الإختفاء القسري.. يوم الخامس من يناير العام 2015، تاريخ لن تنساه عائلة المواطن العراقي سُهيل الدليمي، الذي كان يعمل كمدرّس ويحظى بحضور اجتماعي وثقافي وسياسي كبير في العديد من المحافظات العراقية، وذلك قبل أن يخرج ذات يوم وتنتظره عائلته لساعات وأيّام وشهور، لكنّه في النهاية لم يعد. كان يُعرف عن سهيل أنّه لطالما يعمل من أجل الوحدة ونبذ الطائفية، داعياً إلى التكاتف مع كلّ أبناء وطنه العراق، حتّى تحوّل ذات يوم إلى مجرّد رقم في قائمة العراقيين المخفيين قسراً.
الإختفاء القسري شبح يطارد أهالي العراق
هكذا انتهى الحال بسهيل الذي كان في طريقه للعيش في محافظة الأنبار، عندما ظنّ كما الكثير من العائلات، أنّ الأمن والأمان ينتظره هناك، لكنّ المفاجأة كانت أنّه كان لمجموعة مسلحين خطّة مغايرة له، بل مخطط إجرامي لا يعترف بأحلام سهيل ولا بالقيم الإنسانيته.
كان ذلك عام 2015 عندما استوقفت تلك المجموعة سيارته أمام أنظار عائلته، واقتادته إلى مصير مجهول لينضم بذلك إلى مليون عراقي آخرين على الأقل، كلّ ذويهم يواجهون الحسرة ذاتها. في العادة الموتى والقتلى يحصلون على دفن لائق، ويحصل ذووهم على نهاية لقصتهم وإنْ كانت نهاية حزينة، لكن مع مليون مختفٍ قسرياً في العراق، فإنّ القصة لا تنتهي أبداً، ويبقى باب الفقد والحزن مفتوحاً على مصراعيه حتّى إشعار آخر.
ففي العراق، حدث على سبيل المثال أن لاحق مسلحون عائلة كاملة بسيارتهم ثمّ اختطفوا ابنهم، ليدخل في قائمة المليون للاختفاء القسري… وحدث أيضاً أن وقف شاب على حاجز لجماعة مسلّحة، واتصل ليطمئن أمّه أنّه عائد مع الخبز، لكنّه لم يعد لا هو ولا أرغفة الخبز… وسمعنا كذلك عن عصابة مسلّحة اقتحمت مكتب إحدى الصحافيات فوجه أفرادها بنادقهم إلى رأسها وحملوها معهم، ثمّ لم يسمع أحد عنها خبراً… في العراق تسمع حكايات على سبيل المثال عن طفل حديث الولادة تُرك فى مأتم، وإنْ عاد أحد ليسأل عنه فلن يجد له أحد أثراً…
الإختفاء القسري نهج مستمر وكابوس لا يفرق بين أحد
كل ذلك حدث ويحدث يومياً في العراق، حيث بات الاختفاء القسري محنة ذاقتها وتتذوقها مئات آلاف الأسر، في مأساة ليست ابنة اليوم بل عمرها نصف قرن على الأقل، وفي كلّ يوم يضاف اسم إلى قائمة مختطفين ومخفيين قسرياً، تجاوزت المليون في بلد ما زال عاجزاً حتّى عن تجريم الاختفاء القسري لأنّ الأمر ببساطة، أنّ من يخفي أبناء العراق ويختطفهم حاضر في كلّ مفاصل الحكم والسلطة، تشريعياً وتنفيذياً وقضائياً، خصوصاً مع وجود مبتزّين وأشخاص يحاولون الإمعان بتعذيب عائلات المختطفين من خلال الإتصال بهم والإدعاء بأنّهم يعرفون مصير ابنهم لمنحهم أملاً كاذباً، وجعل جراحهم تتجدّد كلّ يوم، بينما يكون كلّ همّهم ابتزازهم بمبالغ أخرى من المال، تاركين الوجع يأكل أهالي المختطفين الذين يعلمون أنّ الخاطفين أحراراً جرّاء ضعف تطبيق القانون، وبسبب غياب التشريعات، ما يجعل الأهالي يلجؤون إلى سبلهم الخاصة علّهم يصلون إلى أيّ معلومة عنهم، تصبّر القلوب وتحيي الآمال كما حال أهل سهيل الذين يدفعون كلّ ما يملكون، وقد نذروا كلّ حياتهم من أجل معلومة عن المخفيين.
إلّا أنّ أيّ جهة حكومية في العراق لا تعرف طريقاً إلى سهيل لتبّرد قلب عائلته، حتّى أنّها لا تملك لها ولعائلات مليون عراقي آخر تعويضات عن الفقد جرّاء عدم تطبيق مشروع القانون الخاص بتقديم الدعم لذوي المختطفين، رغم أنّ محنة الاختفاء القسري تمتد وترافق العراقيين منذ عقود منذ أن كان الإختطاف مهمّة أجهزة النظام العراقي السابق في حقبة صدام حسين لإخفاء العراقيين، وصولاً إلى أيّام تولّت الجماعات المسلّحة تلك المهمة. فبحسب لجنة الأمم المتحدة المعنية بحالات الاختفاء القسري، هناك نحو مليون عراقي غير معروفي المصير منذ نصف قرن.
فيما تعيش عائلات هؤلاء الضحايا على أمل الحصول على أيّ إشارات أمل العثور على أبنائها، في ظلّ تفاقم مشكلة “الإفلات من العقاب” التي تعيق حلّ المشكلة، حتّى أنّ اللجنة استمعت إلى عدد كبير من الشهادات حول ضحايا الاختفاء القسري، بينها حالات حدثت مؤخراً، ومن أكثرها وجعاً أنّ أمّاً ما زالت تنتظر ابنها الذي اتصل بها وأخبرها أنّه عند نقطة تفتيش، وأنّ بعض الرجال في الزي العسكري كانوا يتفقدونه، وأنّه سيعاود الاتصال بها بعد ذلك مباشرة لأنّه يحمل الخبز إليها، لكنّه لم يفعل أبداً ولم يعد ولم يحضر إلى أمّه أيّ خبز أو أيّ خبر يعيد قلبها إلى الحياة، كما يبدو أنّ كثيراً من عمليات الإخفاء القسري طالت صحافيين إعلاميين وأصحاب رأي.
في ذلك السياق، قال الناشط الحقوقي محمد حسن السلامي، في حديث لـ”أخبار الآن“: “في 26 ديسمبر 2016، وقعت أوّل حادثة اختطاف لصحافية وكانت واقعة مثيرة وصادمة للعديد من منظمات حقوق الإنسان، وكذلك بالنسبة للعاملين فى الحقل الإعلامي، وبعد خروج موجة كبيرة من التظاهرات تمّ إطلاق سراحها وتحديداً بعد 9 أيام. وقبل هذا التاريخ كان تمّ اختطاف أحد الناشطين حتّى ازدادت حالات الخطف والإختفاء القسري، خصوصاً في عامي 2019 و2020، حتّى أنّ بعض المثقفين المعروفيين وقعوا أيضاً فريسة فى شباك تلك العصابات، ومن هنا زاد الضغط الحقوقي للدفع بمشروع قانون عراقي يُصنّف قضية الاختطاف على أنّها جريمة ضدّ الإنسانية”.
مَنْ يقف خلف منع إقرار قانون تجريم التغييب القسري؟
ويضيف السلامي: “العام 2010 وقع العراق على اتفاقية حماية الأشخاص من الاختفاء القسري، وذلك معناه إصدار قانون يتعلّق بذلك الشأن، وقد تمّ الدفع بمشروع القانون في 2019، لكن لا اعتقد أنّه سيتمّ الاعتراف به لأنّ هناك بعض الجماعات المسلّحة التي تعمل على إخفاء علاقتها بمثل تلك الاختفاءات”.
ويفنّد السلامي أسباب الإختفاء قائلاً: “الأسباب عديدة بينها الصراعات السياسية، ورفض المعارضة، وكذلك تحرير بعض المناطق التى سيطر عليها تنظيم داعش، فقد تمّ أخذ أبناء الكثير من العوائل منها ولم يعرف مصيرهم حتّى الآن، ويمكن القول إنّ آخر 6 شهور هناك أكثر من 500 مختفٍ قسرياً”.
ووفق اللجنة الأممية المختصة بالاختفاء القسري في العراق، فإنّ ما يحدث في البلاد هو نهج نموذجي مستمر لأنّ الاختفاء يشمل الجميع، وهو كابوس لا يفرّق بين أحد، وربّما من أبشع تلك الكوابيس الاختفاء القسري للأطفال خصوصاً الأطفال الإيزيديون الذين ولدوا بعد تعرّض أمهاتهم للاعتداء الجنسي في مخيمات داعش.
5 موجات للإختفاء القسري
كما تقسّم الأمم المتحدة النهج النموذجي للاختفاء القسري في العراق إلى 5 موجات اختفاء رئيسية يتوزع عليها نحو مليون عراقي:
- الموجة الأولى من 1968 إلى 2003، حيث يقدر أنّ ما يصل من 290 ألف شخص اختفوا، بينهم 100 ألف كردي.
- الموجة الثانية من العام 2003 إلى فترة ما قبل سيطرة تنظيم داعش، حيث أسر الجيش الأميركي وحلفاؤه ما لا يقل عن 200,000 عراقي، منهم 96,000 كانوا محتجزون في مرحلة ما، في سجون تديرها الولايات المتحدة أو المملكة المتحدة.
- أمّا الموجة الثالثة فقد حصلت خلال حقبة سيطرة تنظيم داعش الإرهابي، حيث شهدت مناطق واسعة من العراق بين عامي 2014 و 2017، جولات جديدة نفذها إرهابيو التنظيم من عمليات الاختطاف والقتل الجماعي للعراقيين المدنيين، إضافة إلى جنود الجيش العراقي أو أفراد قوّات الأمن.
- الجولة الرابعة بدأت وفقاً للأمم المتحدة مع بدء قوات الحشد الشعبي عمليات عسكرية لاستعادة المدن الرئيسية من داعش، وخلال تلك العملية أخفت تلك القوات الآلاف من العرب السنة، ومعظمهم من الرجال والفتيان.
- وبموجب بيانات اللجنة الأممية، فإنّ موجة أخرى من الاختفاء القسري حصلت خلال احتجاجات 2018-2020 التي جمعت أشخاصاً من كلّ الخلفيات الدينية والعرقية.
تقديرات غير رسمية: مليون وربع مليون عراقي خرجوا يوماً ولم يعودوا
وفي وقت تطالب اللجنة العراق بإدراج جريمة الاخفاء القسري كجريمة مستقلة في التشريعات القانونية وضرورة تشكيل فرقة عمل مستقلة للتحقق بشكل منهجي من سجلات كلّ أماكن الحرمان من الحرية مع أسماء جميع المحتجزين، إلّا أنّ مشروع قانون “مكافحة التغييب القسري” ما زال في أروقة البرلمان الذي ما زال عاجزاً عن إقراره بعد تعطيله لسنوات عدة، من قبل أطراف سياسية رفضت المضي بالتصويت عليه.
واليوم على الرغم من التقديرات غير الرسمية عن أنّ مليون وربع مليون عراقي خرجوا يوماً ولم يعودوا إلى أبنائهم وآبائهم وأمهاتهم وأحبائهم، وعلى الرغم من غياب تشريعات تحمي العراقيين من التغييب القسري والاختطاف، إلّا أنّ مسافة حلم أم وأب تبقى كبيرة بأنّ ابنهم سيعود إليهم يوماً، أو ترقب طفل لدخول والده المختفي من باب المنزل، وربّما ذلك هو الأمل الذي يؤلم أكثر بانتظار الغائبين الحاضرين.