في الـ 20 من شهر أبريل الفائت أقدمت مجموعة من المسلّحين يرتدون لباساً عسكرياً، على تنفيذ مجرزة بحق السكّان والمزارعين الأبرياء في بلدة كارما شمال بوركينا فاسو، وقد أسفر الهجوم الوحشي آنذاك عن مقتل أكثر من 130 شخصاً.
تضارب في المعلومات هويّة المسلّحين الذين يرتكبون المجازر
التضارب يحكم الموقف في ما يخصّ هويّة هؤلاء المسلّحين، فيما الحكومة قالت إنّها تجري تحقيقاً في الواقعة، لكن حتّى اليوم لم يصدر أيّ شيء وقد اكتفت السلطات بتصريحات تشير إلى أنّ القتلة هم عبارة عن مجموعة متطرّفة. هؤلاء المسلّحين يستمرّون في تنفيذ مجازر أخرى، وآخرها كان في الـ 11 من الشهر الجاري على مزارعين مسالمين في بلدة يولو غرب بوركينا فاسو، حيث أسفر الهجوم كذلك عن مقتل 33 شخصاً.
وقالت مصادر محلية لـ”أخبار الآن” إنّ مهاجمين مدججين بالسلاح كانوا يستقلون دراجات نارية، أطلقوا النار بشكل عشوائي على المزارعين، موضحةً أنّ “الجناة أحرقوا ممتلكات المزارعين والمدنيين قبل الشروع بإطلاق النار”. وقد وصف حاكم المقاطعة بابو بيير باسينجا الهجوم بأنّه “جبان وبربري”، مضيفاً أنّ الإجراءات الأمنية جارية لمواجهة المتطرفين، وحثّ السكان على زيادة يقظتهم والتعاون مع قوات الأمن.
ويأتي هجوم الخميس بعد أيّام فقط من مقتل مسؤول كبير من منطقة بوكلي دو موهون (Boucle du Mouhoun Region). فقد تمّ العثور على أمادو كابوري (Amadou Kabore) وهو الممثل الأعلى في الولاية، ميتاً بعدما اختطف تحت تهديد السلاح عندما أوقف مسلحون سيارته، وفق ما روى السكان المحليون لـ”أخبار الآن“.
وفي ظلّ كلّ تلك التطوّرات، تتضارب المعلومات حول هوية الجهات التي تنفذ تلك الهجمات، والروايات حول هجوم أبريل لا تتفق على رأي واحد. في الحقيقة، يتهم سكان البلدة قوات الدفاع والأمن البوركينية بتنفيذ المذبحة، بينما تتحدث السلطات عن وقوع هجوم إرهابي. لكن ذلك التفاوت في وجهات النظر يثير تساؤلات حول صدقية التحقيق الجاري والهادف إلى تسليط الضوء على تلك الفاجعة.
كيف حصلت فاجعة العشرين من أبريل؟
في قلب منطقة يعصف فيها الإرهاب، تقع بلدة (كارما) (Karma) على بعد 15 كلم تقريباً من (واهيغويا) (Ouahigouya) وهي مازالت تبكي موتاها وتبحث عن أجوبة على تلك الفاجعة. يوم الحادثة، شاهد شهود عيان طابوراً مؤلّفاً ممّا يزيد على 250 دراجة نارية وشاحنة من طراز بيك-آب تصل إلى البلدة. في البداية، ظنّ بعض سكان البلدة أنّه كناية عن طابور مواكبة لأحد الشخصيات التي تتوجه نحو بلدة سولي المجاورة، إلّا أنّه اتضح بسرعة أنّ كارثة ما بدأت تتحضر، إذ بدأ رجال مسلحون بتطويق البلدة وببث الذعر في نفوس السكان.
أمّا رجال البلدة فقد تمّ تجميعهم في مكان واحد وطلب إليهم إبراز هوياتهم. وتمّ اختيار البعض منهم بشكل عشوائي وتلقوا أمراً بالتوجه إلى مكان محدّد. وبحسب شهادات العيان المتطابقة، فقد كان المسلحون يتحدثون لغة المور، وهي لغة تتحدث بها غالبية البوركينيين، واللغة الفرنسية ولغة ديولا. في ذلك الإطار مازال المواطن سومايلا غانسونري يتذكر تفاصيل الحادثة قائلاً: “لقد سألونا بلغة المور لماذا قد لاذ سكان البلدات المجاورة بالفرار بينما نحن بقينا مكاننا”.
لحظات قاسية عاشها سكان كارما
كما قام المسلّحون بالسيطرة على النساء والأطفال قبل أن يبدأوا باستجواب الرجال. وراح الهلع والبلبلة يسيطران على الأجواء مع ازدياد عمليات التفتيش التي نفذها المسلّحون. فحاول بعض سكان البلدة الهرب، لكنّهم تعرّضوا لإطلاق نار بينما حاول البعض الآخر الاختباء في منزله، لكنّ المسلحين تمكنّوا من العثور عليهم ومن قتلهم.
في حديثه لـ”أخبار الآن“، أفاد بعض الناجين من تلك المذبحة بحصول أعمال وحشية في ذلك اليوم. وهنا فسّر لنا سومايلا غانسونري مثلاً كيف أنّه نجا بأعجوبة من الهجوم قائلاً: “لقد تسلّقت جداراً كان موجوداً قبالتي ولحق بي رجلان آخران لكنهما تعرّضا لإطلاق نار. وسقط أحد الرجال ميتاً أمام أعين زوجته بينما تعرّضت فقط لبعض الخدوش بسبب وقوعي على الأرض”.
أمّا مادي بيليم، وهو أحد الناجين أيضاً، فقد أخبرنا كيف قُتل شقيقه الأصم والأبكم أمام عينيه. وقال: “سألني المسلحون لماذا لم أذهب إلى مكان التجمع كي يصار إلى تفتيشي. عندما حاول شقيقي أن يخرج ليفهم ما كان يجري، قتلوه أمام عيني. كان أصماً وأبكماً ولم يكن قادراً على أن يسمع تحذيري له كي لا يخرج من الساحة. كما أنّني شاهدت إمام مسجد البلدة ميتاً في ساحة منزله. بالإضافة إلى ذلك، لقد أخذ المسلحون دراجتي النارية”.
يخبر سكان البلدة أيضاً كيف أنّهم تجنّبوا الموت من خلال تظاهرهم بأنّهم أموات. على سبيل المثال، شرح لنا سليمان ويدراوغو كيف أنّه طلى جسمه بدم إحدى الجثث القريبة منه كي يجعل المهاجمون يعتقدون أنّه ميت. وأضاف: “لقد جمعونا في مكان واحد وأطلقوا النار علينا ولم يرحلوا إلّا عندما ظنوا أنّ الكل قد ماتوا. إلّا أنّ إثنين منهم قد عادا أدراجهما للتأكّد وكانا يتحدثان اللغة الفرنسية. أنا مثلاً لقد طليت جسمي بدم جثة قريبة منّي وتظاهرت بالموت”.
يضيف بعض سكان البلدة أنّهم قد سلبوهم ممتلكاتهم وهواتفهم ودراجاتهم النارية وأموالهم. في ذلك الصدد يعلق سومايلا غانسونري قائلاً: “لقد سلبوني 20 ألف فرنكاً لكنّني رأيت البعض يحملون مبالغ تقدر بـ200 ألف فرنك تقريباً. يشبه ذلك الأسلوب الإجرامي الأسلوب الذي تستعمله مجموعة فاغنر في دولة مالي القريبة من بوركينا فاسو، علماً أنّه غالباً ما يتمّ اتهام أفراد المجموعة بالمشاركة في عمليات عسكرية وترويع سكان البلدات وقتل مدنيين وسرقة ممتلكات لاسيّما رؤوس ماشية وحُلي واغتصاب نساء وفتيات”، بحسب تقرير صادر عن أليون تين، وهو خبير مستقل يعمل مع منظمة الأمم المتحدة في مجال حقوق الإنسان.
لكن السلطات البوركينية حاسمة في حديثها عن مجموعة فاغنر، إذ عُقد لقاء حواري مع الصحافة المحلية يوم الخميس الواقع فيه 4 مايو من العام الجاري، أكّد فيه الكولونيل قاسوم كوليبالي بنبرة مطمئنة “عدم وجود أي مرتزقة تابعين لمجموعة فاغنر في بوركينا فاسو”.
وفي الوقت نفسه، وصف الرئيس المؤقت إبراهيم تراوري، في مقابلة تلفزيونية، روسيا بأنّها “حليف استراتيجي”. كما تنظر حكومة مالي المجاورة أيضاً إلى روسيا كحليف استراتيجي وقد أبرمت صفقة مع مرتزقة فاغنر للعمل في مالي مقابل الوصول إلى موارد البلاد بشروط مواتية. لذا حتى لو لم يكن هناك مرتزقة روس في بوركينا فاسو في الوقت الحالي، فإنّ الحكومة لا تقول إنّهم لن يأتوا أبداً.
كما أنّ السلطات البوركينية نفت أيّ مسؤولية لقوات الدفاع والأمن البوركينية في مذبحة كارما بالرغم من شهادات العيان المتطابقة للسكان، وأكّدت السلطات أنّ المذبحة يمكن أن تكون قد نفذت من قبل إرهابيين ينتمون لتنظيمات مختلفة مثل جماعة نصرة الإسلام والمسلمين وتنظيم داعش الناشطين في منطقة الساحل منذ العام 2015. وبحسب وزير الدفاع البوركيني قاسوم كوليبالي (Kassoum Coulibaly)، فقد أفاد في لقائه الحواري مع الصحافة بأنّ جماعة نصرة الإسلام والمسلمين تملك أرضية محلية ثابتة تتجذّر فيها إذ تقدم على قتل شخص في كلّ أربع هجمات، وبأنّ 90 % من أراضي الساحل وشمال البلاد تقع تحت سيطرة الجماعة.
وبالتالي يثير ذلك التفاوت في وجهات النظر تساؤلات حول مصداقية التحقيق الجاري والهادف إلى تسليط الضوء على تلك المذبحة. وفي ذلك السياق، يخشى سكان البلدة أن تكون السلطات تسعى إلى تغطية مسؤولية قوّات الدفاع والأمن البوركينية وإلى التخفيف من خطورة الانتهاكات المرتكبة. وبالتالي يناشد السكان بإجراء تحقيق مستقل وحيادي على يدّ محققين دوليين تحت إشراف الأمم المتحدة.
كما أنّ ذلك الطلب قد لاقى تأييد منظمات حقوقية كانت قد عبّرت عن قلقها إزاء ثقافة الإفلات من العقاب التي تستفيد منها قوات الدفاع والأمن في منطقة الساحل. فعلي سبيل المثال، دعت منظمتا هيومن رايتس ووتش وأمنستي إنترناشونال إلى جانب منظمات غير حكومية أخرى الحكومة البوركينية، إلى اتخاذ إجراءات بهدف وقف انتهاكات حقوق الانسان التي ترتكبها القوات المذكورة، وإلى إجراء تحقيق دقيق في مذبحة كارما. أمام ذلك الضغط الهائل، وافقت السلطات البوركينية أخيراً على التعاون مع محققي الأمم المتحدة بهدف توضيح الظروف المحيطة بالمذبحة الآنفة الذكر. وقد قوبل ذلك القرار بترحيب من المنظمات الحقوقية التي شدّدت على أهمية الشفافية والتعاون في البحث عن العدالة وتحقيقها لأجل الضحايا.
هيومن رايتس ووتش: الجيش البوركيني هو الذي ارتكب المجزرة
من جهتها، قالت إلياريا اليجروزي (ilaria allegrozzi)، الباحثة في منظمة هيومن رايتس ووتش، في حديث خاص لـ”أخبار الآن“، إنّ “معلومات المنظمة ترتكز على مقابلات أجريناها مع ناجين تمكّنوا من الهروب من المجزرة والفرار، ومع الأشخاص الذين شاركوا في دفن الجثث في 4 مقابر جماعية. أذكر أنّ 147 شخصاً قد قُتلوا في كارما وحدها، وأنّ الآخرين قُتلوا في القرى المجاورة، كما استعرضنا عدداً من الصور التي أخذت من قبل بعض الأشخاص الذين توجهوا إلى كارما بعد المجزرة”.
وأضافت: “يمكنني القول إنّ روايات الشهود كانت مروّعة للغاية، وصف الناس ما حدث خلال 6 ساعات. فقد أتى الجنود وقتلوا عدداً كبيراً من الناس بمن فيهم النساء والأولاد. قالوا إنّ الجنود أتوا بأعداد كبيرة وحاصروا القرية، وتنقلوا من باب إلى باب وأخرجوا الرجال من المنازل ثمّ تجميعهم وإعدامهم. إذاً قُتل الناس بينما كانوا يتجمعون أو عندما كانوا يحاولون الهرب أو الاختباء، أو عندما كانوا يتوسلون من أجل حياتهم، وقد سمعنا روايات مرعبة من أولئك الذين نجوا من تلك الاعتداءات… النساء مثلاً شهدن قتل أزواجهن، والأطفال قُتلوا عندما كانت أمهاتهم تحملهن على ظهورهن، أكثر من ستين إمرأة وطفلاً قُتلوا خلال تلك الساعات الستة جراء العنف الذي مارسه أفراد جيش بوركينا فاسو“.
هيومن رايتس ووتش: مازلنا نتحقق من إمكانية وجود الروس في بوركينا فاسو
وتابعت اليجروزي: “فبالنسة للجناة، الشهود العيان كانوا متأكدين وواثقين من أنّ الجناة هم جنود تابعون لجيش بوركينا فاسو، فهم تعرّفوا على بذاتهم العسكرية و على علمهم الموجود على بذاتهم، حتّى أنّهم شاهدوا مروحية تحلق فوق القرية بينما كانت القافلة تغادر كارما وتتجه شمالاً نحو قرى أخرى حيث تمّ قتل سكانها أيضاً. تحدّثنا أيضاً إلى أشخاص في أواهيجويا عاصمة المقاطعة التي تقع فيها كارما، والذين رأوا القافلة في صباح ذلك اليوم الواقع في 20 أبريل، تغادر أواهيجويا وتتجه نحو كارما، وتمكّنوا من التعرف على الجنود، حتّى أنّهم قالوا إنّهم تمكّنوا من التعرف على إحدى الوحدات وهي كتيبة التدخل السريع، وهي عادة لا تتمركز في أواهيجويا بل في واغادوغو عاصمة بوركينا فاسو. إذاً هم تمكّنوا من التعرّف على الوحدة. إذاً فيما خص الجناة فالشهود والناجون ليس لديهم أدنى شك من أنّ هؤلاء كانوا من الجنود الذين من المفترض أن يقوموا بحمايتهم لكنّهم عوضاً عن ذلك قاموا بقتلهم”.
ورداً على سؤال، أشارت المسؤولة في منظمة “هيومن رايتس ووتش” إلى أن المنظمة لم تتواصل مع الحكومة، لكنّها اطلعنا على مراسلاتهم عندما أعلنوا عن فتح تحقيق في أعقاب مقتل هؤلاء الأشخاص، قائلةً: “برأيي تلك خطوة إيجابية جداً بالرغم من أنّ عمليات القتل التي حدثت في كارما سيكون تأثيرها أكثر تدميراً وصدمة إذا كان التحقيق الذي وعدت به الحكومة غير محايد وغير مستقل وغير موثوق به، ولكي لا يكون ذلك التحقيق على ذلك النحو أعتقد أنّ سلطات بوركينا يجب أن تطلب المساعدة من شركاء دوليين، كالأمم المتحدة والمفوضية العليا لحقوق الإنسان أو اللجنة الأفريقية لحقوق الإنسان والشعوب، وذلك للتأكد من أنّ ذلك التحقيق دقيق فعلاً ومحايد ونزيه”.
وفي سياق آخر، لفتت اليجروزي إلى أنّ المنظمة حتّى تلك اللحظة لم تجد أيّ دليل يشير إلى وجود جنود روس أو مرتزقة فاغنر في تلك المجزرة، فيما لم يذكر الشهود شيئاً عن ذلك الأمر، مؤكّدةً أنّ المنظمة تراقب كلّ التفاصيل لمعرفة ما إذا كانت هناك أيضاً أطراف أخرى تشارك في تلك المجازر والهجمات الوحشية.
تجدر الإشارة إلى أنّه في شهر أبريل الفائت، أعلن الجيش البوركيني أنّه نفذ عملية ضدّ الجهاديين، وقد حشد أكثر من 800 جندي ومتطوعين، فيما كانت الحكومة فرضت حالة الطوارئ في مارس، وذلك في المناطق الأكثر تضرراً من تلك الهجمات، وتمّ تمديد الإجراء الذي يسمح لقوات الأمن بتفتيش المنازل وتقييد حرية التنقل والتجمع، لستة أشهر أخرى. وقد ضع إبراهيم تراوري، الرئيس الانتقالي لبوركينا فاسو بعدما نفّذ الانقلاب الأخير في 30 سبتمبر العام 2022، هدفاً يتمثل في استعادة 40 % من أراضي البلاد التي يسيطر عليها جهاديون تابعون للقاعدة وتنظيم داعش.