب الملايين من الناس”.
حتى اليوم لا تزال آثار الدمار واضحة على مساجد تل معروف فماذا حلّ في مرقد الشيخ عز الدين الخزنوي؟ و ما هو مصير الطريقة النقشبندية؟
القرية لا تزال مهجورة حتى اليوم لم يعد كلّ سكانها و جرائم داعش لا تزال قائمة وشاهدة على وحشيتهم التي طالت الحجر و البشر. يأمل من تبقى في القرية في ان تعود الحياة الى تل معروف وإعادة احياء البلدة و إحياء الموروث الديني والثقافي الذي ورغم الإرهاب ومحاولات الترهيب لا يزال يشكل مدماكا أساسيا ومرجعا رئيسا للطريقة النقشبندية.
ولعل أهمية بلدة تل معروف تكمن أهميتها الجغرافية وقربها من الطريق الدولي الذي يؤدي إلى بلدة اليعربية الحدودية مع العراق، باتجاه الآبار النفطية المنتشرة على امتداد الطريق إضافة إلى فتح منافذ جديدة نحو مدينة القامشلي وريفها.
كذلك تتميّز برمزيتها الدينية لكونها محجّاً للمئات من الزوار من دول عربية وإسلامية عدة، ولا سيما دول شرق آسيا، نظراً إلى وجود مقامات دينية لشيوخ الطريقة النقشبندية من آل الخزنوي ومعهد الشيخ أحمد الخزنوي للعلوم الدينية والشرعية، الذي أُسّس في العام 1920 ودمره داعش اثر اقتحامهم البلدة في العام 2014.
عاصمة الطريقة النقشبندية
النقشبندية بفرعيها الخزنوية، نسبة الى قرية خزنة منشأ الطريقة، والكفتارية نسبة الى والد مفتي سوريا الشيخ امين كفتارو.
النقشبندية الخزنوية أسسها الشيخ أحمد الخزنوي منتصف القرن المنصرم، واخذت الطريقة اسمها من القرية الأولى التي حط الشيخ الرحال فيها، كما حوت القرية التكية الأولى لشيوخ الطريقة النقشبندية الخزنوية التي انتشرت لاحقا في عموم سوريا وعبرت الحدود السورية الى العراق وتركيا ولبنان.
هؤلاء هم أبرز شيوخ الطريقة الخزنوية:
- علاء الدين الخزنوي 1958 – 1969
- عز الدين الخزنوي 1969 – 1992
- أحمد الخزنوي 1950
- محمد معصوم الثاني 1950 – 1958
انقسمت العائلة على نفسها بسبب الصراع على المشيخة إلى تكيتين، تكية الشيخ عبد الغني الخزنوي المقيم في تركيا في قرية خزنة، وتكية الشيخ محمد الخزنوي الذي توفي العام 2003 وخلفه من بعده نجله محمد مطاع الخزنوي المقيم أيضاً في تركيا، والذي نقل التكية والمدرسة الشرعية منذ العام 2007 من قرية تل معروف إلى بلدة مستحدثة في شمال الحسكة واسماها “تل عرفان”، وتعدّ أكبر مجمعات الطريقة وأكثرها تأثيراً إلى يومنا هذا.
الصوفية تركز على الجانب الروحي في الدين والاستناد عليها لتزكية النفس البشرية من الآثام، لذا ووفقا لشيوخ الطريقة لا علاقة لهم بالأمور الدنيوية وأنظمة الحكم والسياسة. ويفضلون الوقوف على الحياد في الصراعات السياسية.
يقول الشيخ محمد عبيد القادري أن الطريقة الصوفية لا تتدخل في السياسة أي في إدارة المجتمعات او في حكمها ووضع القوانين والدساتير المدنية لها، هذا ليس من عمل المتصوفين والصوفية لكن هناك من يعتقد ان عدم التدخل في الشأن العام والوقوف على الحياد نهج اتبعه شيوخ الطريقة مع قدوم حزب البعث السوري الى الحكم.
الشيخ محمد مرشد الخزنوي وهو نجل الشيخ محمد معشوق الخزنوي الذي خطف عام 2005 ووجود مقتولا في ريف دير الزور، يعتقد خلاف ذلك.
الشيخ محمد مرشد الخزنوي يسهب في سرد مواقف شيوخ الطريقة من الأنظمة الحاكمة في سوريا حتى قبل الاستقلال عام 1946
مشيراً الى انّ الطريقة النقشبندية في الجزيرة السورية مرت بمراحل متعددة هناك مراحل كانت فيها على النقيض وعلى الصدام من الأنظمة التي كانت تحكم سوريا، ومرت بمراحل كانت هناك هدنة، ومرة ثالثة كانت الطريقة النقشبندية ذراعا وجزءا من النظام، فالطريقة مرت بكل هذه المراحل.
أي دور سياسي للطريقة النقشبندية؟
في سوريا كانت العلاقة بين السلطات والطرق الصوفية تتسم بالتوتر أحيانا والمهادنة أحيانا اخرى. ووفقا للكثير من الدراسات، مع قدوم الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد للسلطة بانقلاب عسكري عام 1970 وحاجته الى اسلام سني رسمي للدولة ونفور الأغلبية السنية المتدينة من التعاطي مع الأسد الاب كونه منحدراً من الأقلية العلوية، وجد حافظ الأسد الاب ضالته في الطرق الصوفية والنقشبندية تحديداً.
فانخرطت الطريقة النقشبندية الكفتارية في السلطة وتصدرت المشهد الإسلامي الرسمي في البلاد وتولى الشيخ محمد كفتارو منصب المفتي العام حتى وفاته، فيما اتجهت الطريقة النقشبندية الخزنوية نحو الحياد والمهادنة.
لكن الأغلبية السنية في سوريا لم ترضخ لترتيبات حافظ الأسد للإسلام الرسمي في بلد مختلط اثنيا وطائفيا ويشكل السنة الأغلبية الطائفية فيه، ومع وجود عوامل داخلية وإقليمية أخرى مثل قوانين الإصلاح الزراعي وانتشار حركة الاخوان المسلمين وانفراد الأقلية العلوية بالسلطة في سوريا، تطور الصراع الى موجهات دامية بين حافظ الأسد وحركة الاخوان المسلمين في المدن الرئيسية ذات الأغلبية السنية كحلب و حماه التي شهدت احداثا داميا في العام 1982.
وقتها كانت الطرق الصوفية النقشبندية منقسمة بين الحياد وبين تأييد النظام. وفيما استمرت النقشبندية الكفتارية في دمشق بتأييد النظام، اختارت الخزنوية الحياد والصمت لكن هذا الصمت لم يرق للسلطات حينذاك ومارست عليها أنواعا من الضغط والتضييق.
فبعد مجزرة حماه كان هناك صدام أيضا وأغلقت المدرسة الشرعية في قرية تل معروف والتي كانت تخرج كوادر علمية كبيرة ترفد للمجتمع لتعليم الدين والثقافة الدينية.
التدخل في السياسة من عدمه كان سببا آخر للانقسام الداخلي بين شيوخ الطريقة الخزنوية النقشبندية نفسها ,ووصلت الخلافات اوجها ابان الحرب الامريكية على العراق وسقوط نظام صدام حسين وترسيخ الإقليم الذاتي الكردي هناك، والذي تلته المظاهرات والاحتجاجات الكردية في سوريا في العام 2004 عقب مباراة كرة قدم، حيث رفع مشجعو الفريق القادم من دير الزور صورا للرئيس العراقي المخلوع صدام حسين و نجله عدي، لتحدث اعمال شغب حالما تطورت الى احتجاجات كردية في عموم سوريا، فقامت السلطات السورية وقت ذاك بقمع الاحتجاجات بالنار، على اثرها قتل 33 كرديا في عموم المظاهرات الكردية سوريا.
انقسم وقتها آل الخزنوي بين داعم للانتفاضة الكردية كما يود الكرد السوريون تسميتها، وبين الوقوف على الحياد، وهنا برزت شخصية دينية من آل الخزنوي، وهو الشيخ محمد معشوق، الذي خرج من عباءة الطريقة وبدأ يجاهر بآرائه القومية والوقوف في وجه السلطات السورية.
شكلت انتفاضة القامشلي عام 2004 انعطافة في مسار الشيخ معشوق الخزنوي فالقوات السورية عملت على تاجيج المشاحنات بين الأكرد و افراد العشائر العربية و اتخذتها ذريعة للتنكيل بالأكراد.
انخرط الشيخ الخزنوي في النشاط السياسي و تحول منزله الى مكان يدافع من خلاله عن موقف الأكراد ما عرّضه لاستجوابات و مضايقات أمنية اشهرها يوم الثاني من آذار 2005 حيث تم احتجازه لمنعه من المشاركة في ذكرى الإنتفاضة.
في 10 مايو العام 2005 اختطف الشيخ الخزنوي في أثناء تواجده في دمشق و قُتل في حلب و دُفن في دير الزور.
بعد بدء الحراك الشعبي في سوريا، وقف شيوخ الطريقة النقشبندية موقف الحياد من جديد من الثورة السورية التي حالما تحولت الى حرب أهلية ضروس.
ما هو السبب الرئيسي لهجوم داعش على قرية خزنة؟
في الحقيقة كان موقف الطرق الصوفية من الفكر الجهادي وعدم مبايعتهم للتنظيمات التكفيرية سببا اساسيا لذلك ، وتوقع أمراء التنظيم وجود خزائن من المال والغنائم، دافعهم الاساسي في الهجوم الإرهابي على القرية.
اليوم وبعد دحر تنظيم داعش الإرهابي وانقسام الجغرافيا السورية بين القوى المتصارعة، يتعايش أتباع الطريقة الصوفية الخزنوية مع كل الأطراف
يعيش شيخ الطريقة الخزنوية الحالي محمد مطاع الخزنوي في تركيا ويدير من هناك مجمعه الديني الصوفي في تل عرفان.
ويبدو أن الطرق الصوفية والخزنوية على وجه التحديد، رغم عدم إجهارها بدورها السياسي الا أنها من أكثر الفاعلين و المؤثرين. الطريقة النقشبندية الخزنوية نجحت لدرجة كبيرة في كلّ من دير الزور و الحسكة والرقة بعدم الانضمام الى التنظيمات الإرهابية التكفيرية مثل القاعدة و داعش.
لكن ميول الشيوخ وتوجيههم لمردييهم تساهم بشكل كبير بتحديد الفائز بالانتخابات والمنتصر في الصراعات السياسية والمسلحة. لكنها تبقى رغم كل ذلك المستحوذ على قلوب الناس في المجتمعات الإسلامية وهناك من يعتقد ان بعد تجربة تنظيم داعش الإرهابي ازداد إقبال الناس على الطرق الصوفية وهذا ما يؤرق التنظيمات الإرهابية التكفيرية.