عيونه شاخصة شاردة وكأنّه شبح إنسان ينظر إلى الأرض ولا يكاد يرفع ناظريه عنها… أصابعه مرتعشة ولون وجهه مزرقاً ينظر يمنة ويسرى بين الفينة والأخرى من دون أن يرفع رأسه، وكأنّه يرى أشياء تخرج من الأرض لا نراها… وخلال ثوانٍ يمكن أن يتحول إلى هائج عدواني مندفع لا يخاف تراوده أفكار إنتحارية لا يتوانى عن إيذاء أقرب الناس إليه… ذلك بعضُ من حالِ كلّ من يجرب ولو لمرّة أن يستنشق ذلك السمّ الشيطاني، مخدّر البوفا أو “كوكايين الفقراء” كما بات يُعرف في المغرب.
بضع غرامات كافية لتدمير حياة شاب وعائلة كاملة
بضع غرامات من ذلك الحجر الأبيض الكريستالي بدولارات قليلة، كافية لتدمير حياة شاب وعائلة كاملة، ومن ثمّ ربّما مجتمع لأنّ أخطر ما في البوفا أنّه بات بمتناول الجميع في المغرب خصوصاً الشباب. وعلى عكس المخدّرات الكلاسيكية كالكوكايين والهيروين، تتضاعف أعداد متعاطيه في المغرب جرّاء توفّره في الأسواق، نظراً لثمنه الرخيص حيثُ يصل سعر الغرام الواحد إلى 50 درهماً (5 دولار)، ما جعل البوفا مخدّراً ليس كغيره وكفيلاً بإرعاب كلّ البلاد، ويظل حقيقة أن جرعة واحدة فقط تكفي للسقوط في براثن إدمان مدمر يصعب التخلص منه. ولذلك وجد بارونات المخدّرات طرقاً شيطانية للترويج للبوفا في أوساط الطلبة والشباب، من خلال تصويره على أنّه تجربة لمعايشة تغيّرات ذهنية وجسدية من النشوة بسعر قليل، ما أدّى إلى انهيار منظومات اجتماعية وأخلاقية وصحيّة في مناطق كثيرة.
في ذلك التقرير الخاص لـ”أخبار الآن“، نذهب معكم في رحلة محفوفة بالمخاطر، بالصوت والصورة، إلى الأقبية السرّية حيث يصنع “كوكايين الفقراء” في المغرب مروراً بالمافيات التي تبني ثروات وقوّة هائلة عبر ترويجه بين الشباب، وصولاً إلى ضحايا البوفا الذين تحوّلوا إلى عبيد مخدّر يجهل كثيرون أصله وفصله، وقبل كلّ ذلك ربّما يجب أن نفهم جيّداً ما هو مخدّر البوفا، وكيف يتمّ تصنيعه.
ومن أجل ذلك، توجهت كاميرا “أخبار الآن” إلى أكثر الأماكن خطورة وسرية حيث تمكّنا من لقاء أحد طبّاخي مخدّر البوفا – رفض الإفصاح عن أسمه – فقال: “هناك البوفا على شكل حجر تُستورد من خارج البلاد مُصنعة، وهناك أيضاً على شكل مسحوق تُستورد من الخارج ليتمّ تصنيعها محلياً من خلال… (أخبار الآن تتحفظ عن ذكر تفاصيل كيفية تصنيعه البدائية). والبوفا يمكن أن تكون صناعته صناعة خارجية أم محلية، لكن المواد المستعملة في التحضير كالكوكايين ليست إنتاجاً محلياً، فهي دائماً مستوردة “.
إذاً هو الكوكايين، المركب الأساسي لمخدّر البوفا، وهو ما يطلق عليه في الدول الغربية “الكراك”. الذي ظهر لأوّل مرّة في الثمانينيات من القرن الماضي في كلّ من الولايات المتحدة الأميركية وفي أوروبا، حتّى وصلت تلك الآفة ذروتها أواخر التسعينيات من القرن الماضي.
أمّا اسم البوفا وفقاً لكثير من الخبراء، فيرجع إلى الصوت الذي تنتجه عند التسخين (poufer). وبما أنّ مكوناته الأساسية لا تتوافر في المغرب، فكان لابدّ من معرفة طرق دخوله إلى البلاد حيث تتحدث ترجيحات أنّها تدخل مع المهاجرين من جنوب الصحراء، حيث يتمّ استغلال بعضهن كناقل للكوكايين عبر الحدود في أحشائهم، ومن ثمّ من أجل مضاعفة هامش الربح يتمّ استغلال فوائض الكوكايين وتحويلها إلى حجر صغير يُدعى البوفا، وذلك ما حدثنا عنه أيضاً أحد طبّاخي البوفا الذي التقيناه في مكان ما بالمغرب، وقال: “البلدان المعروفة التي يتمّ استيراد مواد طبخ البوفا (الكوكايين) هي أوروبا وأميركا اللاتينية وأيضاً من جنوب الصحراء الأفريقية. ثمّ يتمّ تحويل تلك المواد إلى بوفا كما يتمّ إدخال البوفا جاهزة للإستهلاك حيث تُصنع هناك في المختبرات، لكن في الغالب يتمّ تصنيعها محلياً. وبالنسبة لتحضير البوفا فهي تكون على شكل أحجار في صيغتها النهائية، ونحن هنا في الشمال نُصنعها يدوياً في الغالب.
وما أن تصبح جاهزة للاستهلاك تبدأ رحلة “كوكايين الفقراء” إلى الشوارع والأزقة الأكثر فقراً في كلّ مدن المغرب، خصوصاً الدار البيضاء التي تتحدث الجهات الأمنية فيها أنّ مخدر البوفا ظهر مؤخراً بشكل كبير، حتّى أنّ ولاية أمن الدار البيضاء تعاملت مع 251 قضية خلال الفترة 2022 والـ 7 أشهر الأولى من العام 2023، وهي الفترة ذاتها التي شهدت ضبط نحو 3 كيلوغرامات و699.8 غرام من مخدّر البوفا، بينما أوقفت المصالح الأمنية على مستوى مختلف المدينة نحو 324 شخصاً وقاصراً إضافة إلى 19 فتاة فيما تتحدث تقارير إعلامية عن أنّ بارونات ومروّجي مخدّر البوفا بات من الممكن وصفهم بالقتلة بعد أن تمكّنوا من تحويل كثير من الأحياء المهمشة إلى سوق ترويج للبوفا من خلال الترويج لذلك المخدّر الشيطاني بسعر منخفض يجعله بمتناول الفقراء والشباب.
ولأنّ تأثيره سريع وينتهي خلال فترة لا تتجاوز 15 دقيقة، فإنّ الشباب يبحثون دائماً عن جرعات إضافية ما يسرّع عملية الإدمان، وذلك ما أكّده الدكتور عادل عبودي، وهو نائب رئيس جمعية الوقاية من أضرار المخدّرات في المغرب، قائلاً: “البوفا حالياً موضوع شائك ومعقّد لأنّها كما أصبحت تُعرف بكوكايين الفقراء، لأنّ ثمنها رخيص كون المصنّعون الذين يُعدّونها داخل مصانع سرية، حيث تُضاف أوساخ وبقايا الكوكايين ومواد أخرى… لاستخراج كريستال يُسمى في بعض المناطق بالكراك. ومشكلة ذلك المخدّر تكمن في خطورته من حيث الطاقة الإدمانية لإنّ استعمال جرعة أو جرعتين منه يجعل الشخص مدمناً عليه بشكل كبير”.
أعرض وآثار مخدّر البوفا الخطيرة
وقال لـ”أخبار الآن“: “من أعراض تعاطي البوفا الآثار السلبية التي تصاحبه من اعتلالات نفسية تجعل المدمن مُندفع لا يخاف وعدوانياً تراوده أفكار انتحارية، ليتحوّل المدمن إلى خطر على نفسه ومحيطه وعائلته، وذلك أخطر ما في البوفا على عكس المخدّرات الكلاسيكية كالكوكايين والهيروين.
وتابع الدكتور عبودي: “ذلك كلّه قبل أن تثور مطالبات لمحاربة شبكات تجارة وترويج وتصنيع البوفا على مستوى التراب المغربي، عبر تشديد القبضة الأمنية وتوفير الفضاءات والاهتمام بالشباب، إلى جانب توفير العلاج المجاني للإدمان وتمويل الأدوية والتطبيب والاستشفاء، وتكثيف الحملات التوعوية من أجل التعريف بمخاطر الإدمان على البوفا بالنسبة للفرد والمجتمع، خصوصاً أنّ ذلك المخدّر الذي تُقبل عليه بشكل خاص الفئات من الطبقة الفقيرة، يعتبر من بين المخدّرات التي يصعب معالجة الإدمان عليها، حيث يتطلب التعافي التام منها التحلّي بعزيمة قوية والعزل بمصحة متخصصة.
أضرار مخدّر البوفا أكثر سوءاً وعنفاً من تداعيات تعاطي الكوكايين
كما عدّد أضرار ومخاطر تناول البوفا فقال: “مخدر البوفا يتسبب بآثار وعواقب أكثر سوءاً وعنفاً من تلك التي يسببها الكوكايين، بداية من التحفيز الذهني مع الصداع وشعور المتعاطي وكأنّه في حلم سرعان ما ينتهي، وذلك ما يُعرف بالهبوط الذي يقترن بالإكتئاب والقلق والصداع وعدم الإرتياح الذي قد يؤدّي إلى الإنتحار. ولا ينتهي ذلك الشعور إلّا بأخذ الجرعة التالية، وهنا تكمن خطورة الدخول في دوامة التعاطي والإدمان، وعلى المدى البعيد يتسبب البوفا في اتساع حدقة العين وارتفاع درجة الحرارة الجسم وزيادة معدّل ضربات القلب وارتفاع ضغط الدم، ويكون المدمن معرّضاً للإصابة بمضاعفات كنوبات القلب وضيق التنفس، والسكتة الدماغية والصرع، وقد يصاب بآلام البطن المفاجئة والعنيفة التي تستمر لساعات أو أيّام، ذلك إلى جانب سوء التغذية، وفقدان الوزن، وتساقط الأسنان والشعر”.
كما أنّ الإستخدام المنتظم يرفع من اكتمال بعض الإضطرابات مثل الهلوسة والإثارة وعدم ضبط النفس والقلق، ما يؤدّي إلى حدوث نوبة الذهان المصحوب بجنون العظمة، وكثيراً ما تتفاقم تلك الأعراض حتّى الوصول إلى حالة الانتحار رغم تعاطي الجرعة التي ستصبح في مرحلة ما غير كافية أيّاً كانت كميتها. وذلك ما أسهب في شرحه الدكتور عادل عبودي قائلاً: “كما هو معروف، فإنّ أيّ مخدّر يكون علاجه صعباً جدّاً في غياب إرادة المتعاطي والعزيمة للخروج من ذلك المستنقع، لكن في مراكز طب الإدمان هناك مصاحبة ومراقبة طبية و نفسية”.
كيف يمكن أن يكون العلاج؟
ويتابع: “بخصوص مخدر البوفا فتفرض التهيؤات والهلوسات التي يعاني منها مدمن البوفا على الطبيب المعالج أن يمر عبر مراحل تبدأ ممّا هو نفسي لعلاج الإنسحاب أوّلاً، وهي مرحلة سحب تلك المادة من الجسم، والتي تعطي متاعب نفسية وجسدية، وبالتالي لابدّ من أدوية مخفّضة للألم والإكتئاب وأدوية تساعد على النوم، وأيضاً أدوية القلق وبعض الحالات التي تصل إلى الفصام في الشخصية، حيث يصل الأمر إلى وصف أدوية قوية في مجال الطب النفسي إلى جانب العلاج السلوكي المعرفي، حيث تعمل على تحفيز المريض لتقييم ذاته وتقوية شخصيته أمام الإغراء، ويكون الأمر إمّا عبر حصص فردية أو جماعية لتقوية قدرته للخروج من براثين ذلك المخدّر، وهناك الحالات الصعبة التي تستدعي وجود المريض في المستشفى لأنّ متابعته يجب أن تكون دائمة عبر طبيب نفسي والمعالج النفسي لان محاورته مهمة جداً”.
عوامل مساعدة في العلاج
ومن أجل كلّ ذلك، يبدو أن المغرب لا يحارب اليوم مخدّراً عادياً، بل البوفا الذي بات أصعب المخدّرات التي يتمّ الترويج لها في البلاد، ما يحتم ضرورة الرفع من مستوى مراكز علاج الإدمان، والتركيز على أهمية الاحتضان الأسري والدفء العائلي الذي يشكل أوّل الطريق لاحتواء المدمن والبدء في علاجه، قبل إحالته على الطب النفسي وطب الإدمان، لأنّ الشفاء من إدمان البوفا لا يتوقف فقط على الأدوية والبرامج الطبية، بل يتعداها إلى ضرورة إرساء منظومة تعليمية وأخلاقية وأمنية متكاملة لإعطاء الشباب شعور القوّة الحقيقي الذي يحتاجونه، وليس الشعور بالقوّة جرّاء النشوة بالمخدّرات، ومن ثمّ التجرّد من القيم ما قد يدفع إلى إيذاء النفس أو الآخرين، خصوصاً أنّ من آثار التعاطي لذلك النوع من المخدّرات، الشعور بالقلق الشديد والتوتر وفقدان القدرة على النوم لمدة تصل إلى 4 أيام، ما يدفع البعض إلى استهلاكه مع أنواع أخرى من المخدّرات مثل الحشيش الذي يمنح رغبة بالنوم.
الحاجة إلى دعم المبادرات من أجل القضاء على انتشار البوفا
محمد بنتاوت، هو متعاطي سابق للمخدّرات وناشط ميداني في مجال الوقاية من المخدّرات حالياً، تحّدث لـ”أخبار الآن” عن متعاطي المخدّرات الأخرى مثلاً الهيروين، إذ أنّ التأثير يكون نفسياً وجسدياً، والإنسحاب منه يؤثّر على الجسد والعقل.. في السابق حتّى مستعملو البازي أو الكراك كان ألمهم نفسياً أكثر منه جسدياً، والإحساس العقلي برغبة في المزيد من الجرعات، حيث لوحظ أنّ الألم يكون جسدياً أكثر وهو أمر يجعلنا نخاف من أن تكون البوفا تتضمن حتّى الهيروين في تركيبتها.
يبدو أنّ ألم الرغبة بات المصطلح الطبي المرتبط بما يعانيه بعض من جيل الشباب اليوم في المغرب، ففي ظاهرة البوفا هنا، الحديث عن فئة ليست ممن تعاطوا سابقاً أنواع أخرى من المخدّرات مثل الهيروين والكوكايين، بل يتعلق الأمر بمن انتقل مباشرة من التدخين أو مادة الحشيش المخدّر مباشرة إلى “كوكايين الفقراء”، أي مخدّر البوفا وعادةً ما يتمّ استهلاك ذلك المخدّر في فضاءات احتفالية من قبل ليس فقط الفتيان بل الفتيات في سنّ المدارس، ما يُسهل استغلالهن على مستويات أخرى كامتهان الجنس والدعارة، ما يضع المجتمع المغربي أمام معضلات أخرى كانتشار الأمراض المنقولة جنسياً والحمل غير المرغوب فيه، وما يترتب على ذلك من مشاكل اجتماعية وصحية أخرى، ما يؤكّد أنّ استهلاك البوفا ليس خطراً فقط كمخدّر شيطاني بل أيضاً مدخل إلى مجموعة من المشاكل الصحية والاجتماعية الأخرى، في وقت يبدو أنّ كثيراً من المراكز المتخصصة ما زالت تنقصها الخبرة اللازمة في التعامل مع ذلك النوع الجديد من الإدمان.
وفي السياق، قالت الأستاذة فوزية بوزيتون، مديرة جمعية حسنونة، لمساندة متعاطي المخدّرات: “بالنسبة لما يُسمى بمخدر البوفا والذي ظهر في السنوات الأخيرة، فليست لنا كجمعية معرفة عميقة به، لكن من خلال الملاحظة العينية من خلال متدخلينا الميدانيين بشكلٍ يومي الذين يتواجدون في أماكن تعاطي المخدّرات، ومن خلال الاستماع إلى مجموعة من الشباب المعنيين باستهلاك ذلك المخدّر، يُمكننا القول إنّنا نتعامل مع مخدّر جديد إلى حدّ ما رغم أنّ طريقة استهلاكه لا تختلف عن طريقة استهلاك مخدّر الكراك. لكن بالنسبة إلى محتوى ذلك المخدّر، فلا يمكننا أن نجزم بطبيعة المواد الموجودة فيه، إذ أنّ هناك مَنْ يقول إنّها خليط من منشط الكوكايين ومهدىء الهيروين، وثمّة مَنْ يقول إنّها مادة الكوكايين ممزوجة ببعض المواد الأخرى”.
وتضيف: “للأسف الشديد إنّ إمكانياتنا لا تكفي لتحديد واستهداف متعاطي كلّ المواد المخدرة وجميع الفئات، لذلك نحن كمتخصصين نرحّب بأيّ مبادرات تمكننا من العمل أكثر على موضوع البوفا، ونحن على أتمّ الإستعداد للتنسيق من أجل إيجاد الحلول إيجاد والخروج باستراتيجيات العلاج والوقاية من المخدرات”.
ورغم كلّ تلك الصعوبات، ما زال الأمل كبيراً بأنّ يصحو المغرب على يوم، وقد انتصر فيه على “كوكايين الفقراء” بعد قطع دابر مخدّر البوفا وتعافي كلّ من ابتُليَ به منه، فكلّ شي ممكن، ولا شيء مستحيلاً والدليل ما قالته فتاة مغربية تعافت مؤخراً من ذلك المخدر: “البوفا شر مطلق يسرق منك الحياة، واليوم أشعر وكأنّني ولدت من جديد”.