مازالت تداعيات إعلان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين التعبئة العسكرية في روسيا تتوالى فصولاً، وعلى مختلف الأصعدة… تلك التعبئة التي أتت بعد الخسارة الميدانية المدوّية التي مُنيت بها القوات الروسية إثر تبدّل الواقع في ساحة المعركة. فماذا يجري في المجتمعين المدني والعسكري داخل البلاد، وما هي التوقعات؟
- قرار التعبئة يستهدف تجنيد أكثر من مليون شخص للانضمام إلى جبهات القتال
- بوتين يستخدم الاقليات الروسية كوقود لحربه إذ يُضحي بها لأسباب توسعية
- توقعات في إرتفاع منسوب الاحتجاجات مع تبعات التعبئة ودخول العقوبات حيز التنفيذ
نزوح وتظاهرات بعد التعبئة
بعد ساعات قليلة على إعلان بوتين التعبئة الجزئية، شهدت مدن روسية مختلفة لاسيّما في العاصمة موسكو، تظاهرات رافضة لذلك القرار الذي فتح الباب أمام ما اعتبره صحافيون وناشطون روس معارضون، يقيمون خارج الأراضي الروسية، انعطافة في المواقف الروسية الشعبية من الحرب في أوكرانيا، إذ كسرت التظاهرات التي تكرّرت خلال عطلة نهاية الاسبوع، صمت المجتمع الروسي الكبير والمتنوّع الذي لم تسجل له مواقف واضحة تعليقاً على الحرب التي يقودها بوتين منذ فبراير الماضي، إلّا لجهة بعض المواقف أو المبادرات أو التصريحات التي أخذت طابع الفردية، ونتج عنها جملة من الاعتقالات كما أوضحت مصادر صحافية روسية لـ “أخبار الآن“.
رغم العنف والاعتقالات الشاملة لكلّ الذين شاركوا في التظاهرات الرافضة لقرار التعبئة، إلّا أنَّ تلك الاحتجاجات استمرت وتنقلت بين موسكو ومناطق أخرى في الجمهوريات التابعة لروسيا، مثل جمهورية داغستان (Dagestan) التي تطورت فيها التظاهرات ووصلت حدَّ وقوع اشتباكات بين الشرطة الروسية ومعارضي التعبئة في تلك المنطقة، التي تعتبر من أبرز المناطق التي اتخذت فيها وزارة الدفاع الروسية قرار التجنيد “شبه العشوائي لجميع الشباب ودفعهم للقتال رغم معارضة الأغلبية.
من جهة أخرى، يعبّر النزوح الفادح للروسيين لاسيما أولئك الذين ينتمون للفئة العمرية الشابة، عن عدم وجود أي رغبة روسية أو اقتناع حقيقي للدى المجتمع الروسي بتلك الحرب، أو على الأقل عدم وجود النية القتالية. وفي السياق، قالت صحيفة نوفايا جازيتا (Novaya Gazeta) الروسية، نقلاً عمّا أسمته مصادر روسية رسمية خاصة، “إنَّ حوالى 250,000 مواطن ومواطنة روسية انتقلوا إلى خارج روسيا خلال الأيّام القليلة التي تلت إعلان التعبئة الجزئية”.
بوتين يستخدم الأقليات للتوسع
وفي ذلك السياق، أجرت “أخبار الآن” مقابلة مع الصحافي البيلاروسي أليكس كوكشاروف (Alex Kokcharov)، وهو محلل المخاطر ومتخصص في الشأن الروسي – الأوكراني، قال إنّ “ثمَّة عدَّة تقارير إعلامية باللغة الروسية نُشرت على وسائل إعلام مستقلة، توضح أنَّ الهدف الفعلي من قرار بوتين التعبئة، هو تجنيد ما بين مليون ومليون ومئتي ألف شخص في الجيش الروسي، ما يعني أنّ الرقم 300.000 الصادر عن وزارة الدفاع الروسية هو خدعة فالرقم الحقيقي أعلى بكثير”.
وأضاف: “تشير الدلائل من مناطق مختلفة إلى أنّ قوات روسيا تحاول بوضوح تعبئة الكثير من الناس، وما رأيناه هو جهود للتعبئة غير متساوية بين سكان روسيا، بحيث تحاول السلطات الرسمية تجنيد الكثير ممن يعيشون في الجمهوريات الروسية التي تضمّ سكانا غير روسيين عرقياً، مثل سكان داغستان (Dagestan) ذات الأغلبية المسلمة، قبردينو – بلقاريا (Kabardino – Balkaria)، بورياتيا (Buryatia)، ساخا (Sakha) وتوفا (Tuva)”.
في ذلك الإطار، فضحت التعبئة التي يقوم بها بوتين وما استتبعها من تظاهرات في الجمهوريات الروسية، ذات الجماعات العرقية غير الروسية من مسلمين وروحانيين ولا دينيين وبروتستانت وغيرهم، والتي نقلت إلى العلن كيف يُفرض على شباب الأقليات الإنضمام الى الحرب، السياسة التي أُدين بها بوتين منذ بداية الحرب، والقائمة على وضع عناصر الأقليات الروسية على الجبهات الأمامية ليُستخدموا كعناصر توسُعيَّة، وفق ما يعرف باللغة الإنكليزية بمصطلح (Cannon Fodder)، أي أنّهم جنود يرسلون إلى جبهات القتال من دون قادة وبالتالي يمكن التضحية بهم. وهنا، يوضح تحليل البيانات الروسية الرسمية الصادرة عن وزارة الدفاع والمرتبطة بهوية القتلى في صفوف الجيش الروسي، أنَّ في تلك الحرب على أوكرانيا مُنيت الأقليات العرقية بأعلى الخسائر القتالية. ووفقاً للأرقام، فإنّ مقابل كل جندي قتيل من العرق الروسي، يوجد 87.5 قتيل داغستاني، 275 بورياتي، و350 طوفاني.
وتعليقاً على ذلك، يقول كوكشاروف لـ “أخبار الآن“: “في الأسابيع الماضية عثرنا على تقارير عديدة عن محاولة روسيا حشد رعايا أجانب على أراضيها للقتال إلى جانبها، وهم بمعظمهم من المهاجرين المنتميين لدول في آسيا الوسطى، مثل أوزبكستان، وطاجيكستان، وقيرغيزستان. وفي المقابل أصدرت حكومات تلك الدول بما في ذلك سفاراتها في روسيا أو مكاتب النيابة العامة، تحذيرات لمواطنيها لعدم القيام بذلك، لأنَّ ذلك بنظرهم يُعدَّ مشاركة في حرب خارجية، والمشاركة بذلك يعتبر بمثابة جريمة يعاقب عليها القانون”.
كلام كوكشاروف تفسّره القرارت الروسية الصادرة أخيراً وأبرزها القرار الذي أصدره بوتين يوم السبت 24 سبتمبر، والذي قضى بمنح الجنسية الروسية بصورة استثنائية لكلّ المقيمين الذين يلتحقون بالخدمة في الجيش الروسي لعام أو أكثر، إذ يتمّ إسقاط عنهم شرط الإقامة. بالإضافة إلى ذلك، ثمّة إعلان وزارة الدفاع الروسية عن تعميم الإمتيازات المالية والاجتماعية الممنوحة للمواطنين الروس في صفوف الجيش على الأجانب الراغبين بالخدمة في القوات الروسية.
بوتين يعاني مع الجيش منذ ما قبل التعبئة
في ذلك السياق، أجرت أخبار الآن مقابلة مع الصحفي الروسي الميداني تيموفي روزانسكي (Timofei Rozhanskiy) الذي كان مقيماً في روسيا وغادرها إلى أوكرانيا منذ ما قبل الغزو الروسي على أوكرانيا، بسبب إقفال السلطات الروسية للوسيلة الإعلامية المستقلة التي كان يعمل لها في موسكو.
وفي إطار حديثه عن معاناة بوتين مع عناصر الجيش الروسي منذ ما قبل التعبئة، كان روزانسكي تحدّث سرّاً مع العديد من الجنود الذين أرادوا ترك ساحة المعركة، ونقل صوتهم من مراكزهم حيث احتجزتهم القيادة الروسية لأنَّهم أرادوا ترك القتال. وبالفعل فقد ساهمت تقارير روزانسكي الصحافية في خروج العديد منهم من أماكن الإحتجاز وعودتهم إلى أهلهم، بعيداً من ساحة المعركة التي وجدوا أنفسهم فيها على غفلة.
وقال روزانسكي لـ”أخبار الآن“: “ما بين 5 و10 آلاف جندي روسي تركوا ساحة المعركة في أوكرانيا، العديد منهم قدَّموا تقارير عندما علموا أنّ الحرب ستبدأ، لأنّ معظم أولئك الجنود لم يشاركوا في أيّ حرب للجيش الروسي، كانوا جنوداً في زمن السلم، البعض منهم ذهب إلى سوريا، لكن العديد من الجنود الذين تحدّثت معهم كانوا في العشرينيات، ولم يشارك أيّ منهم في الحرب من قبل، وهم أدركوا أنّ حياتهم لا تعني شيئاً للقادة بل هم مجرد آداة”.
وأضاف روزانسكي: “العديد من الجنود غادروا بداية الحرب عبر تقديم استقالتهم، وذلك لأنَّ القانون يسمح لهم بذلك كون بوتين لم يعلن حالة حرب بل أطلق تسمية العملية العسكرية الخاصة على حربه، ولكن مع اشتداد المعارك، أصبح الأمر أكثر صعوبة لأنّ الجيش الروسي بدأ يواجه نقصاً في العناصر، وكان الجنود يتعرضون لضغوطات وللتنمر والإذلال من قبل قادتهم، وكان الوضع قاسياً على البعض، وبدأوا بتوجيه اتهامات جنائية بحقّ من غادر، كالهروب من الخدمة على سبيل المثال”.
قبل التعبئة حاولت قيادة الجيش الروسي القيام بكلّ ما تستطيع لمعالجة تسرّب العديد من الجنود من الخدمة العسكرية، إنْ بالأطر القانونية أو عبر ترك ساحة المعارك. وهنا قال روزانسكي: “لم يكن هناك أيّ استراتيجية في الجيش الروسي عن كيفية التعامل مع الجنود الذين لا يريدون القتال، لكن كما رأينا، فإنّ القادة قدّموا للجنود الخيار الأسهل للإستمرار في الخدمة كحراسة المستودعات وتحميل الذخيرة، فتلك المهمّات ليست خطيرة كالقتال في الخطوط الأمامية، وبعض الجنود وافقوا على الأمر وقالوا إنّهم لن يتركوا الجيش لكن سيخدمون في قطاعات أخرى، وسارت الأمور على ما يرام بالنسبة لهم”.
وأضاف: “أمّا إذا ما أصرّ الجنود على ترك الجيش، عندها يبدأ القادة بالتنكيل بهم، وآخر الضغوطات لإجبارهم على القتال مجدّداً هي المخيّمات الخاصة والسجون، والمئات أو الآلاف من الجنود قد وضعوا في السجون الموجودة في لوغانتسك في أوكرانيا وهي عبارة عن مخيمين يشبهان السجون العادية والناس في غرف منفصلة، وكانت تقوم بالحراسة شركة الفاغنر، ابتي قدَّمت لهم طعاماً سيئاً ولم تكن تسمح لهم بالخروج من غرفهم وأحياناً كان يزوروهم رجال مقنّعون ليسألونهم لماذا لا يريدون القتال ويحاولون إقناعهم بالقتال”.
هل بدأ العد العكسي لبوتين؟
يقول محلل المخاطر المختص بالشأن الروسي الأوكراني ألكس كوكشاروف عند سؤاله عمَّا إذ كانت التظاهرات الأخيرة ستفتح الباب أمام تغير في المشهد الروسي المجتمعي: “حوالى 10 إلى 15 % من الروس مناهضون للحرب، ومن المحتمل أن يكون هناك عدد مماثل بين 10 إلى 15 % مؤيد لنشاط الحرب ويدعم سياسات بوتين التوسعية في بلدان أخرى، بما في ذلك أوكرانيا وكذلك جورجيا ومولدوفا، لكن ربّما ينبغي وصف غالبية السكان بأنّهم أغلبية صامتة، وهنا نتحدّث عن أكثر من 50 أو 60 أو 70 أو ربّما 80 % من الغالبية الصامتة التي تواصل حياتها من دون وجهات نظر قوية، لكن الآن مع تهديد سياسة التعبئة بتعطيل حياة هؤلاء الناس، هناك احتمال بأنّ المشاعر ستتغير وأنّ المزيد من الناس سيبدأون في أن يصبحوا مناهضين للحرب ولكن لن يحدث ذلك على الفور سيستغرق الأمر بعض الوقت”.
وأضاف: “من المرجح أن تزداد احتمالية الاحتجاج، إذا أصبح المجتمع الروسي أكثر وعياً بحجم الخسائر الروسية في أوكرانيا. لأنّه في الوقت الحالي يعتقد الكثير من الروس أنّ الخسائر كانت صغيرة. كما قالت وزارة الدفاع الروسية إنّ عدد القتلى أقل من 6000 شخص بنحو 5.600 شخص، في وقت تقول أوكرانيا إنّ أكثر من 56000 شخص قتلوا، ما يعني أنّ الأرقام الحقيقية أعلى بكثير. ومع وجود العديد من الأشخاص غير المدربين والذين تتم تعبئتهم الآن لإرسالهم إلى الحرب في أوكرانيا، فإنّ احتمال وقوع المزيد من الضحايا العسكريين الروس سيكون كبيراً جدّاً، لذا أعتقد أنّ ذلك يعني أنّه بمجرد أن يعرف المجتمع الروسي الحجم الفعلي للخسائر والقتلى والجرحى العسكريين الروس، فإنّ المشاعر المناهضة للحرب ستزداد ما قد يؤدّي إلى زيادة الإحتجاجات”.
مع قرار التعبئة لفلاديمير بوتين من أجل حشد أكثر من مليون عسكري روسي للمشاركة في القتال، لا بدم من طرح السؤال التالي: “هل بإمكان وزارة الدفاع الروسية على تسليح كل هؤلاء اليوم، وهل لدى موسكو الموارد الكافية لتجهيز وتوفير التدريب لذلك العدد الكبير من الناس في فترة زمنية قصيرة”؟ سؤال مطروح في وقت يشكو فيه الجنود الروس من الظروف الصعبة التي يعيشونها على جبهات القتال، ويهرب الكثير منهم من المعركة.