ما حصل في البرلمان الهولندي لم يكن الحدثَ الأوّل على هذا المستوى، لكنّه أثار الكثير من الريبة بكلّ تفاصيله. عشرة نواب هولنديين يمثّلون عشرة أحزاب سياسية مختلفة، جلسوا في غرفة وعقدوا اجتماعاً غريباً للغاية عبر الإنترنت، لكنهم لم يعرفوا مع مَنْ يعقدون هذا الإجتماع على وجه التحديد، غير أنّ ثمّة شخصين يريدان مساعدة ألكسي نافالني، المعارض الروسي البارز.

على الشاشة ظهر رجلان، أحدهما لا يجيد  الإنكليزية فبقي صامتاً، فيما عرّف الثاني عن نفسه على أنّه كبير مستشاري ألكسي نافالني، لكن اللافت والمضحك والمستغرب في آن، أنه كان يرتدي ملابس الحمام، لتعم الغرابة الاجتماع منذ بدايته وحتى النهاية. فما الحكاية؟

تروي النائبة في البرلمان الهولندي كاتي بيري لـ”أخبار الآن” تفاصيل هذا اللقاء، فتقول: “بدأت القصة عندما دخلت الغرفة وكان المجتمعون قد بدأوا إلاجتماع عبر الإنترنت، وكنا نتابعه على شاشة تلفاز، وكنّا 10 نواب هولنديين يمثلون 10 أحزاب سياسية مختلفة ممثلة في البرلمان الهولندي. ثمّ رأينا رجلين يظهران على الشاشة، أحدهما قال إنّه لن يتكلم لأنّه لا يجيد  الإنكليزية، والثاني عرّف عن نفسه على أنّه كبير مستشاري السيد نافالني، وكان يرتدي رداءً للحمام وكان ذلك أمراً شديد الغرابة بادىء ذي بدء. لكنّهما كانا قد طلبا عقد الإجتماع وكانا يريدان أن يسمعا منّا كيف يمكننا أن نساعد برأينا أليكسي نافالني، الذي كان لا يزال مضرباً عن الطعام في ذلك الحين”.

بيري: الاجتماع سادته الغرابة فكان أحد الرجلين يرتدي رداءً للحمام. لكنّهما كانا قد طلبا عقد الإجتماع وكانا يريدان أن يسمعا منّا كيف يمكننا أن نساعد برأينا أليكسي نافالني.

وأضافت: “في الحقيقة انتابني الشك مرات عديدة إنْ كان الرجلان اللذان كنّا نتحدث إليهما سويّين. أولاً لم أعقد قط اجتماعاً رسمياً مع شخص يرتدي رداءً للحمام، ما قد شكل منذ اللحظة الأولى مشهداً غريباً جدّاً، لكن بما أنّه فسّر لنا أنّه هو أيضاً يضرب عن الطعام لدعم السيد نافالني قلت في نفسي حسناً ربّما لا يرتدي ثيابه في الصباح إنْ كان لديه اجتماع مع نواب من عدة برلمانات، وهنا أكرّر أنّ الأمر بدا في غاية الغرابة منذ البداية”.

خنزير

النائبة في البرلمان الهولندي كاتي بيري متحدثة لأخبار الآن

وأردفت لـ”أخبار الآن“: “بما أنّهما كانا قد طلبا عقد الإجتماع، كنا قد توقعنا أن يأتيا على الأقل بلائحة مطالب بصفتهما ممثلين عن فريق الدفاع عن نافالني لكنهما لم يفعلا ذلك أبداً. في الحقيقة كانت المطالب التي عرضاها سخيفة فمثلاً طلبا أن يضرب أيضاً كلّ قادة دول العالم عن الطعام تضامناً مع أليكسي نافالني، وإن لم يكن تحقيق ذلك ممكنا، فيمكن لهما حسبما أخبرانا به، تحويل عملة بيتكوين إلى حساباتهما المصرفية التي أعطونا أرقامها.. ولك أن تتخيّل كيف كان الاجتماع غريبا منذ اللحظة الأولى لعقده”.

النائبة في البرلمان الهولندي، تحدثت كيف خطط فريق نافالني المزعوم لعقد اجتماع مع برلمان بلادها، وقالت: “بالفعل لقد  تلقّى مكتب الخدمات في البرلمان رسالة إلكترونية من الفريق المزعوم للمعارض أليكسي نافالني يطلب فيها عقد اجتماع وهذا ما تمّ بحثه من قبل عدة أحزاب ممثلة في البرلمان ووافقنا على عقد هذا اللقاء”.

وأضافت: “قام مكتب الخدمات في البرلمان بتنظيم الإجتماع  وتحديد وقته، ولم نتلقّ مسبقاً أسماء الأشخاص الذين كنا سنجتمع بهم، مع الإشارة إلى أن الفريق المزعوم، قام بمراسلة برلمانات عديدة إضافة إلى البرلمان الهولندي، مدعين أنهما يمثلان أليكسي نافالني، وطالبا بعقد اجتماع طارىء مع لجان الشؤون الخارجية في برلمانات مختلفة”.

خنزير

ليونيد فولكوف ، رئيس مكتب الحملة الانتخابية في إيفانوفو للناشط المعارض والسياسي أليكسي نافالني – Getty Images

خنزير زهري

وتابعت: “اللقاء كله كان غريباً للغاية، وفي نهايته تحوّل إلى اجتماع في غاية السخافة، وعندها قطعنا الإتصال من جهتنا، وقد كان فولكوف المزعوم يدّعي أيضاً أنّه نجم بارز في تطبيق تيك توك”.

الأمر الأكثر سخرية في اللقاء وفق ما روته بيري، ظهور خنزير زهري اللون في الغرفة التي كان فريق نافالني المزعوم جالساً فيها، وقالت: “فجأة ظهر خنزير صغير زهري اللون على الشاشة وراح يطلق الأصوات، عندها أيقن الجميع أن هذا اللقاء كان من أكثر الإجتماعات سخافةً على وجه الإطلاق في مسيرتنا السياسية”.

وعند سؤال النائبة الهولندية عن إمكانية تعرض برلمان بلدها إلى عمليية تزييف منظمة، قالت: “في الحقيقة لا أعلم، فأنا سياسية ولا يمكنني أن أحكم إن كان ما شاهدته كناية عن عملية تزييف عميقة، لكنني أعرف أن برلمانات أخرى في دول البلطيق قد أصدرت تصريحاً أكّدت فيه أن ما حصل معها هو عملية تزييف، وأعرف أيضاً أنّ الشخصين اللذين نفّذا عملية التزييف، عرضا صورةً تظهر أنّ ما قاما به لم يكن عملية تزييف، لكنهما كانا يرتديان شعراً مستعاراً بالإضافة إلى الماكياج. لذلك لم تكن هذه المناورة ذات تقنية عالية، فقد تنكّر الرجل مدّعياً أنّه ليونيد فولكوف. لذلك لا أعلم من هو الطرف الذي يقول الحقيقة. كما لا يمكنني أن أحكم إنْ كان ما حصل بالفعل عملية تزييف عميقة. وأعتقد أنني على غرار كل زملائي لم نلتقِ أبداّ السيد فولكوف وجهاً لوجه، لذلك كان التمييز بين الرجلين في غاية الصعوبة”.

وأضافت: “في ذلك اليوم بعد انتهاء اللقاء، لم نكن ندري بمن اجتمعنا، حينها بقيت الأفكار تراودني لأن الإجتماع كان غريباً للغاية، وبدون أدنى شك فإن الحديث عن ذلك الاجتماع مع أفراد عائلتك أو أصدقائك، كان سيثير الضحك والسخرية، ولكن إن تحدثنا بشكل جدي عن ما حدث، يمكن لنا أن نلاحظ أن الفريق المزعوم، كان يستهدف بحيله الكوميدية البرلمانات والحكومات الأشد انتقاداً لسياسات الحكومة الروسية والأشد انتقاداً كذلك للرئيس بوتين”.

وتابعت: “ضمن هذا السياق، أعتقد أن حيلتهما الفكاهية لم تكن بريئة البتة، بل كان لديهما دافع سياسي واضح وراءها، ما يجعل منها ليس فقط أمراً مضحكاً بل دافعاً لنا لنفكر كيف بوسعنا أن نتفادى تكرار هذه الحيل في المستقبل. طبعاً كانت إحدى أهداف الحيلة أيضاً تشويه سمعة أليكسي نافالني في الوقت الذي كان فيه مضرباً عن الطعام ولم يتم نقله إلى المستشفى، كما أنه لم يتلقى العلاج الطبي اللازم له. لذلك برأيي أن فريق الدفاع عن  أليكسي نافالني الحقيقي، كان سيعمل جاهداً على نقل رسالة مختلفة تماماً إلى البرلمانات وحكومات دول الإتحاد الأوروبي وليس كما فعل هذان الممثلان”.

هل تمّ تسجل اللقاء فيُنشر يوماً ما؟

كاتي بيري  أكّدت لـ”أخبار الآن” أنّ البرلمان الهولندي، لم يقم بتسجيل اللقاء، وقالت: “البرلمان هو من نظم اللقاء. وأنا متأكّدة أنّ النواب لم يسجّلوه وعلى حدّ علمي أيضاً لم يسجّله البرلمان، ولكن ما يفاجئني حقاً هو إن كان الممثلان لم يسجّلاه”.

وعن الأثار التي يمكن أن تنجم عن نشر اللقاء في حال كان فريق نافالني المزعوم قد سجله، قالت: “لا، لست قلقة. فقد سبق أن نشرا على الإنترنت اللقاء الذي جمعهما ببرلمانيين أوكرانيين  بالرغم من أنه نُشر باللغة الروسية وأنا لا أتحدّثها، ولكن بناءّ على تعليقات بعض الخبراء التي سمعتها قاما بعملية مونتاج لتجزيء اللقاء كي لا ينشراه بالكامل. ولكن في لقائهما معنا الذي حصل خلف أبواب موصدة بناءً على طلبهما وليس على طلب النواب الهولنديين.. أنا وزملائي حاولنا طرح أسئلة جدّية ولكن لم تكن الإجابة عليها جدّية البتة. لذلك لا أظن أن اللقاء تضمّن شيئاً قد يضرّ بنا إذا تم نشر التسجيلات”.

وأضافت: “أتمنى ألا يحصل ذلك على الأقل في البرلمان الهولندي، وبهذا الشكل، لأننا في الداخل كنا نناقش كيف حصل هذا الأمر وكيف بوسعنا أن نتفادى تكرار الأمر مجدداً. كما أعتقد أنه في هذا الزمن الجنوني الذي يستفحل فيه فيروس الكورونا والذي تتصدّى له الدول برمتها، وحيث أن غالبية الإجتماعات تعقد بواسطة الإنترنت، فعلى المرء أن يتوخى الحذر ويتأكد مراراً وتكراراً من هوية الشخص الذي يتحدث إليه. نعم يمكنني أن أؤكد أن اسمي هو كاتي بيري وأنا نائبة في البرلمان الهولندي”.

وأردفت بيري: “استهدافهما للبرلمان الهولندي لم يكن من باب الصدفة أبداً، لذلك لا بد من وجود أجندة سياسية وراء ما حدث، وهنا لا أظن أن هذا أمر فكاهي. أعتقد أن الرجلين المسؤولين عما حصل أو من زعما المسؤولية عما حصل، هما صاحبا تاريخ طويل في الحيل.

وقالت بيري: “بالنظر إلى هوية المؤسسات التي يستهدفانها نرى أنّ هناك دافعاً سياسياً قوياً يقف وراءها، وأنا متأكدة من حيلتهما التي وقع ضحيتها رئيس الوزراء الكندي جاستن ترودو وحتى الرئيس التركي رجب طيب أردوغان وقادة آخرون، لأن هذه الحيل تُنفّذ منذ مدة طويلة ولكن ليس بهذه الطريقة، وكما تعلمون، قبل ظهور فيروس كورونا، لم تكن الإجتماعات تحصل  عبر تطبيق Zoom مثلا كما هو الحال الآن، مما يفسح الأمر لأمثال أولئك باقتناص فرص جديدة لتنفيذ عمليات احتيال”.

قد يكون ما حصل مع هؤلاء النواب الهولنديين درساً مهمًاً جدّاً، خصوصاً في ظلّ انتشار وباء كورونا الذي فرض آليه العمل عن بعد، الأمر الذي يفرض توخي الحذر والتأكّد مراراً وتكراراً من هوية الشخص الذي يتحدث إلينا، فيما يحتّم على البرلمات بحث السبل التي يمكن أن تمنع حصول مثل هذه الحوادث في المسقبل. ومن ابرز ما يمكن أن تحققه عمليات التزييف أنّه يمكن للمخادع إحراج المسؤولين، في حين أنّ الجهة الفاعلة المدعومة من الدولة، يمكن أن تخدع الحكومات لاتخاذ قرارات سياسية سيئة ونبذ حلفائها.

 

شاهد أيضاً: هولندا التقرير المسرّب يضع دولاً عديدة بدائرة الاستهداف الصيني!