قبل فراره من روسيا أوائل أغسطس العام 2022، كتب المظلي الروسي بافيل فيلاتييف (Pavel Filatyev)، الذي يبلغ من العمر 34 عاماً، مذكراته في كتاب أطلق عليه “زوف 56” وتعني باللغة الإنكليزية The call، وذلك نسبةً إلى العلامات التكتيكية المرسومة على مركبات الجيش الروسي، كرمزٍ مؤيّد للحرب على أوكرانيا.
بافيل هو أوّل جندي روسي يفرّ من روسيا بعد انتقاده القيادة الروسية وحربها على أوكرانيا. ففي أكثر من 40 صفحة، وجّه انتقادات ركّزت بشكل أساسي على الطريقة التي تخوض بها روسيا الحرب وتعامل بها جنودها، لتصيب ملاحظاته وتراً حسّاساً أزعج موسكو للغاية. فمتى قرر الهروب من الجيش الروسي؟ لماذا وكيف فعل ذلك؟ ومَنْ ساعده بالفرار؟
يقول بافيل لبرنامج “بالعين المجردة“: “قررت أن أترك الخدمة أو الجيش مباشرة عندما عدت من أوكرانيا، لكن راودتني تلك الفكرة وأنا مازلت بالمعركة، وذلك عندما شاهدت ماذا كان يحصل من فوضى وعدم انضباط. وعندما عدت للمنزل قرّرت أن أقدم على استقالتي وتسريحي، والبدء بكتابة كتاب عمّا كان يحصل وعمّا شاهدته في ساحات القتال”.
الفريق الإستقصائي أجرى بعض التحقيقات والأبحاث حول ذلك المظلي لمعرفة التفاصيل الكامنة خلف تلك القصة، وقد تمكّن بالفعل من الكشف عن جوانب مهمّة في حياة المظلي الروسي. لم يكن بافيل راضياً على حكومة موسكو منذ العام 2012 تقريباً، كحال الكثيرين الصامتين في روسيا، لكن في نهاية المطاف انتهى به الأمر بحربٍ لم يكن بحاجة إليها على الإطلاق.
في خيرسون حيث كان يتواجد لواء الهجوم المظلي الـ56، الوضع لم يكن على ما يرام في الأيّام التي تلت دخول اللواء ميناء خيرسون، وذلك بعد وقت قصير من الغزو الروسي في 24 من فبراير. آنذاك أصيب بافيل في عينه إصابةً كادت تعميه، بينما كان قرب ميكولايف شمال غرب خيرسون، والتي حاولت قوات روسيا الإستيلاء عليها في الأيّام الأولى من الحرب لكنها فشلت. إثر إصابته في أبريل، نقل إلى مستشفى في القرم، وكان حينها قرر ترك الجيش لكنّ طلبه كان دائماً ما يُواجه بالرفض من قبل قادته، وقد أمروه بالعودة إلى القتال أو مواجهة المحاكمة العسكرية، وادّعوا كذلك أنّهم فقدوا أيضاً أوراق علاجه الطبية التي كانت ستسمح له بالخروج من المستشفى.
يوضح بافيل: “بقيت شهرين وأنا أحاول تقديم استقالتي بشكل قانوني، وذالك عن طريق تقديم كشوفات مرضية، لكن كان ذلك يأتي بالرفض القاطع، وبدأوا بابتزازي إمّا العودة إلى المعركة أو إحالتي على القضاء ومحاكمتي“. وتابع: “لذلك قمت بنشر كتابي إلكترونياً و بالمجان، وأجريت لقاءً صحافياً مع منظمة حقوق الإنسان، فانتشر الأمر بشكل كبير وعلى نطاق واسع، واضطريت لمغادرة روسيا لأنّني بت مهدّداً بالسجن لمدّة طويلة بتهمة الفرار من الخدمة. كل ذلك لأنّني قلت ما يعرفه الملايين من الروس، وكنت على معرفة ودراية بما يحصل هناك“.
ماذا جاء في مذكرات بافيل التي عرّت الجيش الروسي؟
في سياق التحرّي عن المظلي الروسي، علم برنامج “بالعين المجردة” أنّ بافيل تطوّع في الجيش الروسي العام 2007، وكان يخدم في شمال القوقاز، العام 2010 ترك الجيش ليعمل في تدريب الخيول، لكنّه عاد ووقّع عقداً جديدأً مع الجيش الروسي في أغسطس 2021، وكان يخدم في شبه جزيرة القرم التي استولت عليها روسيا العام 2014.
- في مذكراته يقول بافيل إنّه بعد الاستيلاء على خيرسون، نهب الجنود كلّ شيء واستولوا على أيّ سلع عيروا عليها وأكلنا كل شيء كالمتوحشين.
- معظمنا بقي في الحقول لمدّة شهر من دون راحة أو استحمام أو طعام، وبعد ذلك تم إرسالنا إلى الخطوط الأمامية
- كانت الرواتب أقل ممّا يتقاضاه عامل سوبر ماركت
- جاهزية وحدته القتالية كانت موضع شك، وقال إنّه قدم شكوى مكتوبة إلى وزارة الدفاع
- ثمّة مشاكل مستمرة في الاتصالات والإمدادات الطبية وغيرها من المعدّات.
- كنّا نسير في قافلة ونفكّر كيف سنقوم بذلك الهجوم في ظل ظروف صعبة للغاية لناحية الجهوزية
- الخطة لا تسير على ما يرام ولا نعرف ماذا سيحصل على الجبهة، وكنّا نكتشف الأمورفي اللحظة الأخيرة.
- لا أحد يعالج قدامى المحاربين هنا، ويقصد في المستشفيات العسكرية
- عدد كبير عائلات قتلى الجيش الروسي، لم يحصل على تعويضات.
- مع تنامي الإحباط على الجبهة، ثمّة جنود أطلقوا النار عمداً على أنفسهم من أجل الهروب من الجبهة والحصول على تعويض
تلك النقاط تكشف كيف أنّ روسيا لم تأبه لجنودها على الجبهات، أو بالأحرى كيف دفعت بهم إلى الموت من خلال زجّهم في الحرب من إعداد مسبق وتجهيز كاف. وكل ذلك جعل بافيل يشعر بخيبة أمل. وهو يقول لبرنامج “بالعين المجردة” تعليقاً على ذلك، إنّه يقف ضد الحرب في أوكرانيا لكن في الوقت نفسه، هو ضدّ الفساد والتلاعب في الجيش الروسي.
“حالة الجيش الروسي تلك الأيّام سيئة كحال كلّ مؤسسات الدولة”
هنا يكشف بافيل أنّ “حالة الجيش الروسي تلك الأيّام سيئة مثل حال كلّ مؤسسات الدولة، وذلك يعود إلى الفساد والسرقة المتفشيين داخل هياكل المؤسسات، وخصوصاً في العشر سنوات الماضية. أمّا بالنسبة للروح القتالية عند الجنود الروس، فهنا يجب علينا أن نفهم أنّ المجتمع والرجال الروسيين يُربون على مبادئ معينة وخاصة، فالرجال الروس جاهزون للتضحية والإستشهاد في سبيل الوطن، لكن يجب أن يفهموا من أجل مَنْ ولماذا وما الهدف، لذالك أقول إنّ الروح القتالية عالي جدّاً، لكن الجيش الروسي لا يريد تلك الحرب لإنّهم يعلمون أنّهم على غير حق، ولذالك عدد كبير من الجنود قدموا ويقدمون استقالتهم ويطلبون إعفاءهم من الخدمة“.
ويقول: “أعاني لأنّني أشاهد دمار بلدي على كلّ المستويات. وأعاني كذالك لأنّني عندما قرّرت كتابة كتاب عمّا يجري ويحصل داخل الجيش وفي المعركة يستوجب عليّ مغادرة البلاد. مع الأسف ذلك وضع روسيا الآن“.
أدرك بافيل لاحقاً عدم صوابية تلك الحرب التي تشنّها بلاده على أوكرانيا، وأنّ قرار فلاديمير بوتين جعله يشعر بالعار والحزن الكبيرين، قائلاً إنّ “بوتين جرّ في حربه تلك شعبين متقاربين ليبيدَ كلّ منّا الآخر“. ويخبرنا المظلي الروسي أنّه لا يرى عدالة في تلك الحرب، معبّراً عن خيبة أمل في قيادة روسيا السياسية.
يكشف بافيل كيف كانت القيادة الروسية تضغط على الجنود نفسياً من العودة إلى القتال، مشدّداً على أنّ معظم الجنود الروس غير راضين عما يجري، ولا يريدون تلك الحرب، في إشارته إلى الغضب العارم لديهم واستيائهم.
يقول: “كانوا يضغطون عليهم نفسياً بشكل كبير ويجبرون الأغلبية للعودة إلى ساحة القتال. كتيبتنا شاركت بالقتال في خيرسون وما وراء جسر انتونوف. وكذالك أوكلت لنا السيطرة على مطار خيرسون وبعدها في مينائها . وبعد ذالك أرسلونا الى مدينة نيكالايف. الهجوم الأوّل على نيكالايف ومطارها لم يكن ناجحاً وتراجعنا للوراء. ومن ثمّ جاءنا الأمر بمحاصرة المدينة بالكامل. لم يكن هناك من رفض الأوامر في كتيبتنا، لكن من كان يذهب في إجازة للمنزل كانت الأغلبية منهم يرفضون العودة لساحة المعركة“.
القتال أو فتح ملف جنائي
بعدما كان طلب الإستقالة يواجه بالرفض، اتخذ بافيل القرار الحاسم والشروع بالفرار، فنشر كتابه على صفحته أوائل أغسطس، فانتشر بسرعة كبيرة واضطر إلى تغيير عنوانه مرّات عديدة لتجنّب الإعتقال ليغادر روسيا منتصف الشهر نفسه. ويعتقد بافيل أنّه تمّ فتح تحقيق جنائي ضدّه بتهمة تشويه سمعة القوات المسلّحة، وهي تهمة وردت في التشريع الذي وقعه بوتين بعد فترة وجيزة من الغزو في 24 فبراير.
في اليوم التالي من الهروب، أكّد الروسي فلاديمير أوسيتشكين (Vladimir Osechkin)، وهو رئيس شبكة حقوق الإنسان مقيم في فرنسا، في رسالة على فيسبوك أن بافيل قد فرّ من روسيا. بعد أيّام وصل إلى مطار شارل ديغول في العاصمة الفرنسية، وبعد يومين سُمح له بمغادرة المطار بعدما منحته السلطات الإذن بتقديم طلب رسمي للجوء بمساعدة فلاديمير.
يوضح أوسيتشكين: “عندما تبلّغت القوات الخاصة للإتحاد الروسي أنّ بافيل يتخذ مواقف مهمّة ضدّ النظام الشمولي وضدّ نظام بوتين وضدّ تلك الحرب، أرادت القوات الخاصة الروسية أن تعتقل بافيل لتضع له حدّاً، بعد ذلك أنا وزملائي في مؤسسة نيو ديسيدنز، وهذه منظمة موجودة في فرنسا للمظليين الروس، وزملائي في غوولا غو. نت، ساعدناه على مغادرة الإتحاد الروسي والإستقرار في الدول الأوروبية، وطلبنا له اللجوء السياسي لإنقاذ حياته وحريته، ولأكثر من أسبوعين فعلنا الكثير لمساعدته، وتعرّضنا للكثير من المواقف الخطرة، وقد تمّ توقيفه في تونس من قبل القوات الخاصة بناءً على قرار صادر عن الإتحاد الروسي الذي أصدر عدة وثائق ضدّ بافيل“.
كانت خطة بافيل الأولية نشر مذكراته وتسليم نفسه على الفور إلى الشرطة الروسية، لكن أوسيتشكين نصحه بأن يعيد النظر بقراره ذلك، وحثّه مراراً وتكراراً على الفرار من البلاد، وقد رفض في البداية بافيل ذلك الاقتراح. ويقول فلاديمير أوسيتشكين لبرنامج “بالعين المجردة“، إنّه من المهم جداً أن يصبح أحدهم أوّل من يتحدث علانية عن الجيش الروسيط وقد يكون بافيل قد فتح الباب أمام الكثيرين في المستقبل.
يتابع: “في الأشهر الثلاثة أو الأربعة الماضية، أكثر من 10 جنود طلبوا المساعدة لكنّهم لا يريدون إظهار وجوههم أو نشر أسمائهم، ونحن ساعدناهم، لكن بعدما نشرنا الكثير من المعلومات مع بافيل، أعتقد أنّ أكثر من 100 جندي روسي يريدون ترك القتال والبحث عن طريقة تنقذ حياتهم وحريتهم، وفي رأيي أهم مهمّة لنا في غوولاغو.نت ومؤسسة نيوديسندز بالمشاركة مع بافيل فيلياتيف، هي إيجاد تلك الطريقة بالتعاون مع الحكومات الدولية وأوروبا وأوكرانيا، لأنّني أعتقد أنّه في الوقت الحالي أكثر من 5 آلاف جندي روسي يفهمون جيّداً أنّ تلك الحرب تدعو للإشمئزاز، وليس لها أيّ معنى، هم يريدون وقف ذلك لكنّهم خائفون جدّاً لأنّه سيتم اعتقالهم في الإتحاد الروسي وسيُعذبون في السجون“.
تهديدات بالقتل لفلاديمير اوسيتشكن
ويضيف: “واحدة من القصص التي يمكن شرحها مثلاً منذ شهرين أو أكثر أحد الجنود من الجيش الروسي ماكسيم سولونيي طلب منّي مساعدته، وقد شرح لنا أن قائده ضربه، وقام بالعديد من الأمور غير القانونية معه، وكان خائفاً جدّاً كما حصل معه مشكلة في عينه وصحته، وقد طلب منّي مساعدته. أعتقد أنّ الإعلام العالمي والصحافيين الدوليين لديهم تأثير كبير، وبمساعدة الإعلام والصحافة، من الممكن مساعدة الناس الذين يعرفون أنّ تلك الحرب غير شرعية ومروعة ويريدون الخروج منها”.
العام الماضي نشر فلاديمير أوسيتشكين ملفات سرية للأمن الفيدرالي الروسي وفيها معلومات مهمّة ودقيقة ضدّ نظام بوتين، في شهر ديسمبر الماضي عرضت روسيا مبلغ إثنين مليون دولار لعدم الحديث عن الأمر. يقول فلاديمير إنّهم رفضوا العرض وتابعوا نشر المعلومات عن التعذيب والفساد في روسيا، لتصله لاحقاً تهديدات بالقتل في فرنسا في شهر فبراير. ويوضح أنّ الأشهر الأربعة أو الخمسة الماضية كانت خطيرة جدّاً بالنسبة له ولزملائه. وقد أصبحت منصته غولاغو.نت مساحة يثق بها الروس ويرسل عليها معلومات دقيقة ومهمة جدّاً تدين نظام بوتين.
وفي السياق يقول: “أهم ما شرحه لنا العديد من الجنود الروس هو أنّ الحكومة الروسية كذبت عليهم، لأنّه في الأسابيع الأولى من الحرب، الحملات الدعائية الروسية أوحت لهم بأنّ حكومة كييف تطبق النظام الفاشي وهم كالنازيين، وتلك الحملات الدعائية ساعدت بوتين في إقناع آلاف الجنود، بالإلتحاق بالحرب، لكن بعدما قضوا بضعة أشهر في أوكرانيا أدركوا أنّ المعلومات التي عرفوها من بوتين وحكومته، هي مجرّد أكاذيب وهي غير صحيحة، ولا يوجد نازيون ولا نظام فاشي في أوكرانيا، ولأوّل مرّة أعتقد أنّ العديد من الجنود الروس باتوا يفهمون جيّداً الآن، أنّ الحكومة الروسية ووزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو والرئيس فلاديمير بوتين، هم ديكتاتوريون وقد نشروا الكثير من الأكاذيب ومن المعلومات المضللة، وذلك تسبّب بالكثير من المشاكل على صعيد الدواء والغذاء، ولم يتصرفوا بحضارة مع الجيش الروسي، فكانوا يتعرضون للضرب والتعذيب”.
“تلك الحرب غير ضرورية وخاطئة وعدوانية”
كوفالتشوك يوري ميخائيلوفيتش (Kovalchuk Yuri Mikhailovich)، جندي روسي آخر تمكن برنامج “بالعين المجردة” من إجراء مقابلة معه، بينما كان في طريق الفرار من روسيا وقد بدا بعض الشيء متوتراً وخائفاً، فزوجته وطفلاهما مازالوا في روسيا حتى اليوم، وذلك ما يثير خوفاً كبيراً لديه.
يقول ميخائيلوفيتش: “تركت زوجتي وحدها مع طفلين، ليس لديها أيّ سلاح، لا مسدس ولا شيء، ليس لديّ أيّ من تلك الأشياء. بشكل عام إنّ مكافحة السلطات في روسيا وداخل روسيا، للأسف، مستحيلة بأيّ شكل من الأشكال، لأنّها المافيا، إنّها مافيا، إنّها مجرمة، من المستحيل أن يحاربها شخص عادي“.
يعرف كوفالتشوك تماماً أنّ المشاركة في تلك الحرب على أوكرانيا تساوي الهلاك، ومن هنا قرر ترك الجبهة، وهو يوضح قائلاً: “أعتقد أنّ الجيش الروسي يدفعنا إلى الموت لمجرد أنّ جيشه المحترف فشل في فعل أيّ شيء في أوكرانيا. لذلك السبب يحتاج بوتين الآن ببساطة إلى سدّ الثغرات في ما يخص الموارد البشرية. نعم، أنا متأكد من أنّنا إذا ذهبنا إلى الحرب فسوف نموت جميعاً هناك بالضبط“.
بوتين يأخذ روسيا والعالم إلى مكان سيء
الجندي الروسي يقول لبرنامج “بالعين المجردة” إنّ فلاديمير بوتين يأخذ روسيا والعالم إلى مكان سيء، وذلك ف يمعرض تعبيره عن استيائه من سياسة الرئيس الروسي لبلاده وكيفية تعاطيه مع الملفات الشائكة”، ويضيف أنّ “بوتين يريد تجميد أوروبا وترك العالم العربي جائعاً. لطالما تميز بوتين بمثل تلك التصرفات، إنّه لا يأبه لشيء كسياسي، لكن إذا كان لديه أيّ أدوات للضغط، فسوف يستخدمها. نعم، أعتقد أنه سيكون من الصعب على أوروبا التعامل مع ذلك، وكذلك العالم العربي بسبب الجوع ربّما“.
مؤخراً نشر الفريق الإستقصائي في “أخبار الآن” تسجيلاً مصوّراً حصرياً، يظهر فيه الأوليغارشي الروسي يفغيني بريغوجين المعروف بلقب “طبّاخ بوتين”، برفقة عدد من السجناء الذين التقاهم في وقت سابق، وقد تمّت مساومتهم كآلاف آخرين على حريتهم مقابل المشاركة في حرب بوتين على أوكرانيا.
جولات بريغوجين تلك تأتي في وقت يعاني فيه الجيش الروسي من نقص في الجنود الذين يرفض عدد كبير منهم، كبافيل وكوفالتشوك، المشاركة في الحرب وذلك ما تحدّثت عنه الأخير بينما كان في طريق الهروب، قائلاً: “أعتقد أنّ بوتين يدفع الكثير من المال من أجل تجنيد المرتزقة، لذلك، أعترف تماماً بأنّ روسيا لديها مرتزقة وعرب من ليبيا وسوريا ومن أيّ مكان”.
ويضيف:” أنا شخصياً عندما وصلت إلى حدود روسيا عبر منطقة ساراتوف، رأيت بنفسي فيديو لعربات كانت تنقل سجناء، كان ذلك في 24 سبتمبر. رأيت كيف يتم نقل السجناء إلى الحرب، وتمّ نشر معلومات لاحقاً تفيد بأنّ هؤلاء السجناء تمّ إرسالهم بالطائرة للحرب ضدّ أوكرانيا”.
بريغوجين يسعى لتعويض النقص بالجنود
بعد النقص بالجنود، أعلن بوتين التعبئة الجزئية كإجراء علني رسمي، لكن قبل تلك التعبئية كان بريغوجين يعمل على خطوطه الموازية، فهو لا يسعى لتجنيد السجناء الموجودين في السجون الروسية فقط، بل يسعى للإستعانة بأصدقاء روسيا، تحت عنوان “فرصة عمل مع الأصدقاء الروس”.
فريق برنامج “بالعين المجردة“، تمكّن من الوصول إلى شابين سوريين إثنين عملا مع قوات فاغنر في ليبيا لسنوات مقابل بدل مادي بالعملة الصعبة، ومؤخراً سجلا اسميهما للقتال مع الروس ضد أوكرانيا. وهنا نشير إلى أنّ الأسماء المستخدمة مستعارة حفاظاً على سرية هوية الشابين، وحفاظاً أيضاً على سلامتهما.
مرتزقة عرب حاربوا مع فاغنر في ليبيا ولكن عدلوا عن القتال في أوكرانيا
وليد (اسم مستعار) هو شاب سوري يبلغ من العمر 27 عاماً، العام 2021 ذهب إلى ليبيا للقتال في صفوف قوات فاغنر. يقول لبرنامج “بالعين المجردة”: “بعد تعثّر أهلي في تغطية نفقات تعليمي في جامعة دمشق حيث كنت أدرس العلوم الاجتماعية بسبب حاجتنا للمال، أصبح مطلوباً مني الذهاب إلى العسكرية التي تفرضها الدولة، فاضطررت للبقاء في قريتي حيث سمعت عن فرصة للقتال مع الروس في ليبيا مقابل 1000 دولار أمريكي كراتب شهري، لذلك قمت بالتسجيل عبر مكتب يديره سمسار سوري يعمل مع الروس وأعطيته ما طلب من مال للذهاب إلى ليبيا”.
يشرح وليد المعاناة التي عاشها هناك مع المرتزقة الروسية: “صبرت على الجوع والحرّ والمرض، وكذلك على معاملة الروس السيء بسبب الراتب الشهري، فروسيا عاملتنا كالعبيد”..
بقي الشاب السوري لـ5 أشهر في ليبيا، من شهر فبراير إلى شهر يوليو 2021، ليعود لاحقاً إلى سوريا حيث طرح عليه مكتب التسجيل التابع للفاغنر مجدداً، فرصة عمل هذه المرة في أوكرانيا للقتال مع روسيا. ويقول في السياق: “الراتب الذي عُرض علينا للذهاب إلى أوكرانيا والقتال مع الروس كان هذه المرة 3000$ في الشهر، وقد قمت بالتسجيل لأنني اعتبرت أنّني أصبحت مرتزقة أصلاً بعد السفر إلى ليبيا”.
وأردف وليد قائلاً: “مع اشتداد المعارك في أوكرانيا ومتابعتي لما يحصل هناك، بدلّت موقفي وأخبرت السمسار بذلك، لأنّه في نهاية المطاف روسيا أصلاً تحتل وطننا والموت في بلدنا أشرف لنا من الموت مع الروس في دولة أخرى”.
العديد من السوريين كحال وليد، وبشير (اسم مستعار) هو سوري آخر تمكّن برنامج “بالعين المجردة” من التواصل معه، وقد شرح لنا الإجرام الذي شاهده في تعاطي الروس مع المرتزقة السوريين في ليبيا. وتحدث كذلك عن سهولة القتل بالنسبة لهم وعن نفاقهم قائلاً: “تعاطوا معنا بديبلوماسية قبل الذهاب معهم إلى ليبيا، وهناك رأينا وجههم الحقيقي، فنحن أرقام بالنسبة لهم، وينظرون لنا كمرتزقة في حين أنَّهم هم أنفسهم مرتزقة إذ أن أغلب جيشهم من المرتزقة أصلاً”.
بعد ليبيا تواصلت مكاتب فاغنر في سوريا مع بشير للقتال في مالي ومن ثمّ في أوكرانيا. مع ذلك رفض تكرار التجربة التي عاشها في ليبيا علماً أنَّها لم تتضمن قتالاً كالمطروح اليوم في أوكرانيا، لكن مع ذلك يرفض العودة للتعامل مع الروس الذي يصفهم بالمجرمين. ويقول في ختام حديثه: “لا نريد الموت في أوكرانيا، لا نريد أن نَقتل ولا أن نُقتل، مع الأسف حللنا دماء بعضنا البعض، ويا ليتنا لم نكن بحاجة للمال فما ذهبنا إلى ليبيا، والحمدلله ألغيت فكرة السفر”.
“إنْ كان بوتين لا يأبه لسلامة جنوده برأيكم هل سيأبه لدماء المرتزقة”؟
يرى إذاً العرب كيف تدمّر تلك الحرب حياة الكثيرين من الروس والأوكرالنيين وغيرهم ممن يشاركون في المعارك، التي تشتد فيما المشهد يزداد تعقيداً، ومن هنا بات العرب أكثر حذراً ربّما، إذ أنّ المشاركة في حرب على أوكرانيا ليس كباقي المهمّات العسكرية. سألنا كوفالتشوك عن رسالته لكلّ مَنْ يريد المشاركة في حرب لا طائل منها، فقال: “لا تفعل ذلك تحت أيّ ظرف من الظروف. لا تفعل ذلك، لا تنضم إلى أيّ جيش. ليس عليكم القتال، ليس عليكم أن تقتلوا بعضكم البعض. لا حاجة لمساعدة الطغاة في السلطة لإملاء بعض الشروط على العالم بالقوة، تلك ليست الطريقة التي يتوجب العمل بها. يا أصدقاء أبقوا في المنزل، كونوا مع عائلتكم، مع أطفالكم. من الضروري حلّ الأمور بشكل مختلف، لا يمكنك القتال، لا يمكنك القتال. حياة البشر ليست رهن أي طموحات والمال والسلطة، الحياة لا تساوي أي شيء آخر”.
وتابع: “يجب تمكين الحكومة من قبل الشعب، ودعم بادئ ذي بدء الأشخاص المخولين لأن يكونوا في السلطة، رئيساً كان أو أي شخص. يا رفاق، لا تذهبوا إلى أيّ حروب، لستم بحاجة إلى القتال. ذلك أمر سيء، إنّه القرن العشرون الآن. نحن بحاجة إلى التنمية وليس الحروب، الحروب تعيدنا دائماً إلى الوراء”.
في المحصّلة، الحرب في أوكرانيا درس عظيم ومكلف للغاية على صعد مختلفة، لاسيّما أنّها كشفت زيف بروباغندا بوتين للروس أنفسهم، وبيّنت ضعف الجيش الروسي وعدم جاهزيته بدليل التراجع الميداني الأخير، لكنّ الأهم من رسالة تلك الحرب بالنسبة للروس، هو أنّ فرار الجنود الروس من ساحات القتال، شكّل عبرة لكلّ من يفكّر بالإرتزاق والسير في اتجاه معاكس، حتماً لن يعود منه سالماً. وما تردّد الشابين العربيين اللذين عملا مع يفغيني بريغوجين في ليبيا بالذهاب إلى أوكرانيا، إلّا دليل قوي على التفكير بالأمر مرتين لا بل أكثر.. فإذا كان بوتين نفسه لا يأبه لسلامة جنوده، برأيكم هل سيأبه لدمائكم؟