مصادر جهادية وأمنية يمنية تكشف سر سيف العدل الكبير
- في 2015 تخلص العدل من إقامته الجبرية ضمن صفقة بين القاعدة والنظام الإيراني
- سيف العدل فضل البقاء في إيران والعمل منها بناء على ترتيبات مسبقة مع قادة الحرس الثوري
- تزامن صعود ابن المدني في اليمن مع صعود نفوذ والده على مستوى تنظيم القاعدة ككل
ما زال تنظيم القاعدة عاجزًا -حتى الآن- عن تنصيب أمير جديد له منذ مقتل ايمن الظواهري في غارة جوية أمريكية في أغسطس الماضي. ومع ذلك فإن ثمة إجماع واسع في الأوساط البحثية والإعلامية المهتمة بالشؤون الجهادية على اعتبار القيادي سيف العدل، والمقيم في إيران، كزعيم فعلي للتنظيم. وهو ما ذكر أيضا في تقرير الأمم المتحدة الأخير المنشور في 13 فبراير من العام الحالي 2023.
وفي العام 2015 تخلص سيف العدل من إقامته الجبرية ضمن صفقة لتبادل الأسرى بين القاعدة والنظام الإيراني، لكنه فضل البقاء في إيران والعمل منها بناء على ترتيبات مسبقة مع قادة الحرس الثوري.
أما فرع القاعدة في اليمن، فقد ظل بمثابة العقبة الكؤود أمام توسيع شبكة النفوذ التنظيمي، والأمني لسيف العدل، لا سيما في أيام ناصر الوحيشي.
لكن القيادي المصري ظل يراهن على عامل الوقت لترويض قيادات الفرع اليمني وجعلهم أكثر طواعية أمام نفوذه، وأكثر تقاربًا مع توجهه الاستراتيجي والأيديولوجي، وهو ما حدث فعلا خلال فترة قاسم الريمي، وازداد تجذرا خلال حقبة خالد باطرفي الراهنة.
ولكي يضمن سيف العدل فوزه بالرهان اليمني الشاق فإنه لم يتوانى عن تقديم كل ما يملكه من أوراق ثمينة؛ بما فيها نجله الشاب الذي لم يتردد في إرساله الى اليمن عام 2016، كي يضرب عصفورين بحجر: من جهة يقوم بتأهيل ابنه كجهادي صاعد في أهم فرع للتنظيم العالمي حيث كان تنظيم الجهاد في جزيرة العرب يعيش ذروة مجده في ذلك الحين، ومن جهة أخرى زرع سيف العدل ابنه كقيادي مؤثر بين صفوف النخبة الجهادية في اليمن حتى صار “ابن المدني” –وهي الكنية الأشهر لابن سيف العدل- بمثابة الجسر الناقل للأوامر والمعلومات بين إيران واليمن.
مناخ النشأة
كان لشخصية سيف العدل بعدا آخر غير مرصود للعامة، وهو دوره كمربي أيديولوجي وديني. وفي العام 2002 كلف أسامة بن لادن سيف العدل بمهام تربية وتأهيل نجله حمزة في أثناء إقامة الأخير في إيران، وظل سيف العدل بمثابة الأب الروحي لحمزة بن لادن إلى أن تم الإفراج عنه في العام 2010.
لقد أتقن سيف العدل دوره كصانع لأمراء الجهاد المستقبلين، وطبق نهجه التربوي على ابنه البيولوجي الذي تمتع بظروف إقامة أفضل بكثير من تلك التي كانت لبقية أبناء الجهاديين المقيمين في إيران. وحتى الآن لم يتسنى لنا معرفة الاسم الحقيقي لابن سيف العدل، ولكننا عرفنا أن له كنيتان مشهورتان: “ابن المدني” و”محمد الحضرمي”، وخلال هذا التقرير سوف نستخدم الكنية الاولى عند الإشارة إليه.
نشأ “ابن المدني” في بيئة استثنائية. والدته هي “أسماء مصطفى حامد” بنت مصطفى حامد الشهير بمؤرخ القاعدة والمقيم أيضا في إيران، وقد كانت بمثابة السكرتير الخاص لسيف العدل ، وهي من عملت على ترتيب تواصلاته الخارجية أثناء بقائه تحت الإقامة الجبرية في ايران ، كما انها ساعدت بنشر مقالات زوجها عبر أبيها في شبكات الانترنت تحت الاسم المستعار: “عابر سبيل“.
وخلال فترات غياب سيف العدل عن العائلة كانت أسماء هي من تتولى مهام تربية وتعليم نجلها، مما جعله يتشبع ليس فقط بأفكار سيف وأسماء ولكن الجد مصطفى حامد، المصاب الأول بمتلازمة طهران.
“مصطفى حامد” والد أسماء وكنيته “أبو الوليد المصري” ، هو صاحب موقع “مافا السياسي” والذي يمثل منصة مهمة لمقالات سيف العدل وأفكاره . ويعتبر أبو الوليد المصري من اول الجهاديين السنة الذي دعا الى التقارب الوثيق مع طهران وقام بالتنسيق ما بينها وبين أسامة بن لادن ، وهو يتبنى مقاربة ايدلوجية تدعو الى توحيد الجماعات الجهادية السنية والشيعية لمواجهة الغرب بقيادة النظام الإيراني، ورغم أن أبو الوليد لم يكن عضوا رسميا في القاعدة إلا أنه ظل أحد أهم المنظرين الذين يغذون التيار الجهادي بالأفكار والاستراتيجيات.
لقد استمد “ابن المدني” شخصيته المبكرة وثقافته الجهادية من أبيه وأمه وجده، وهذا جعله متحمسا للعب دور قيادي مؤثر في الحركة الجهادية، وقد كانت الخطوة الأولى في سبيل ذلك هي اخراجه من ايران ، ونقله الى اكثر مكان ملائم لصناعة القادة الجهاديين الشباب: اليمن.
رحلة القدوم إلى اليمن
في العام 2015 توصلت قيادة تنظيم القاعدة إلى اتفاق مع النظام الإيراني يقضي بالإفراج عن سيف العدل واربعة آخرين من القيادات الجهادية مقابل تسليم دبلوماسي إيراني تم اختطافه في اليمن. وعلى هامش هذا الاتفاق أبرم سيف العدل صفقته الخاصة مع قيادة الحرس الثوري الإيراني والتي قضت بالتالي: السماح لسيف العدل بالبقاء في إيران مع تأمينه وتقديم التسهيلات له كي يمارس نشاطه الجهادي من داخل حدودها ، وبالمقابل سوف تسمح السلطات الإيرانية بمغادرة نجله الشاب الى اليمن رفقة عدد من القيادات الجهادية المحسوبة عليه.
ومنذ مارس 2015 وحتى أبريل 2016؛ ظل تنظيم القاعدة في جزيرة العرب ينظم رحلات دورية من ميناء المكلا جنوب شرقي اليمن -والذي كان واقعا تحت سيطرتها في ذلك الوقت – الى الشواطئ الايرانية حيث تعقد اللقاءات السرية بين جهاديي اليمن وسيف العدل، وفي واحدة من تلك الرحلات طلب سيف العدل من ضيوفه اصطحاب ابنه معهم، كي يبدأ بتدشين مسيرته الجهادية من اليمن.
وفي مطلع العام 2016، وصل نجل سيف العدل الى مدينة المكلا ” التي احبها كثيرا” ، على حد تعبير قيادي جهادي كان قد رافقه بالرحلة ، وهناك حصل ابن سيف العدل على كنية إضافية هي “محمد الحضرمي” .
إلا أن “ابن المدني” لم ينعم كثيرا بنفوذ القاعدة في المكلا التي سرعان ما تحررت على يد قوات النخبة الحضرمية مسنودة بقوات التحالف العربي ، وقد تزامن قدوم “ابن المدني” من تآكل نفوذ القاعدة في جنوب اليمن ، وعودة التنظيم مجددا الى سياسة الكمون والتخفي في المناطق النائية.
ويقول أحد القادة الجهاديين المنعزلين بان قدوم سيف العدل الى اليمن كان حدثا فاصلا بين مرحلة “التمكين” التي بلغت ذروتها في العام 2015 ، وبين مرحلة “الابتلاء” التي ما زالت تشتد بقوة حتى الآن. لكن هذه الظروف القاسية قوت من عود القيادي الشاب وجعلته أكثر صلابة على حد وصف جهادي يمني في تنظيم القاعدة ، والذي أضاف : “انه شاب لديه بنية قوية، وشخصيته اتسمت بالقوة والذكاء، يشبه والده، ومع ما تلقاه من خبرة وتدريب في اليمن فمن المتوقع له أن يصعد قريبا للعب دور أكبر“.
ومع الوقت بات واضحا ان هدف سيف العدل من ارسال ابنه الى اليمن لم يكن تربيته او تأمينه فحسب ، إذ سرعان ما بدأ “ابن المدني” يتلقى أوامره من إيران بضرورة الاقتراب من القيادة العامة للتنظيم في اليمن وتحديدا قاسم الريمي وخالد باطرفي. وبحسب جهادي في تنظيم القاعدة “فان الشاب المصري كان متطلعا على الدوام إلى معرفة كل تفاصيل فرع القاعدة في اليمن تنظيميا وقبليا وماليا وعسكريا“.
علاقة ابن المدني بقيادات القاعدة
منذ وصوله تلقى “ابن المدني” معاملة خاصة من قيادات القاعدة ، بما فيهم أميرها السابق قاسم الريمي ، لكن نجل سيف العدل ظل محدود التأثير خلال فترة الريمي وظل يلتحق بالدورات التدريبية ويتنقل في الأماكن الآمنة دون أن تسدى إليه أي مهام عملية، وفق ما فاد به قيادي مقرب من القيادة العامة لتنظيم القاعدة في جزيرة العرب.
وأضاف المصدر بأن “ابن المدني” كان منذ اللحظة الأولى قريبا جدا من باطرفي ومجموعته المقربة المسماة “بالحضارم“.
وقد ظلت العلاقة الاستثنائية ما بين “ابن المدني” و ما بين “الحضارم” تنمو وتزدهر وصولا الى العام 2020 حينما قتل قاسم الريمي وصعد باطرفي خلفا له، وقد كانت تلك هي نقطة التحول في مسيرة ابن سيف العدل داخل تنظيم القاعدة. وبتعبير أحد القيادات الجهادية في التنظيم فإنه من حينها “بات يبحث عن السلطة والهيمنة، أكثر من كونه يبحث عن الخبرة والتعلم“.
وقد تزامن صعود ابن المدني في اليمن، مع صعود نفوذ والده على مستوى تنظيم القاعدة ككل . وخلال حقبة باطرفي أصبحت كل القيادات الجهادية تحاول “التزلف الى نجل سيف العدل تقربا الى أبيه الذي بات مهيمنا على فرع التنظيم في اليمن“؛ يقول قيادي جهادي يمني . ويضيف : “ورغم ذلك الا ان قيادات القاعدة خصوصا في الصف الثاني ما زالت تتخوف من تنامي نفوذ ابن المدني لأنها تخشى من ان يكون مخترق أمنيا” ، ولم تتوانى بعض القيادات الجهادية المنعزلة عن تحميل “ابن المدني” المسؤولية وراء تنامي الاختراقات الأمنية في تنظيم القاعدة ، كما أنها حمّلت ابوه مسؤولية الوقوف وراء العديد من عمليات التصفية للقيادات الجهادية المعارضة له.
ومع مرور الوقت ، وبالتوازي مع تنامي نفوذ “ابن المدني” في اليمن ، تزايدت نزعته المغامرة والاندفاعية. وبحسب مصادر خاصة في تنظيم القاعدة فإن نجل سيف العدل بدأ بالتحرك متخفيا باتجاه محافظة حضرموت وكذلك محافظة المهرة ، وقد حاول أيضا أن يستخرج لنفسه هوية تعريف يمنية لتسهيل تنقلاته.
لكن هذه التحركات اثارت قلق بعض قيادات القاعدة، وقد دفعت بالمسؤول الامني “إبراهيم أبو صالح” الى تحديد حركته رغبة في تأمينه . وبحسب قيادات جهادية فإن “ابن المدني” ما لبث حتى كسر توجيهات “أبو صالح” واعتبرها محاولة لتقويض نفوذه.
واستمر “ابن المدني” بتحركاته النشطة في الملاذات الآمنة لتنظيم القاعدة ، واحيانا خارجها . كما واصل حضوره الدوري لاجتماعات قيادة التنظيم في اليمن وبات رأيه مسموعا في الاجتماعات، بحسب ما أكدته مصادر جهادية متعددة. و أضافت : ” لقد أصبح “ابن المدني” رسميا هو قناة الاتصال الرئيسية بين خالد باطرفي في اليمن وبين سيف العدل في ايران“.
في البداية كان “ابن المدني” هو عين سيف العدل في اليمن ، أما اليوم فقد بات ذراع والده الطولى ، وأصبح حضور “ابن المدني” في اليمن عاملا مهما في التأثير على قرارات القيادة العامة لتنظيم القاعدة في جزيرة العرب.
وباتت أهمية تزداد بشكل مضاعف سواء من ناحية اعتماد سيف العدل عليه لتعزيز نفوذه الاقليمي ، او اعتماد القيادات الجهادية في اليمن على وجوده كقناة اتصال وحيدة بينهم وبين القيادة الفعلية لتنظيم القاعدة والمتواجدة في إيران وذلك عقب مقتل أيمن الظواهري.
القاعدة تحاول تضليل الاعلام والتستر على ابن سيف العدل
وفي يناير الماضي نشر موقع “أخبار الآن” تقريرا مقتضبا يتحدث عن وجود قيادي مصري مقيم في اليمن، يمثل قناة الاتصال الرئيسية مع سيف العدل في إيران.
وقد أثار هذا التقرير انتباه القيادة العامة لتنظيم القاعدة، وعزز مخاوفها من اقتراب الكشف عن وجود نجل سيف العدل في اليمن.
حاول تنظيم القاعدة أن يمارس حيلة ذكية على الجهات المهتمة بالتنظيمات الجهادية، وقدم لها طعما مغريا حينما تحدث عن القيادي الشاب فيصل الخالدي، والمعروف باسم “مبشر” في اليمن.
وقد بدا أن تنظيم القاعدة أكمل القصة التي أطلقها موقع “أخبار الآن”، وكشف عن العنصر المسؤول عن التواصل بين سيف العدل وقيادة اليمن.
لقد اختار تنظيم القاعدة تسريب اسم “فيصل الخالدي” بناء على دراسة فاحصة؛ فهو فعلا كان في إيران من ضمن الحلقة القريبة من سيف العدل، وفي العام 2016 قدم الخالدي إلى اليمن رفقة “ابن المدني”، وتلقيا في حضرموت دورات عسكرية مكثفة، ثم قاما الاثنان بمهمة التبشير بسياسة سيف العدل الجهادية التي تتبنى التحالف الاستراتيجي مع إيران.
وقد ظل دور الخالدي يتنامى في الجهاز الأمني للتنظيم، وذلك بناء على تزكية خاصة من سيف العدل. وفي العام 2018 قام إبراهيم البنا المسؤول، الأمني في القاعدة، بتكليف الخالدي بمهام التحقيق مع العناصر الجهادية المتهمة بالجاسوسية.
لكن ما أخفاه التنظيم في إعلانه الأخير، هو أن الخالدي قد قتل داخل اليمن في العام 2019، في قصف أمريكي على منزل كان يتخذه الخالدي مقرا للتحقيق مع المتهمين، وقد قام إعلام التنظيم بالتكتم عن مقتلة لأكثر من ثلاثة أعوام، ثم قرر فجأة الإفصاح عن شخصيته باعتباره على قيد الحياة، كمحاولة للتغطية عن وجود نجل سيف العدل في اليمن، والذي بات يكتسي أهمية استثنائية في التنظيم.
مستقبل ابن المدني: هل يصبح الزعيم القادم في اليمن؟
لقد تجاوز “ابن المدني” –خلال وقت قياسي- مرحلة الإعداد والتأهيل في اليمن، وهو يمضي اليوم نحو لعب دور مؤثر في قيادة تنظيم القاعدة في جزيرة العرب، وينافس كي يتبوأ موقعاً متقدما فيه.
ولعل هذا الصعود الصاروخي، هو ضمن الأسباب التي أثارت سخط عدد كبير من قيادات القاعدة في اليمن، ودفعت آخرين إلى الانعزال.
ويحاول سيف العدل تكرار سيناريو “حمزة بن لادن” مع ابنه، لذا يبدو مفهوما الآن إصرار سيف العدل على دعم باطرفي كأمير في اليمن، وذلك رغبة منه في كسر الاحتكار اليمني لإمارة تنظيم قاعدة الجهاد في جزيرة العرب والذي تكرس منذ الوحيشي و حتى الريمي؛ وبالتالي فإن صعود شاب مصري للزعامة لن يكون سابقة بعد أن صعد شاب سعودي إليها من قبل.
ويبدو منطقيًا إصرار سيف العدل على تقويض وإزاحة القيادات الجهادية الشابة في اليمن، وفي مقدمتها سعد العولقي، والذي بات تهديدًا حاليًا لزعامة باطرفي، وتهديدًا مستقبليًا لزعامة “ابن المدني”.
وتبدو هذه الهواجس حاضرة بقوة في تصريحات القيادات الجهادية التي باتت تتخوف صراحة من تنامي نفوذ سيف العدل في اليمن ومن مساعيه الى تركيز السلطة بيد ابنه؛ إذ يغامر زعيم تنظيم القاعدة المصاب بـ”متلازمة طهران” بإقحام إبنه لفرض سيطرته على تنظيم القاعدة في اليمن، ومن ثم توجيهه لخدمة أجندة إيران.
ولكن جهود سيف العدل الحثيثة لوضع نجله على سلم قيادة بالقاعدة، تزامنت مع محاولات مستمرة لإخفاء هوية كمسؤول للاتصالات بين طهران وباطرفي، قبل أن تكشف مصادر “أخبار الآن” عن السر الكبير لزعيم تنظيم القاعدة.