“نحن تتار القرم مسالمون، أجبرتنا روسيا على حمل السلاح والقتال من أجل أرضنا وشبه جزيرة القرم، وأوكرانيا بأكملها. نقسم أنّنا سندافع عن أرضنا أو نموت أجلها. نحن تتار القرم، نجونا 3 مرات من القتل على يد روسيا، ونعود دائماً إلى وطننا، ولا شك أنّنا سنعود مرّة أخرى”.
واجه تتار القرم تاريخاً طويلاً من الإضطهاد والتطهير العرقي في كلّ أنحاء الإتحاد السوفيتي
الثامن عشر من مايو العام 1944.. من ذاك التاريخ أو ربّما قبل، بدأت الحكاية…. حين اتخذ زعيم الإتحاد السوفيتي جوزيف ستالين القرار بإجبار تتار القرم على الرحيل عن أرضهم، بعدما واجهوا ضغوطاً من الروس إثر هزيمة ألمانيا النازية هناك، وقد باشر الشيوعيون في تنفيذ أحكام الإعدام بحق كل من اُشتبه به التعاون مع الألمان، فكانت البداية لمعاقبة شعب بأكمله.
دخلت القوات السوفيتية منازل التتار في شبه جزيرة القرم، عند منتصف الليل، أنذاك أيقظوا النساء والأطفال وكبار السن من النوم، تمّ تجميعهم في ساحات البلدة، ثمّ وضعوهم في عربات القطار، ليتمّ نفي ما يقرب من 250000 منهم، إلى آسيا الوسطى، في غضون ثلاثة أيّام فقط.
أختيم سيتابلاييف (Akhtem Seitablayev) هو مخرج وممثل تتاري وأحد أحفاد هؤلاء الذين مات في الطريق، ما يقرب من نصف التتار المرحّلين، جرّاء المرض والجوع وظروف التهجير القسري الصعبة. في ذلك اليوم، بدأ الترحيل عند حوالى الساعة الثالثة فجراً، ومع حلول الأوّل من يونيو، كانت روسيا قد أنهت العملية.
ذكريات الترحيل الأليمة لم يمحُها الزمن
يقول سيتابلاييف لـ “أخبار الآن“: “لقد تمّ ترحيل أبي وأمي من شبه جزيرة القرم في 18 مايو، أيار من العام 1944 خلال الحرب العالمية الثانية بينما كانا لا يزالان طفلين. لا يخفى على أحد أنّ 50 في المئة من شعبي تقريباً قد توفّوا أثناء ترحيلهم. بعد مرور وقت طويل جدّاً، قمت مع فريق عملي بتصوير فيلم طويل عما حصل وقد حمل إسم هايتارما، أي العودة، لقد عُرض هذا الفيلم في 60 دولة تقريباً.
بعد طرد تتار القرم من موطنهم، بدأت حملات جديدة لمحو الثقافة التركية والمجتمعات الأصلية الأخرى، وعمل الإتحاد السوفيتي على استبدال الأسماء التركية لكل بلدة وحي بالروسية، إذ كانت شبه الجزيرة تخضع للحكم العثماني حتى أواخر القرن الثامن عشر، وكانت تتمتع بأهمية كبيرة في المنطقة لموقعها الجغرافي المتميز المطل على البحر الأسود.
بعد حروب طويلة بين العثمانيين والإمبراطورية الروسية، تمكنت الأخيرة من السيطرة عليها، وانتقل العديد من أبناء الإمبراطورية الروسية للعيش هناك. لكن وفاة جوزيف ستالين، تمّ منح القرم لجمهورية أوكرانيا الاشتراكية السوفياتية في ذكرى اتحاد أوكرانيا مع روسيا. وبعد انهيار الاتحاد السوفيتي، أصبح موطن تتار القرم جمهورية القرم المتمتعة بالحكم الذاتي في أوكرانيا.
لأكثر من 200 عام، كافح تتار القرم من أجل استعادة أرضهم الأصلية من السيطرة الروسية. وبحلول العام 2014، اعتقد الكثيرون أنّ معركتهم الطويلة تقترب أخيراً من نهاية جيدة، لكنّهم كانوا مخطئين.
يقول سيتابلاييف: “في السابع والعشرين من شهر فبراير\ شباط، ذهبت إلى مدينة سيمفيروبول، أي عاصمة شبه جزيرة القرم. استيقظت باكراً نسبياً وكنت أسكن في شقة تطل نوافذها على مبنى رئاسة الوزراء في شبه الجزيرة، وهي منطقة وسط المدينة تحديداً”.
الترحيل مرة أخرى
ويضيف: “خرجت من الشقة في الساعة الثامنة والنصف صباحاً، وللتو انتابني شعور غريب، إذ أنّني نظرت من حولي وأيقنت أنّني كنت أقف بمفردي في وسط المدينة الذي أعرفه ظهراً عن قلب. كنت وحيداً بكل ما للكلمة من معنى، لم يكن هناك أيّ شخص ولا أيّ سيارة. بعد ذلك بوقت لاحق رأيت شرطياً وقرّرت أن أسأله ماذا يحصل، ولماذا كان الشارع خالياً تماماً”.
ويتابع قائلاً: “دنوت من أحد الشرطيين وسألته عمّا يجري، ففهمت من الطريقة التي استعملها لإجابتي أنّ خطباً ما قد حصل لأنه نظر إليّ وقال: ستفهم ما يجري قريباً. فهمت أنّه لم يكن يدرك فقط ماذا كان يجري، بل كان يستمتع باللحظات التي استغرقتها للتفكير بما قاله. بعد مرور ربع ساعة تلقيت اتصالاً من صديق لي من كييف، قال لي فيه إنّ ثمة معلومات تفيد بسقوط مبنى رئاسة الوزراء ومبنى المجلس الأعلى لشبه جزيرة القرم. أجبته بأنني شعرت بأنه قد تمّ ضمّ شبه الجزيرة واحتلالها أيضاً.
هكذا بدأ العام 2014 بالنسبة لي بالمعنى الحقيقي للكلمة لأنّ بعض الأحداث الأخرى قد سجّلت قبل فبراير/ شباط. وهكذا انتهت مرحلة المواجهة التي قام بها الشعب والحكم السابق. فالرئيس الأسبق يانوكوفيتش قد فرّ إلى مدينة روستوف، وأنا جئت إلى شبه الجزيرة بمزاج جيد. وهناك شهدت بأم العين على الإستيلاء على شبه الجزيرة. انتابني شعور بالعجز الكامل لأنّني لم أكن أعرف ما العمل”.
العام 2017 اتهم تقرير أممي المتحدة روسيا بارتكاب انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان في شبه جزيرة القرم، بما في ذلك إخضاع التتار للترهيب وتفتيش المنازل والاحتجاز. موسكو التي حظرت في العام 2016 المجلس الذي يمثل تتار القرم، رفضت آنذاك نتائج التقرير، وقالت إنّ استفتاء مارس 2014 شرع دمج القرم بروسيا.
مع انتهاء الحرب العالمية الثانية، تمّ ترحيل ما مئات الآلاف من تتار من شبه جزيرة القرم، لم يعد الكثير منهم إلى ديارهم إلّا مؤخّراً، ليتمّ إجبارهم على الخروج مرّة أخرى عندما سيطرت روسيا على شبه الجزيرة في العام 2014.
تتار القرم إلى المواجهة.. سنعود مرّة اخرى
اليوم، تغزو روسيا وطنهم أوكرانيا، فشكّل الكثير من مسلمي التتار، كتيبة مدنية للقتال ضدّ القوات الروسية. إنّهم يقاتلون الآن لتحرير كلّ الأراضي التي احتلها الروس، حتى يتمكنوا من إيجاد طريق للعودة إلى ديارهم، شبه جزيرة القرم.
ذلك النوع من الكتائب كان بدأ في البروز منذ العام 2014 مع احتلال الروس لشبه جزيرة القرم، إذ ظهرت العشرات من كتائب المتطوعين وبدأت في مساعدة الجيش الأوكراني في دونباس.
سيتابلاييف الذي يتحدّر من شبه جزيرة القرم، هو أحد هؤلاء الذين التحقوا بإحدى الكتائب العسكرية للقتال في صفوف الجيش الأوكراني، في مواجهة روسيا… وظيفته الضابط الإعلامي الخاص بالكتيبة 206 للرماية في كييف.
يقول: “هنا في بيت القرم، كان هناك احتفال مخصص لذكرى اغتيال نومان شيليبيدزيخان، وهو أول قائد حقيقي في زمننا الحالي، أي في بدايات القرن العشرين. كما كان صاحب أفكار ديمقراطية وإنسانية للغاية والأهم أنه كان محاطاً بفريق لديه القدرة على وضعها قيد التنفيذ.
لأكثر من 200 عام، كافح تتار القرم من أجل استعادة أرضهم الأصلية من السيطرة الروسية
في خطاب ألقاه إثر قيام مجلس كلّ الأمم القاطنة في شبه جزيرة القرم بانتخابه رئيساً للحكومة، قال ما مفاده: نحن تتار القرم، وكشعب رأى النور هنا في شبه الجزيرة هذه، وخُلق بإرادة الرب القدير سبحانه وتعالى، من واجبنا أن نهتم بأرضنا، وكل الشعوب التي تعيش في شبه الجزيرة/ بمعنى أنّنا حدائقيون يزرعون وروداً في حديقتهم الفسيحة بكل تفهّم واحترام منهم”.
يتابع: “في 23 فبراير/ شباط من العام الثامن عشر من القرن العشرين، وقع هذا الرجل ضحية البولشفيك فقاموا بتعذيبه وقتله وتقطيع جسمه إلى أجزاء ورميه في البحر في مدينة سيفاستوبول. لذلك السبب لم يعتبر يوماً تتار القرم يوم 23 فبراير/ شباط يوم عطلة علماً أنه يصادف عيد الجيش السوفياتي في الإتحاد السوفياتي. لقد أقمنا احتفالاً تذكارياً هنا في 23 فبراير وبدأت الحرب في اليوم التالي، أي في الرابع والعشرين”.
يتمنى سيتابلاييف من كلّ قلبه، أن “تقود تلك الحرب المستمرة إلى إيقاف عدونا القديم العهد لأنّ الامبراطورية الروسية كانت تحاول قتل لغتنا وإيماننا، وحتى حياتنا، وتحاول تشويهها وتحظيرها. حينها ، وليس على الفور إطلاقاً، أريد أن يحدوني أمل بأنّنا سنبني من حولنا عالماً نتمكن فيه مع أولادنا من عيش حياة مريحة وهانئة”.
مقتنعون بأنّ المكان الأنسب لتتار القرم هو أن يكونوا مع أوكرانيا
مصطفى دزيمليف
“أخبار الآن” أجرت لقاءً خاصاً وحصرياً مع زعيم تتار القرم والنائب في البرلمان الأوكرني، مصطفى دزيمليف (Mustafa Dzhemilev)، فقال إنّ “تتار القرم يعيشون تحت الإحتلال الروسي للسنة الثامنة على التوالي، منذ العام 2014، ويشكّل ذلك الوضع مأساة كبيرة ومصدر حزن لذلك الشعب الذي ناضل طيلة 40 عاماً تقريباً ليعود إلى القرم، إلى أرضه، إثر ترحيله منها في العام 1944. لقد ناضلنا عن طريق التظاهرات المدنية السلمية إلّا أنّ المئات من تتار القرم اقتيدوا إلى مخيمات الإعتقال وكثيرون منهم لم يخرجوا منها على قيد الحياة”.
وأضاف: “لقد قاتلنا لمدة 50 عاماً كي نسترجع حقوقنا وحلمنا بالعيش في عالم ديمقراطي. كنا من بين الشعوب التي سعت إلى إسقاط قوة السوفيات. وبالرغم من أنّ أوكرانيا حصلت على استقلالها في العام 1991 وكانت دولة ديمقراطية يافعة، كنّا مقتنعين بأنّ المكان الأنسب لتتار القرم هو أن يكونوا مع أوكرانيا”.
“بعد اندلاع الحرب على أوكرانيا أصبحت شبه الجزيرة عالقة في فخ”
وتابع: “وجد شعبنا نفسه مجدداً تحت سلطة النظام الروسي الذي يُعتبر أسوأ من النظام الشيوعي السوفياتي في كثير من الجوانب. مثلاً بمجرد أن يحصل خلاف مع سياسة الحزب في الإتحاد السوفياتي، يُحكم على المرء بالسجن 3 أعوام وها نحن قد اقتربنا من الذكرى العاشرة. إثر احتلال شبه جزيرة القرم، أدرك التتار الذين يعيشون فيها ما سيحصل في مرحلة لاحقة، ولم يرد عدد كبير منهم العيش تحت رحمة الإحتلال الروسي، فأرسلوا زوجاتهم وأطفالهم إلى أوكرانيا”.
وقال دزيمليف لـ”أخبار الآن“: “كان لدينا شعار مفاده لا تُغادروا القرم مهما كانت الظروف لأن هذه هي أرضنا التي ناضلنا من أجلها.. لقد أُرغم قادة تتار القرم على الإنتقال للعيش في كييف. أرسلنا رسالة للشعب تطلب فيه عدم مغادرة شبه الجزيرة وانتظار رفع الإحتلال، إلا أن المواطنين العاديين كانوا يسألون ماذا يضمن لي بأن إبني أو زوجي لن يُخطف غداً أو لن يُقتل أو لن يُرمى في السجن”.
وختم: “يُعدّ نزوح تتار القرم من شبه الجزيرة مهماً ويُقدّر بنحو 10 % من شعب التتار الذي يعيش هناك إذ بلغ عدد الذين انتقلوا للعيش في البر الأوكراني بنحو 30 ألف مواطن وهذا النزوح مستمر حتى يومنا هذا. اليوم بعد اندلاع الحرب الواسعة النطاق بين روسيا وأوكرانيا أصبحت شبه الجزيرة عالقة في فخ لأن الشعب لم يعد قادراً على المغادرة. هناك سبيل وحيد للمغادرة وهو عن طريق الانتقال إلى روسيا ومن هناك إلى دولة ثالثة ومن ثم العودة إلى أوكرانيا”.
“أوكرانيا لا روسيا”
يفضّل تتار القرم العيش تحت لواء أوكرانيا، بل يموتون من أجل الحرية هناك، لكن لا يمكنهم التسامح مع الحكم الروسي، فهم دائماً ما ينظرون إلى مستقبل وجودهم في ظلّ الحكم الروسي بعين القلق، لاعتبارهم أنّ العيش في ظل حكم شيوعي شاهد على أمرين، التضييق في مجال الحريات وممارسة الشعائر الدينية من جهة، والمخاوف من انتقام روسيا منهم، جراء مشاركتهم في الإحتجاجات التي أطاحت بالرئيس الأوكراني السابق الموالي لروسيا يانوكوفيتش، إذ كانوا يرفضون تقارب البلاد مع روسيا، ويطالبون بتوقيع اتفاقيات شراكة مع الإتحاد الأوروبي.