الصين تعبث في أوروبا الشرقية، وهذه المرة من بوابة صربيا، استثمارات مليارية، ومشاريع عملاقة، وتدخلات كبرى، وحياة الآلاف في خطر، ذهب ونحاس وموارد مهمة، انتقلت في ليلة وضحاها إلى يد الصين، وقرى ومدن تعيش المرض والجوع بسبب بكين، ماذا تفعل الصين في صربيا؟ وماذا تريد منها؟ أخبار الآن وصلت لمكان القصة، وجلبت لكم الخبر المؤكد بألسنة الشهود.
بكين وثروات صربيا
لطالما نظرت الصين للقارة الأوروبية، كموقع مهم لتوسيع نفوذها واستراتيجياتها، تحديداً أوروبا الشرقية التي يراها الجميع، خاصرة هشة للقارة العجوز، فما بالك إذا وجدت بكين دولة لا تختلف معها كثيراً وهي صربيا، وبالفعل كانت تلك هي البوابة، الصين ومنذ عام 2009 عززت روابطها الاقتصادية والدبلوماسية بشكل كبير مع صربيا، كما وجدتها شريكاً بارزاً لها في مبادرة الحزام والطريق، وعلى هذا الأساس قدمت لها تمويلاً ضخماً، على الجانب الآخر ترى صربيا بالصين حليفاً قوياً، وداعماً لها في قضية كوسوفو التي تقلقها، والتي تُعتبر محور خلافها مع محيطها الأوروبي، بكين على مدار السنوات قدمت استثمارات بالمليارات لصربيا، خصوصاً في مجال البنية التحتية للدولة مثل الجسور والسكك الحديدية والطرق، ففي عام 2014 نفذت شركات صينية عملية بناء جسر الصداقة، وذلك على نهر الدانوب في صربيا، ووصلت تكلفته حينها لنحو 260 مليون دولار، و غيره الكثير من المشاريع، كما قامت شركة هواوي الصينية بتطوير نظام للمراقبة في العاصمة الصربية بلغراد، من خلال نشر 1000 كاميرا وتقنية للتعرف على الوجوه، وهو المشروع الذي تسميه الصين بمشروع المدينة الآمنة، هذا كله غير مليارات الدولارات التي قُدمت كقروض لصربيا، لكنها في الوقت ذاته حصلت على أصول مهمة للغاية في صربيا، على رأسها منجم للنحاس ومصنع فولاذ مع مصنع للإطارات وشركة تبغ، ولعل كل تلك الاستثمارات باتت اليوم تُثير قلق الصربيين، خوفاً من توسع نفوذ الصين داخل الدولة، خصوصاً أن العديد من المشاريع باتت تعود بنتائج سلبية على البلاد، مدينة بور شرقي صربيا كانت من بين الضحايا، فهي اليوم تُعتبر واحدة من أكثر المدن تلوثاً بسبب مناجم النحاس، فمنذ عام 2018 استحوذت شركة زيجين الصينية على صناعة التعدين في بور، وباتت هي تدير كل تلك الأعمال فيها وبشكلٍ كبير، ما أدى لارتفاع ملحوظ في معدل الإصابة بالأمراض، مع تسجيل الكثير من حالات الوفاة بسبب السرطان، وذلك بسبب ارتفاع معدل التعدين بشكل يفوق السابق، ولدراسة الواقع بشكلٍ أكبر قررنا الاتجاه إلى شرقي صربيا وتحديداً مدينة بور.
عندما استحوذت الشركة الصينية على المنجم قالت أنها ستسعى لينعكس ذلك الاستحواذ على المدينة بالكامل حيث ستعمل على تطوير البنى التحتية وتحسين الاقتصاد والصناعة لكنها في الحقيقة نشرت الأمراض في المنطقة وعلى رأسها السرطان, ولم يظهر من ذلك التطوير شيئاً يذكر , في المدينة التقينا بالناشط ألكسندر والذي روى لنا المزيد من التفاصيل قائلاً: “هم يريدون تدمير كل شيء وتمّ تهجير أهالي قرية كريفيلج منذ مدة , ووعد المسؤولون سكان كريفيلج بنقلهم بشكلٍ جماعي للحفاظ على هويتهم الوطنية باعتبارهم أقليةً قوميةً من الفلاش لكنّ هذه الوعود بقيت حبراً على ورق، إذ يتم نقل السكان واحداً تلو الآخر ويقومون بشراء العقارات، فينتقل السكان المحليون الى مناطق أخرى, البعض ذهب إلى بلغراد والبعض الآخر اشترى شققاً في بور، والبعض ذهب الى منتجعِ فمجاكا، توزع السكان في كل مكان”.
وتابع: “تبقى عددٌ قليل من الناس هنا و هم ينتظرون لمعرفة مصيرهم، يعرضون عليهم مبالغ زهيدةً مقابل أراضيهم., السكانُ غير راضين، لكنّ معظم الذين يعيشون قرب المصنعِ باعوا منازلهم, أنا أتفهم موقفهم تماماً، فظروف المعيشة غير مقبولة أبداً، خصوصاً إذا كان لديك أولاد. لا وجود للحياة بسبب التلوث و التفجيرات التي تحدث يومياً ومن غيرِ المنطقي أن تتم التضحيةُ بمنطقة شرقِ صربيا بأسرها من أجل إستثماراتٍ ضئيلةٍ و لا تعود بالربحِ لا على سكان المنطقة و لا على الدولة الصربية إلا بنسبٍ منخفضةٍ جداً، والخطر الأكبر هو أننا مهددون بافتتاحِ مناجم جديدة، فقد تم تسليمُ شرقِ صربيا بأكمله لشركاتٍ أجنبيةٍ مختلفة لإجراء أعمال التنقيب”.
شركة زيجين التي تُعد اليوم إحدى أكبر الشركات في صربيا، وركيزة أساسية لتنمية مناطق عدة شرق البلاد، والتي احتلت عام 2021 المرتبة الأولى في صادرات صربيا، رُفعت عليها العديد من الدعاوى القضائية لكنها لم تُفلح، فخطر ما تقوم به الشركة فاق قدرات أجساد السكان، وحتى الطبيعة والحياة في المنطقة كلها.
وكلما زاد إنتاج النحاس والذهب، زاد الزرنيخ، وفي دراسة حكومية من عام 2015 إلى عام 2018 أظهرت، أنّ معدل الوفيات في بور أعلى بكثير من باقي مناطق صربيا، وأنّ توقع الحياة لسكان بور أقل بمقدار 10 سنوات.
وخلال تتبعنا للقضية وصلنا لقرية كريفيلج، وهي قرية مجاورة لبور، وقد أرغم أكثر من ألف شخص من السكان المحليين على مغادرة منازلهم، بسبب توسع شركة زيجين لصنع النحاس المستمر، تلوث الهواء ليس هو االتلوث الوحيد الذي يعاني منه السكان وإنما التلوث الصوتي المتمثل بأصوات الجرافات والآليات الثقيلة التي لا تتوقف نتيجة العمل المتواصل في المنجم، و لا يزال العديد من السكان يعيشون في كريفيلج،، لكنهم ينتظرون قرار إعادة تمركزهم, لأنهم إذا استمروا في العيش فيها, فهذا يعني تعرضهم بشكل دائم للتلوث و الضجيج والغبار.
وفي المكان التقينا بأحد سكان القرية الذي قال: “الرواتب ليست كبيرة خاصة إذا أخذنا بالاعتبار أن هؤلاء الناس يخاطرون بصحتهم وحياتهم، بسبب الحوادث والإصابات التي تحصل باستمرار، وقد تؤدي إلى الموت.,لكنهم أوصلونا إلى حافة الفقر منذ سنوات، وهذا ما يدفع الناس إلى الإستسلام والإعتقاد أنّ هذا الحل يمكن أن ينقذهم. خاطيء لأنه على أرض الواقع هو بيع لثرواتن المعدنية بأبخس الأثمان و لا يعود على الدولة أو السكان بأية فائدة، بل الربح الأكبر تحققه الشركات الأجنبية وقلة من الأفراد الذين يتبوأون مناصب مهمة في الحكومة”.
شركة زيجين هي مجموعة صينية، متخصصة في مجال أعمال التنقيب والتعدين، وتنتشر استثماراتها وأعمالها في العديد من الدول حول العالم، خصوصاًَ في الدول التي تدخل ضمن مشروع الحزام والطريق الصيني، حيث تنتج الشركة وتبيع الذهب والنحاس والحديد وغيرها من المعادن، وعلى الرغم من تكبدها خسائر كبيرة في عام 2013، وذلك عندما تراجعت أرباحها بنسبة 53% في النصف الأول، لكن الدعم الحكومي لها لطالما أنقذها وحولها لأشبه بشركة تتحرك باسم بكين، واليوم باتت استثمارات الصين تواجه بمقاومة شرسة من السكان في صربيا، حيث تنظم العديد من الجمعيات والمنظمات وقفات متكررة، ضدّ عمليات التنقيب والتعدين تلك، ورداً على ذلك فرضت الحكومة بعض الغرامات والعقوبات البسيطة ضدّ زيجين، لكنها في الحقيقة لم توقف أعمال الشركة، لتستمر معاناة سكان المنطقة لمدة أطول.
هل تقف صربيا في مهب الريح مع تمكّن الصين من بلغراد؟
في ظلّ تأثير النزاعات الكبرى على السياسة الجغرافية، عملت صربيا بصمتٍ على تطوير علاقاتها الودية مع الصين، التي باتت إحدى أهم القوى الكبرى في العالم اليوم. وفيما كانت الأنظار تتركّز في مكان آخر، انبرت الشركات الصينية بقوّة على الاستثمار في البنى التحتية الصربية.
في 17 أكتوبر/ تشرين الأول، وقّعت صربيا على عقد تجارة حرّة مع الصين خلال قمة “الحزام والطريق” الدولية التي أقيمت في بكين، وعزّزت بذلك تلك العلاقة. من شأن ذلك الاتفاق أن يسهّل تصدير ما يزيد على 8930 منتجاً صربياً ليدخل الصين، والعكس صحيح بالنسبة إلى 10412 منتجاً صينياً.
على مرّ سنين طويلة من التنسيق المتنامي، أمّنت الصين التمويل اللازم لكي تنفذ صربيا مشاريع الطرقات والجسور ومشاريع أخرى أيضاً. ويبدو أنّ علاقات صربيا الجيّدة بالصين المتصاعدة آخذة في الاستمرار في ظلّ الاتفاق التجاري الجديد.
وتجدر الإشارة هنا إلى أنّ العلاقات الثنائية القوية بين الصين وصربيا تعود إلى الحقبة الشيوعية، لكنّها تعزّزت بقوّة في السنوات الأخيرة. وشكل رفض الصين الاعتراف باستقلال كوسوفو أحد العوامل الأساسية التي دفعت بتلك الشراكة المتنامية قدماً بفعل التقدير الصربي لتلك الخطوة.
خريطة الصين الاقصتادية في صربيا
وصرّحت نائبة رئيس الوزراء الصربي مايا غويكوفيتش (Maja Gojković) في سبتمبر/ أيلول في معرض التجارة والاستثمارات الدولية الصينية الثالث عشر في سيامين، بأنّ الصين كانت أكبر مستثمر أجنبي في صربيا في العامين 2021 و2022، وأنّها احتلت المرتبة الثانية على صعيد تدفق الاستثمارات الاجمالية في الفترة المتراوحة بين العامين 2010 و2022. وفي العام الماضي وحده، بلغ تدفق الاستثمارات الصينية 1،5 مليار دولار أميركي، كما أنّ الشركات الصينية العاملة في صربيا تشغّل حالياً ما يزيد على 28 ألف عامل.
وتظهر دراسة متعقّب الاستثمارات الصينية الدولية (China Global Investment Tracker) التي نفذها معهد “أميركان أنتربرايز” (American Enterprise Institute) وجمعية “هاريتاج فاوندايشن” (Heritage Foundation)، أنّ صربيا تبرز من بين حاملي الأرقام القياسية في العالم من حيث تدفق رؤوس الأموال الصينية والاستقراض، إذ تبلغ قيمة القروض الصينية في صربيا 13،98 مليار دولار، وذلك يعتبر رقماً مرتفعاً للغاية. فقد استعملت صربيا الأموال الصينية لغاية بناء الطرقات السريعة والسكك الحديدية والخدمات الجماعية والتغويز وتمويل مشاريع الطاقة، بالإضافة إلى الاستثمار في شركتي الكهرباء Elektroprivreda Srbije والاتصالات Telekom Srbije.
وإضافةً إلى القروض الصينية، استقطبت صربيا في السنوات القليلة الماضية استثمارات صينية مباشرة تتضمن بصورة أساسية استثمارات في منجمي بور (Bor) وزيليزارا (Zelezara) في سميديريفو (Smederevo)، وفي شركة تصنيع إطارات للسيارات. وكان المستثمرون الصينيون الرئيسيون مجموعة زيجين للتعدين (Zijin Mining Group) ومجموعة هيستيل (Hesteel Group) وشركة شان دونغ لينغ لونغ للإطارات (Shandong Linglong Tire).
إلّا أنّ مشاكل تلويث البيئة وغياب الشفافية والمحاسبة قد أدت إلى بروز مخاوف كثيرة، وانطلاق سلسلة احتجاجات في كلّ أنحاء البلاد، ما أجبر السلطات المحلية على التفكير مليّاً في ما إذا كانت كلفة تلك الاستثمارات تبرر حالياً الفوائد المتأتية عنها.
شاهدوا أيضاً: ملفات شرطة شينجيانغ.. التسريب الكبير الذي فضح الصين وأحرج الأمم المتحدة