ليتوانيا، الدولة التي يجمعها تاريخ مشترك مع أوكرانيا في مناهضة السوفييت، تضع نفسها في مكان خاص في قلوب الأوكرانيين بعدما مدّت لهم جسوراً عديدة لدعمهم في المحافل الدولية والمنظمات الإنسانية والمؤسسات العسكرية. كلّها أماكن لا تخلو من بصمات وضعها الليتواني عبر منظمات ومؤسسات رسمية وغير رسمية، أشهر تلك المنظمات The Blue/Yellow NGO، أكبر منظمة غير حكومية تدعم أوكرانيا في أوروبا الغربية، تقدّم المساعدة التكنولوجية للقوّات المسلّحة الأوكرانية والإدارات العسكرية والخدمات المدنية.
يذهب 100 % من التبرّعات التي تصل المنظمة إلى أوكرانيا من دون اقتطاع أيّ أموال منها، لأنّ المنظّمة تعتمد في عملها بشكل شبه كامل على المتطوعين. التقى فريق “أخبار الآن” رئيس The Blue/Yellow في ليتوانيا يوناس أومان. حدثنا خلال المقابلة عن أهمية دور المنظمة في حماية المدنيين ودعم المقاتلين للدفاع عن أنفسهم، وكشف لنا عن الدور الذي تلعبه إيران والصين في تلك الحرب. ويقول: “نحن ندعم القوّات المسلحة الأوكرانية ونصوّب كلّ جهودنا نحو دعم وحدات مختلفة من القوّات المسلّحة سواء كانت الجيش أو القوّات الخاصة والقوى الأمنية من دون تمييز، إذ أنّنا ندعم الجميع، ونقدم الأسلحة غير الفتاكة، فنحن لا نقدّم الأسلحة بل معدّات تساعد الأوكرانيين على الدفاع عن نفسهم ومقاتلة الروس بطريقة فعّالة. لدينا مفهوم يدعى دعم القتال، فنحن لا نحمل السلاح ونقاتل، لكنّنا ندعم الوحدات القتالية ونسألها عن حاجاتها مثلاً إلى الطائرات المسيّرة ومعدّات الرؤية الليلية ونؤمنها لها بسرعة”.
هجوم روسيا جورجيا العام 2008 شكّل بداية الشرارة
أدركت ليتوانيا مبكراً الخطر الذي تشكله روسيا على جيرانها، وأنّ عداء الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لن يتوقف عند جورجيا و القرم وأوكرانيا منذ اندلاع ثورة الكرامة التي تعرف أيضاً باسم الميدان الأوروبي، وهي احتجاجات وقعت في أوكرانيا العام 2014 وأطاحت بالرئيس الأوكراني الموالي لروسيا فيكتور يانوكوفيتش لامتناعه عن توقيع اتفاقية شراكة اقتصادية مع الاتحاد الأوروبي. منذ ذلك التاريخ اتخذت ليتوانيا خيار تقديم الدعم لأوكرانيا ضدّ روسيا، ودانت بشدّة احتلال ومحاولة الضم غير القانوني لجمهورية القرم المتمتعة بالحكم الذاتي، وكان الجانب الليتواني من أوائل الذين دعموا إنشاء “منصة القرم الدولية” العام 2021، وهي مبادرة أوكرانية هدفها إنهاء احتلال شبه جزيرة القرم.
ويوضح يوناس أومان أنّه “من المهم أن نشدّد عل أنّنا بدأنا عملنا العام 2014 مع دخول روسيا شبه جزيرة القرم وضمّها إليها، وبدء التمرّد في منطقة دونباس. لقد فهمت على الفور أنّ تلك حرب. ولا بدّ أن نتذكر أنّه عندما هاجمت روسيا العام 2008 جورجيا، شكّل ذلك الهجوم إشارة بالنسبة لي وفال شؤم بنظري. كما تفاجأت كثيراً بعدم قدرة العالم طيلة 6 أعوام على إدراك الخطر الذي تمثله روسيا لأنّ ذلك الخطر كان بديهياً بسبب خطاباتهم العدوانية وإصلاح الجيش والمناورات العسكرية إلى ما هنالك. وبالطبع لقد حصل ما حصل بعد ذلك”.
كانت ليتوانيا رائدة في الاتحاد الأوروبي في فرض عقوبات وطنية قوية ضدّ روسيا، وأوّل دولة عضو في الاتحاد الأوروبي تقرّر طرد السفير الروسي في 4 أبريل العام 2022. بعد العدوان الروسي على أوكرانيا، قدّمت ليتوانيا لأوكرانيا الدعم الإنساني والسياسي والاجتماعي، فقد وفرت المأوى لأكثر من 77 ألف أوكراني معظمهم من النساء والأطفال الذين فرّوا من الحرب، وقام 70 % من السكان الليتوانيين بتقديم السلع المادية والأموال لأوكرانيا العام 2022، ويقترب إجمالي الدعم الذي تقدمه ليتوانيا إلى أوكرانيا بما في ذلك الدعم من جانب المنظمات غير الحكومية والشركات والأفراد، من 1.5% من الناتج المحلي الإجمالي.
يتابع يوناس أومان لـ “أخبار الآن“: “العام الماضي وخلال العدوان الروسي المفتوح على أوكرانيا، حصل تدفق كثيف للهبات، لقد جمعنا حتى الآن نحو 50 مليون يورو في منظمتنا، وجمعنا مع منظمات أخرى تقريباً 15 مليون آخرين. تأتي غالبية تلك الهبات من ليتوانيين سواء كانوا مواطنين أو شركات، ولكن من دول خارجية أخرى تدعمنا كثيراً”.
هدف المنظمة العام هو جمع 10 ملايين يورو لأوكرانيا
تقوم المنظمة بشحن الإمدادات الطبية الحيوية من الولايات المتحدة إلى الخطوط الأمامية في أوكرانيا، وتقدّم دعماً للأطفال من خلال توفير الملابس والمواد التعليمية وتعمل بشكل مباشر مع العائلات ومراكز إيواء اللاجئين، كما توفّر المأوى الموقت والغذاء للأشخاص الذين فقدوا منازلهم في الحرب. وتبحث المنظمة دائماً طرقاً جديدة لتشجيع كلّ من الليتوانيين والأجانب على دعم أوكرانيا مالياً. ومؤخراً أطلقت آداة رقمية جديدة لجمع 10 ملايين يورو لأوكرانيا، وتقوم فكرة المشروع الذي حمل اسم Digital UA Soldiers، على السماح للأشخاص بالمشاركة في دعم أوكرانيا على شكل لعبة، إذ يمكن لأيّ شخص أن يصبح مالكاً لجندي أوكراني افتراضي شخصي من خلال التبرع بأيّ مبلغ من المال، واختيار المكان الذي سيتمّ نشر الجندي فيه في أوكرانيا.
كان هدف المنظمة جمع مليون دولار على الأقل لأوكرانيا بحلول نهاية العام 2023، في حين أنّ الهدف العام هو جمع 10 ملايين يورو، وتذهب الأموال التي يتمّ جمعها إلى أوكرانيا على شكل طائرات من دون طيّار وأجهزة رؤية ليلية ومركبات ومساعدات أخرى”. وفي ذلك السياق، يقول: “لدينا عدد من المعدات ومنها المسيّرات والأسلحة البصرية بشكل واسع. فلدينا مناظير ومناظير للقنص ومناظير للبنادق. كما نقدّم أنواعاً مختلفة من المعدات الخاصة بالرؤية الليلية للاستعمال الخاص أو لاستعمالات أخرى. ولدينا أيضاً معدات للرؤية الحرارية. يمكنني أن أعطيك مثلاً عن ذلك. كما نعلم، يستعمل الروس صواريخ شاهد الإيرانية لضرب المدن الأوكرانية. وبالتالي لردع تلك الصواريخ، لدينا مدافع رشاشة نزودها مثلاً بمناظير حرارية من ليتوانيا، فهناك مصانع لها في ليتوانيا وهي مصانع متطوّرة جدّاً. ما أن تتم رؤية الصاروخ بعيداً في الجو، يمكن استعمال المنظار الحراري لإسقاطه. كذلك نعمل في مجال الآليات والنقل وقد قدمنا 500 آلية تقريباً خلال السنة والنصف المنصرمة، ومنها شاحنات بيك-أب وشاحنات صغيرة للركاب وسيارات جيب إلى ما هنالك… كما نعمل في مجال الأدوية والاتصالات اللاسلكية، وقد جمعنا 14 مليون يورو لتأمين رادارات لقوّات الدفاع الجوي الأوكرانية على سبيل المثال”.
تمتلك منظمة The Blue/Yellow فرق متخصصة في تكنولوجيا المعلومات، ولديها تقنيون يعملون على تطوير الطائرات من دون طيّار، وقد نجحوا بإنشاء برامج صناعية متخصصة وأنظمة تحكّم آلية وأنظمة معلومات جغرافية. وتأتي تلك التقنيات للمساعدة في إنقاذ الأرواح والمساعدة في القضاء على التهديدات التي يتعرّض لها المدنيون، ومساعدة الأشخاص المتضررين من القتال”.
تشتدّ حرب المسيّرات بين أوكرانيا وروسيا التي تفضّل استخدامها لضرب المنشآت الحيوية والبنى التحتية الأوكرانية، أمّا القوّات الأوكرانية، فقد نجحت بالوصول إلى العمق الروسي بفضل المسيّرات، وتستخدم أوكرانيا تلك المسيّرات على نطاق واسع، وذلك لكفائتها في المعارك وانخفاض تكلفتها مقابل القذائف.
مسيرات بتكلفة متواضعة لكنّها فعاّلة
هذه المسيرة هي إنتحارية، وهي تستعين بكاميرا صغيرة. كما أنها تطير. هذه المسيرة مثلاً هي من المسيرات التي تبحث عن هدف معين وما أن تجده، يتم إطلاق هذه المسيرة الصغيرة عن بعد 4 أو 5 أو 6 كيلومترات وتحميلها متفجرات. وتبلغ كلفتها ثلث كلفة أي قذيفة مدفعية. فكلفة هذه المسيرة تبلغ 400 دولار أميركي أما كلفة القذيفة المدفعية فتتراوح بين 1000 و1200 دولار أميركي تقريباً. وهي أكثر فعالية فنسبة فعاليتها تبلغ تقريباً 50% أما فعالية القذائف فهي أقل من 10% بكثير
مياه بحر قزوين، هدوء خادع يخيم على أكبر مسطح مائي على وجه الأرض. ذلك البحر رغم هدوئه إلّا أنّه يشكّل نواة التعاون بين موسكو وطهران، ويزدحم بالسفن التي تنقل العتاد العسكري من إيران إلى روسيا لاستخدامها في أوكرانيا، حيث تقوم إيران بتزيد روسيا بالأسلحة مقابل توفير معدّات متطوّرة للجيش الإيراني.
ما بين أكتوبر 2022 وأبريل 2023، تمّ نقل 300 ألف قذيفة مدفعية و10 ملايين طلقة ذخيرة إلى روسيا عبر بحر قزوين. ويقول يوناس أومان: “تقدّم إيران قذائف مدفعية لروسيا لكنّها آتية من الصين، ولدينا دليل على ذلك بالصور. وبالتالي فنحن ندرك أنّه كما في نزاعات أخرى من حول العالم، يمكننا أن ندعو إيران محور الارهاب العصري في عدّة أشكال. وكلّما رأيت نزاعاً من حول العالم سواء كان في أوروبا أو في الشرق الأوسط، فهناك دائماً دور لإيران التي بسبب سياستها وفلسفتها الوحشية والموارد العامة التي تملكها على مستوى المعدات والموارد البشرية والاستخبارات، بدأت تخلق المتاعب للجميع، فهي تشكّل إحدى أكبر المشاكل التي نواجهها اليوم”.
طائرات إنتحارية من طراز شاهد 136، وطائرات استطلاع وهجوم من طراز مهاجر-6
تنقل إيران لروسيا طائرات إنتحارية من دون طيّار من طراز شاهد 136، وطائرات استطلاع وهجوم من دون طيّار من طراز مهاجر-6، وبسبب نقص الصواريخ الروسية قدمت إيران صواريخ فاتح 110 وذو الفقار، وهي أرخص من الصواريخ الروسية مثل كروز وكاليبر، واستخدمت إيران أيضاً قوارب وشركة طيران مملوكة للدولة لإرسال طائرات من دون طيّار مسلّحة طويلة المدى إلى روسيا. وفي المقابل تزوّد روسيا إيران بطائرات مقاتلة روسية من طراز سوخوي-35، وأنظمة مضادة للصواريخ من طراز إس-400 وأقمار صناعية عسكرية.
يضيف يوناس أومان في حديثه لـ “أخبار الآن”: “كانت كشفت تقارير أميركية خطط روسية وإيرانية، لبناء منشأة إنتاج للطائرات من دون طيّار الهجومية المصمّمة إيرانياً داخل روسيا، ما يمنح موسكو قدرة محلية أكبر على استخدام تلك الطائرات في حربها على كييف، وقد رأيت في عدة مناسبات ذخائر مدفعية صينية. ولماذا لا تقدّم الصين الأسلحة بشكل مباشر؟ بحسب معلوماتنا، إنّها تستعمل عملاء لها يمكنهم أن يكونوا كوريا الشمالية أو إيران أو أطراف أخرى”.
في الأيّام القليلة التي سبقت الغزو الروسي لأوكرانيا، أعلن الرئيس الصيني شي جين بينغ وبوتين أنّ الشراكة بين بلديهما “ليس لها حدود”، ومطلع العام 2023 جاء في تقرير للاستخبارات الأميركية رفعت عنه السرية، أنّ الدعم الصيني كان حاسماً لقدرة روسيا في مواصلتها الحرب على أوكرانيا، وخلص التقرير إلى أنّ الدعم الصيني تركّز بشكل كبير على دعم الاقتصاد الروسي للتخفيف من تأثير العقوبات الغربية. فقد زادت الصين من واردتها من صادرات الطاقة الروسية، كما زادت بكين بشكل كبير من استخدام عملتها “اليوان” وبنيتها التحتية المالية في العمليات التجارية مع روسيا، الأمر الذي سمح للكيانات الروسية بإجراء معاملات مالية من دون قيود الحظر الغربي، ودعمت بكين بشكل مباشر المجهود الحربي الروسي من خلال بيع التكنولوجيا والمعدّات “ذات الاستخدام المزدوج”، أيّ أنّ المعدّات قد يكون لها استخدامات مدنية وعسكرية.
ويقول رئيس المنظمة: “كذلك لدينا بعض الشكوك بشأن مواد أخرى آتية من الصين، لكن ليس لديّ دليلاً في ما يتعلق بالذخائر، إلّا أنّني رأيتها بأمّ العين. صحيح أنّ الدعم الصيني ليس دعماً واسع النطاق حالياً، لكن هناك قنوات تواصل قوية لذلك، وإن دعت الحاجة تستطيع الصين أن ترفع بسرعة دعمها لروسيا. وإنْ أردنا التحدّث عن الجغرافية السياسية، إنْ كانت الصين لا تملك مصلحة حقيقية في التورّط مباشرةً في الحرب، فلديها مصلحة في ألا تخسر روسيا تلك الحرب، وتلك نقطة لا بدّ من فهمها وفهم أنّ هناك رهانات أخرى، وبالتالي فإنّهم يفكّرون في كلّ الاحتمالات”.
العام 2022 بلغت التجارة الثنائية بين روسيا والصين مستوى قياسياً، حيث ارتفعت الواردات الروسية من الصين بنسبة 14 % وقفزت الصادرات إلى الصين بنسبة 43 %، وكان أحد الجهود الكبرى التي بذلها الغرب ضدّ روسيا يشتمل على قطع إمدادات البلاد الموثوقة من أشباه الموصلات اللازمة للعديد من الأجهزة الحديثة، لكنّ الصين نجحت عبر إنشاء شركات وهمية متعدّدة بشراء أشباه الموصلات في السوق المفتوحة، ثمّ إعادة بيعها إلى روسيا”. وفي ذلك الصدد، يضيف يوناس أومان: “نحن نجمع المعلومات الاستخباراتية عن روسيا علماً أنّه مهمّة حكومية، لكنّنا نجمع معلومات عن روسيا ويمكنني أن أعطيك مثالاً عن السبب الذي يمكن أن يطيل أمد الحرب بناءً على معلوماتي”.
عدد قتلى وجرحى الحرب من الطرفين يقترب من الـ 500 ألف قتيل
بعد مرور أكثر من 600 يوم على الحرب التي شنتها روسيا على أوكرانيا، ذكرت صحيفة نيويورك تايمز أنّ عدد قتلى وجرحى الحرب من الطرفين يقترب من الـ 500 ألف قتيل، وبحسب الصحيفة نقلاً عن مسؤولين أميركيين لم يكشفوا عن هويتهم، أنّ خسائر الجانب الروسي تجاوزت الـ 120 ألف قتيل وهناك أكثر من 170 ألف مصاب. مؤخّراً قام الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بإصدار مرسوم لزيادة القوّات العسكرية بنسبة 15 % ليصل تعداد الجيش الروسي إلى مليون و 320 ألف عنصر، وتلك خطوة تشير إلى أنّ روسيا تتطلع لاستمرارية الحرب في أوكرانيا، والتي إذا ما انتهت لن تكون الأخيرة لروسيا في المنطقة.