موتٌ يقبع في باطن الأرض يُهدد البشر والحجر ويهدد حتى قوافل الإغاثة، هنا اليمن حيث تتعدد سيناريوهات الموت وجميعها تُشير في النهاية إلى الحوثي مئات الآلاف والأمم المتحدة تقول إنّها بالملايين.. الألغام رعبٌ تحت أرض اليمن خوفٌ من الخطوة وعمليةٌ معقدة لن تُحل سريعاً.
في اليمن، يمكن لك أن تشمّ رائحة الموت، فآثار الحرب تخيّم على المكان… هناك ترى خراب الحوثي واضحاً أيضاً، فالقتل والتدمير المباشر ليسا الجرائم الوحيدة التي ارتكبها، بل هناك جريمةٌ صامتة تقبع تحت الأرض تُهدد حياة اليمنيين يومياً وتتصيّد الأرواح بصمت وسط محاولاتٍ كبيرة لإيقاف رعبها، لكنَّ أعدادها تفوق الخيال والتفكير البشري.
الألغام، أو التفخيخ العشوائي، هو الرعب الذي يحوم في اليمن، فمنذ مارس العام 2015 تحصد الألغام الأرضية أرواح اليمنيين. فذلك البلد ومنذ ما يُقارب العقد من الزمن، تحوّل إلى ساحة صراع لا يتوقف، وحرب صنفتها الأمم المتحدة بأنّها أسوأ الأزمات الإنسانية في العالم، وزادت من مأساويتها الألغام التي انتشرت في الأراضي وبين البيوت، من دون الإمساك بأيّ طرف خيط يُشير لأماكن توزّعِها، ما جعل عملية الإزالة معقّدة للغاية. اليمن ليس جديد العهد مع الألغام بل أنّ القصة تعود بنا إلى ستينيات القرن الماضي، وذلك في عهد الصراعات السياسية والعسكرية الطاحنة. وزادت وتيرة زراعة الألغام في حرب المنطقة الوسطى في تسعينيات القرن الماضي.
ورغم أنّه كان أوّل بلد عربي ينهي عملية تحطيم مخزونه من الألغام، وذلك عندما وقّع في مطلع القرن الحالي على معاهدة أوتاوا لنزع الألغام والتي تنص على تحريم زرع وصنع واستيراد الألغام بشكلٍ كامل، إلّا أنّ عودة الصراع منذ العام 2011 واحتدامه العام 2014، أعاد قصة الألغام للواجهة، فمنذ اقتحام جماعة الحوثي للعاصمة صنعاء العام 2014 وحتّى إعلان هدنة وقف إطلاق النار العام 2022، لم يتبدل الحال.
جماعة الحوثي تزرع الألغام في المدن اليمنية عشوائياً
يروي لنا وليد حسان ما مرّ به منذ لحظة الإصابة وما بعدها قائلاً: “أبلغ 45 سنة ولديّ 3 أولاد إصابتي، وقد أصبت بينما كنت أتفقد أحد البيوت، وأثناء سيري فى الطريق وصلت إلى منطقة الثعبات أكثر المناطق تضرراً جرّاء الحرب، وفيها عدد كبير من الضحايا والمصابين… كان هناك زرع وورود فوقفت أقطف بعضها، وإذ بي فوجئت بلغم انفجر وتسبّب في بتر ساقي، من أسفل الركبة. وجدت نفسي حينها داخل في قلب الغبار الأسود، نظرت إلى قدمي فلم أجدها، تهشّمت عظام ساقي – كلّما أتذكّر الموقف يقشعر بدني – رحت أصرخ حتّى وصل أحد المسعفين وتمّ نقلي إلى المستشفى حيث أجريت لي الإسعافات اللازمة”.
اليمن تتصدر قائمة دول العالم الأكثر تعرضاً لحوادث انفجار الألغام
زرعت جماعة الحوثي مئات الآلاف من الألغام في مناطق الاشتباك، وحتى داخل المدن والقرى التي سبق أن دخلت إليها، وذلك بشكل عشوائي، والهدف الرئيسي حَصْدُ أكبر عدد من الأرواح من خلالها، إذ لا توجد خرائط واضحة لتوزّع تلك الألغام.
وتتصدّر اليمن قائمة دول العالم الأكثر تعرضاً لحوادث انفجار الألغام العام 2018. وبحسب مصادر يمنية، فإنّ جماعة الحوثي زرعت الألغام في مختلف المحافظات اليمنية، والتي تشهد كثافة سكانية مثل مأرب والجوف شمالًا وتعز وعدن جنوباً إضافة للحديدة وحجة، وحتّى على شواطئ البحر الأحمر حيث توزّعت ألغام الحوثي ما بين البر والبحر. وقد استخدمت تقنيات خبيثة بحيث تتحايل فيها من خلال شكل اللغم الذي يتماشى تماماً مع طبيعة المكان، بحيث لا يشعر به أحد.
الأمم المتحدة قالت في أوساط العام 2023، إنّ اليمن يضمّ ملايين الألغام التي زرعت فيه منذ اندلاع الصراع، وإنّ تلك الألغام تُعرقل وصول المساعدات لمستحقيها. وفي سبتمبر العام 2022، أشار برنامج المرصد اليمني لنزع الألغام إلى أنّه وثّق منذ تأسيسه منتصفَ 2019 حتّى مايو 2022، مقتل 370 مدنياً نتيجة الألغام والعبوّات التي زرعها الحوثيون والقذائف من مخلّفات الحرب. كما وثّق التحالف اليمني لرصد الانتهاكات ضدّ حقوق الإنسان خلال السنوات الستة الماضية، سقوطَ أكثر من 1929 قتيلاً مدنياً، وتدمير وتضرّر أكثر من 2872 منشأة عامة وخاصة في عدد من المحافظات اليمنية، وذلك نتيجة استخدام الألغام المضادة للأفراد أو المضادة للمركبات.
وأعلن المشروع السعودي لتطهير الأراضي اليمنية من الألغام “مسام”، عن نزع أكثر من 400 ألف لغم وذخيرة غير متفجرة، في مساحة تُقدر بأكثر من 38 مليون متراً مربعاً، من أراضي اليمن، تحديداً في مناطق المحافظات الجنوبية الأربع مثل عدن وأبين والضالع ولحج وأيضا محافظات وسط اليمن مثل تعز والبيضاء ومأرب وشبوة .
ووثقت منظمة هيومن رايتس ووتش سابقاً، استخدام قوات الحوثي لألغام مضادة للأفراد في محافظات عدن وأبين ومأرب ولحج وتعز في عامي 2015 و2016، هذا بخلاف استخدامها العشوائي للألغام المضادة للمركبات أيضاً، والمزروعة في مناطق مدنية ومتخفية في شكل صخور أو ألعاب. وهذا كله مخالفة واضحة لإتفاقية حظر الألغام لعام 1997، والتي انضم إليها اليمن عام 1998.
كما أنّ تلك الألغام كانت سبباً لمنع رزق مئات العوائل، خصوصاً تلك التي تعيش على الرعي أو الزراعة، حيث زُرعت تلك المناطق بآلاف الألغام، وفي الوقت ذاته تسببت بمقتل وإصابة العشرات من العاملين في تلك القطاعات، ما جعل العمل فيها رغم بساطتها عملاً محفوفاً بالخطر. وقد اختار بعض المزراعين في بعض المناطق الامتناع عن حراثة أراضيهم خوفاً على حياتهم.
لغم واحد كان كفيلاً بقلب حياة وليد رأساً على عقب
في الحقيقة لم تتسبب الألغام في تغيير حياة المزارعين والعاملين بالأراضي المفتوحة فقط، بل حتّى العاملين في القطاعات داخل المدن. واليوم “أخبار الآن” تفتح كتاب الألم الذي تكمن في صفحاته معاناة اليمنيين من خلال وليد حسّان، الذي أصرَّ رغم كلّ ما حصل له، على البحث عن حياة كريمة. فقد عمل كمتطوع في إسعاف المصابين وتقديم الخدمات الطبية للمرضى في مركز ثعبات الطبي، وعمل كمشرف في الهلال الأحمر اليمني، ثمّ حصل على طرفٍ صناعي مكّنه من العودة لممارسة حياته بشكلٍ أقل ضرراً من السابق، ليبدأ مشواراً جديداً في تخطي حادثة صعبة وتأسيس حياة جديدة.
يُضيف الناجي من لغم الحوثي: “بعد العملية شعرت أنّني ناقص ليس مثل باقي الأشخاص، خصوصاً مع نظرة أطفالي لي، والتي كانت تشعرني دائماً بالعجز، أنا اليوم متطوّع فى جمعية الهلال الأحمر اليمني. قبل الأصابة كان عملي فى مجال الإغاثة وتوزيع المساعدات، وبعد إصابتي مكثت فترة في المنزل، لكنّني عدت إلى العمل بعد تشجيع زملائي، وقد تجاوزت تلك المرحلة الصعبة وعدت إلى ممارسة حياتي الطبيعية شيئاً فشيئاً. مع الحرب تمّ تدمير البيوت بشكل كامل، وتغيّرت حياتنا حتى طريقة التعامل مع أطفالنا أصبحت أسوأ بسبب الحالة النفسية جراء الحرب والإصابة”.
ويتابع: “بعد تركيب الطرف الصناعي أحاول ممارسة حياتي الطبيعية قدر الإمكان، وقد قمت بتركيب الطرف الصناعي في مأرب، كان متقدماً نوعاً ما، والأطراف الصناعية بشكل عام تحتاج إلى تجديد وصيانة لأنّ الألغام الموجودة هي من أسوأ مخلّفات الحروب، وتلك التي تمّت زراعتها من قبل الحوثيين بكميات كبيرة جداً، تؤثّر على الإنسان والحيوان وكلّ شيء”.
لا خرائط لشبكة توزّع الألغام
قصّة وليد واحدة من آلاف القصص المأساوية التي نتجت عن نشر الألغام في اليمن. وما يفاقم الخطر أكثر، هو غياب الخرائط الواضحة لأماكن زرعها، والتي تطرح العديد من علامات الاستفهام تنتهي باستنتاج واضح يقول، إنّ إيران وضعت بصمتها هنا.
فاليمن من أولى الدول التي تخلّصت من مخزونها من الألغام، لكن مع تصاعد سيطرة جماعة الحوثي المدعومة من إيران، عادت الألغام إلى الواجهة في البر والبحر… وطريقة زرع الألغام وحتّى توزيعها في نقاط تحصد أكبر عدد من الأرواح، تُشير إلى الطريقة نفسها التي تستخدمها إيران وميليشياتها مثل الحرس الثوري الإيراني وحزب الله اللبناني.
وقد جاءت تأكيدات على لسان مسؤولين يمنيين حيث سبق أن ذكر رئيس عمليات المقاومة الوطنية العميد ركن عبد الرحمن السامعي، والذي أشرف على كشف شبكة ألغام بحرية في البحر الأحمر، والتي كانت مُثبتة بقاع البحر بكابلات خاصة ضمن أرخبيل حنيش. وقد أكّد حينها أنّ المزيد من الشبكات تتواجد في المنطقة وكلّها يحمل بصمات الحرس الثوري الإيراني وخبراء حزب الله اللبناني.
كما أكد أنّ الكثير من الألغام البحرية التي تمّ تفكيكها هي من نوع صدف إيرانية الصنع، داعياً حينها الأمم المتحدة والمجتمع الدولي إلى الضغط على جماعة الحوثي لتسليم خرائط الألغام، خصوصاً تلك الشبكات المزروعة في أعماق البحر حيث تشكل خطراً على السفن التجارية في البحر الأحمر.
وفي أكتوبر من العام الجاري، قال وزير الدفاع اليمني الركن محسن الداعري إنّ ميليشيا إيران حوّلت اليمن إلى أكبر حقل موبوء بالألغام حيث زرعت الألغام في المدن والطرقات، وحتّى في المزارع والمدارس والأحياء السكنية وذلك في تحدٍّ واضح للقانون الدولي الإنساني .
اليمن أكبر بؤرة موبوءة بالألغام
السعودية كانت من الدول السبّاقة لمساعدة اليمن في حلّ تلك المعضلة من خلال إطلاق مشروع “مسام” لتطهير الأراضي اليمنية من الألغام وتعزيز الأمن في المناطق اليمنية ومساعدة المتضررين من انتشار الألغام، مع تنفيذه حملات تدريب وتجهيز لفرق محلية، والذي تمكّن من تفكيك ما يُقارب من النصف مليون لغم في اليمن، لكن تعنّت الحوثي بتسليم خرائط الألغام والطريقة الخبيثة في زرعها، تُعيق عملية التطهير بشكل سريع.
الألغام ومنذ عشرات السنين صُنفت على أنّها القاتل الصامت للمدنيين خلال وبعد الحروب، حيث كثُر استخدامها كتكتيك عسكري لمنع تقدم القوات المعادية أو حتّى إيقاع الخسائر في صفوفها، لكنّها في الحقيقة دائماً ما تبقى مزروعة وتهدّد حياة المدنيين على وجه الخصوص. فمع تطوّر الأدوات العسكرية باتت الجيوش تملك مضادات للألغام تُمكنها من اجتياز حقول من الألغام والسيطرة على المناطق. لكنّها في الوقت ذاته، تترك العشرات بل المئات وحتى الآلاف منها متناثرة في كلّ مكان، وتحصد في النهاية أرواح المدنيين الأبرياء فقط.
وتُقدر الأمم المتحدة أنّ أكثر من 100 مليون لغم مزروعة حول العالم، 40 % منها في منطقتنا العربية بالتحديد، وأكثر الدول التي تتواجد فيها تلك الألغام اليمن والعراق، بالإضافة إلى دول تُعاني نزاعات طاحنة مثل سوريا وليبيا.
وحتى اليوم، ورغم دعوات الأمم المتحدة المتكررة للتخلّي عن زراعة الألغام وتسليم خرائط زراعتها لها، إلّا أنّ عمليات دفن ذلك القاتل مستمرة خصوصاً لدى الجماعات التابعة لإيران التي تتبنّى ذلك المبدأ بشكلٍ مباشر، حيث ترى في المناطق التي تنسحب منها مصيدة مناسبة لأعدائها، وتعتبر كلّ من يدخل إلى المنطقة عدواً لها إنْ كان عسكرياً أو مدنياً، ما تسبب بانتشارٍ أوسع للألغام خصوصاً أنّ إيران من بين الدول الأكثر تصنيعاً لذلك السلاح، ما سهّل على الحوثي زراعة ذلك الكم الهائل من الألغام في اليمن.
تُحاول الأمم المتحدة ومعها العديد من دول المنطقة المساعدة، حلّ تلك المعضلة في اليمن لإعادة الأمن والطمأنينة للسكان، لكن العملية تبقى معقّدة وطويلة الأمد، ومع ذلك يبقى الأمل بيمنٍ سعيد من دون أيّ خطر على سكانه.