بعد هروبهم من بوتين.. رحلة بحث المعارضة الروسية عن ملجأ في جورجيا
مشهدٌ من رقصِ التانغو على شرفةٍ باردةٍ في تبليسي عاصمةِ جورجيا، وامرأةٌ عجوز، عازفةُ بيانو سابقًا، تعتمد على كرم المارة لتكسبَ رزقَها. الحياةُ في جورجيا صعبةٌ على سكانها، وما زاد الطينَ بِلةً تدفقُ آلافِ الروسِ المعارضين لبوتين إلى جورجيا منذ بدايةِ الحرب في أوكرانيا.
مواطنون تائهون وهاربون انقلبت حياتُهم رأساً على عَقِب، فروا من بلادِهم خوفاً من إجبارِهم على القتالِ في أوكرانيا أو تفادياً لاعتقالِهم من قِبلِ الشرطة الروسية.
الناشط الروسي الفار
و يعتبر نيكولاي نيفشيت، أحدَ الناشطين الروس المعارضين الأكثرَ شهرةً في جورجيا، ويقول إجابة على سؤال ماذا الذي قد يحل به لو قرر مثلاً العودةَ إلى روسيا: ”أعتبر أن وجودي خارج روسيا وخارجَ السجن مفيدٌ أكثرَ من ذهابي إلى هناك ودخولي السجن فوراً. هنا يمكنني أن أساعدَ الآخرين وأن أكتبَ وأن أكون مفيداً“.
ويضيف: ”أما لو عدتُ إلى روسيا فسيتم اعتقالي. ما أن تطأ قدماي الأراضي الروسيةَ، قد يحكمون عليّ بالسجن ما بين 6 و8 سنوات لأنني أسمّي بوتين القاتل أو المجرم، ولأنني أقول إن 20 عشرين بالمئة من أراضي جورجيا لا تزال تحت الاحتلالِ الروسي، ولأنني أقول إن روسيا تنتهك القانونَ الدولي في أوكرانيا في الوقت الراهن. فأجل، سيحكمون علي بالسجن لمدة طويلة وعندها لن يكون بيدي حيلة“.
ويدير نيفشيت قناة تلغرام معروفة، ويقدم المساعدةَ لآلاف الشبان الروس الذين يرفضون القتالَ في أوكرانيا والذين هربوا إلى جورجيا.
أما نينا، زميلةُ نيفشيت، فقد هربت من موسكو لأنها أيضاً كانت تخاف البقاءَ في روسيا.
وتقول نينا عن قصتها: ” أتى رجالُ الشرطة إلى منزلي واتهموني بالمشاركة في التظاهرات. بعد ذلك اتخذت قراري بمغادرة روسيا نهائياً وبقضاءِ بضعة أشهر في جورجيا“.
وتضيف: ”كنا في فصل الصيف وبدت لي الفكرةُ سديدةً. في الحقيقة في سبتمبر جرت انتخاباتٌ فأمضيت عطلةُ الصيف في جورجيا وعدت أدراجي إلى روسيا بعد انتهاءِ الانتخابات. عندما عدت إلى هناك، واجهت بعضَ المشاكل من جديد“.
جورجيا بلدٌ صغيرُ المساحةِ يقع في القوقاز بين تركيا وروسيا. لديه حدودٌ مشتركةٌ مع جمهوريتي أرمينيا وأذربيجان. هذه المنطقةُ عرضةٌ للاضطرابات ولانعدام الاستقرار ما يشكل تحدياً كبيراً لبلدٍ بالكاد يملك جيشاً مثل جورجيا.
الجندي الروسي الفار
السببُ الاساسيُّ في هروبِ عددٍ كبير من الروس إلى جورجيا هو أن الحياةَ غيرُ مكلفةٍ نسبياً ولا يحتاج الروسُ إلى تأشيرةٍ لدخولِ البلاد. من بين الروس القادمين هنا، هناك عددٌ كبيرٌ من الفارين من الجيش الروسي.
ويقول جندي روسي شاب هرب من روسيا، ولأسبابٍ بديهيةٍ طلب منا أن نخفيَ وجهَه وألا نذكرَ اسمَه: ”تم استدعائي إلى الخدمةِ العسكريةِ ما أن أنهيتُ عاميَ الدراسيَ الأخير في يوليو/ تموز من العام 2021. فبحسب القانونِ الروسي، على كلِّ مواطن روسيٍ أن يمضيَ سنةً في الخدمةِ العسكريةِ الإلزاميةِ. في ديسمبر/ كانون الأول من العام 2021 تبلغتُ خبرَ نقلي إلى نقطةٍ حدوديةٍ تقع على مقربةٍ من (بلغورود). كنا ننقل معداتٍ عسكريةً إلى هناك“.
ويضيف: ”بعد ذلك، تم نقلي مجدداً إلى قاعدةٍ عسكرية أخرى. في يناير/ كانون الثاني من العام 2022 تم نقلي من جديد إلى منطقةِ بلغورود حيث أمضيت الفترةَ المتبقية من الخدمة في الجيش. في 24 فبراير/ شباط، مع انطلاقِ شرارةِ الحرب، كنت على مقربةٍ جداً من ساحةِ المعركة“.
وأوضح: ”في 24 فبراير/ شباط من العامِ الماضي استيقظتُ على صوتِ الصواريخ التي كانت تُطلق نحو أوكرانيا. كنت موجوداً في خيمةٍ في أحدِ الحقول فخرجت منها وإذ بي أرى في السماءِ الصواريخَ التي تتجه نحو أوكرانيا. عندما توجهنا نحوَ الحدودِ، اصطحبنا معنا كلَّ المعدات الممكنة. كل ما كان قابلاً للتحركِ وحتى كل ما كان غيرَ قابل للتحرك. معظمُ المعداتِ تعود إلى فترةِ ما قبلِ الثمانينيات وبالتالي لا يمكن لأحدٍ أن يقودها. أما الآليةُ التي خُصصت لي فهي تعود للعام 1986“.
الوضع في جورجيا في غاية التعقيد حتى قبل لجوء الروسِ المعارضين لبوتين إلى هذا البلد. يحتل متمردون موالون لروسيا قسماً من أراضي جورجيا تماماً كما هو الحال في أوكرانيا. ففي أوكرانيا، احتل الجيشُ الروسي والمتمردون الموالون له شبهَ جزيرة القرم وإقليم دونباس.
أما في جورجيا، احتل الموالون لروسيا منطقتي أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية منذ العام 2008، وتبدو اليوم البلادُ على فُوّهةِ بركانٍ قد ينفجرُ في أي وقت.
وبسبب احتلال أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية، يقف الرأيُ العام في جورجيا إلى جانبِ أوكرانيا وضدَ الغزوِ الروسي. فآلاف المتطوعين الجورجيين يحاربون إلى جانبِ الأوكرانيين في الحرب مع روسيا. كما تملأ الاعلامُ الأوكرانيةُ الشوارعَ في العاصمة تبيليسي وتتدلى الراياتُ الأوكرانيةُ والجورجية أيضاً من شرفاتِ المباني ويلوّح بها السكانُ في الشوارع.
الممثل الكوميدي
وبعد أن حلّ المساءُ في تبيليسي، اتجهنا إلى نادٍ كوميدي يقدم عروضاً من نوع ”الستاند- أب“ قد افتتحَ مؤخراً أبوابَه ويعمل فيه ممثلون روس فارون من بلادهم.
لقد هرب الممثلُ الروسي إيغور ألكساندروف من روسيا بداعي الحرب. وقد ازداد وضعُه تعقيداً لأن زوجتَه من الجنسية الأوكرانية.
ويقول: “لقد غادرت البلادَ ما أن انطلقت شرارةُ الحرب. طبعاً زوجتي أوكرانية وقد عاشت في كييف ولوهانسك التي بقيت فيها حتى العام 2014 عندما بدأت الحربُ من ثم انتقلت للعيش في كييف. في بعض الأحيان عشنا في موسكو ولكننا اكتشفنا في ما بعد أننا نرتكب خطأً. عندما بدأت الحربُ في العام 2022، وضّبنا أغراضَنا قدر المستطاع وغادرنا روسيا وجئنا إلى هنا إلى جورجيا“.
وبسؤاله هل يصعب اداءُ الكوميديا في زمنِ الحرب؟، أجاب: ”ليس اليوم. ولكن في الأشهرِ الستةِ الأولى على انطلاقةِ الحرب، قلت في نفسي: لن أتمكنَ من أداءِ الكوميديا. لا أستطيع بكل بساطة. سنقوم بنشاطٍ آخر ولكن لا عروضَ مسرحيةً من نوع ”الستاند- أب“ بعد اليوم. فتقديم عرضٍ كوميدي بدا لي وقتها ضرباً من النفاق“.
في شوارع تبيليسي، يأمل المواطنون الجورجيون والروس أن يستمر الهدوءُ في البلاد ولكن مع عدم الاستقرار في المنطقة، يدرك الجميعُ أن الظروفَ يمكن أن تتغيرَ بين ليلة وضحاها ويبقى الخوفُ الأكبر أن تتحول جورجيا إلى أوكرانيا أخرى.