“صيادو الكرملين يغذّون الانقسام بين الغرب والعالم العربي والمسلمين… ذلك ما يحدث في شمال أوروبا وفي كلّ أنحاء تلك القارة… فالكرملين يثير المواضيع المتعلّقة بالعنصرية والتقسيم، ويصف العرب بالمغتصبين والمجرمين وطالبي اللجوء، وأنّهم يريدون القدوم إلى أوروبا وزعزعة الأمن فيها”.. ذلك الكلام للصحافية والكاتبة الفنلندية يسيكا آرو (Jessikka Aro) التي كانت هي نفسها ضحية الدعاية الروسية والتضليل الإعلامي الذي يقوده الكرملين.
جميعنا سمع عن سعي روسيا الدائم من أجل نشر أخبار كاذبة في محاولة منها للتأثير على الدول وقلب مزاج شعوبها، في اتجاه يحقق مصالح الكرملين. تلك الأساليب تدخل في إطار حرب المعلومات التي تقودها روسيا، وذلك النوع الجديد نسبياً من الحروب يتسبّب في مخاوف متزايدة للناتو والاتحاد الأوروبي، وعموم الديمقرطيات حول العالم.
“بوتين ترولز” (Putin’s Trolls) هو كتاب يعتبر تقريراً مخيفاً عن حرب المعلومات الروسية، إذ يكشف أدوات بوتين من أفراد ومنظمات يقفون خلف عمليات وسائل التواصل الاجتماعي المنسّقة ذات الطابع العسكري التي يقوم بها الكرملين ضدّ الغرب.
كيف تمّ تهديد حياة يسيكا آرو من قبل الكرملين؟
في ذلك الكتاب، تروي الصحافية الفنلندية – الحائزة على جوائز – قصتها الدرامية كهدف للدعاية الروسي. عندما بدأت يسيكا في التحقيق بتأثير عمليات التصيّد التي قام بها الكرملين خارج روسيا، علمت أنّ الأشخاص العاديين في العديد من البلدان الأخرى، كانوا ضحايا للحملات الإعلامية التي صمّمها الكرملين، باستخدام منصات اجتماعية غير منظمة بما في ذلك يوتيوب فيسبوك وتويتر سابقاً (X حالياً). تركّز العديد من حملات التضليل الإعلامي حول الغزو الروسي لأوكرانيا العام 2014 وما تلاه من احتلال لشبه جزيرة القرم.
يسيكا آرو روت لـ “أخبار الآن” كيف عانت على المستويين الشخصي والمهني خلال سعيها الدؤوب لفضح الدعاية الروسية. فكتابها يسلّط الضوء على عمليات التلاعب بالمعلومات عبر الإنترنت التي يمكن أن تقلب حياة الأفراد وصحة الديمقراطيات. وعلى الرغم من تعرّضها لتهديدات متكررة بالقتل والافتراءات، إلّا أنّ آرو كشفت بشجاعة الحقيقة حول آلة دعاية الكرملين في ذلك الكتاب.
كتاب يسيكا آرو يروي قصص 9 أشخاص كانوا أهدافاً لحرب الكرملين الإعلامية
تقول يسيكا: “ألّفت كتابي بوتين ترولز للتحقيق في حرب روسيا المستمرة ضدّ العالم العام 2014 كوني صحافية أوّلاً. بينما واصلت تحقيقي في العدوان الإعلامي للكرملين، أدركت أنّ ذلك جزء من خططه لمهاجمة الغرب وباقي العالم. روسيا ونظام بوتين خصوصاً استخدما مجموعة من الأساليب حتّى الإجرامية منها لمهاجمة الناس الذين ينقلون حقيقة سياسات الكرملين، واكتشفت في كتابي أنّ الأشخاص مستهدفون بتلك الخدمات الخاصة الروسية عبر وسائل التواصل الاجتماعي والأخبار المزيفة، بالإضافة إلى المطاردة والتحريض على العنف عبر الإنترنت. لقد أجريت مقابلات مع الناس (الكتاب يروي قصص 9 أشخاص كانوا أهدافاً للكرملين) الذين كانوا أهدافاً لتلك الهجمات بالرغم من وجودهم خارج روسيا، وأنا شخصياً واحدة منهم”.
بمجرد أن بدأت التحقيق في سلوكيات المتصيّدين الروس في مجال المعلومات العام 2014، أصبحت يسيكا آرو نفسها هدفاً للأخبار المزيفة الروسية التي صوّرتها على أنّها مجرمة ومتآمرة مع الأميركيين، وذلك ما دفع بالناس الذين قرأوا تلك الأخبار إلى التهجم عليها شخصياً.
وفي ذلك السياق، توضح لـ”أخبار الآن” قائلةً: “في سبتمبر العام 2014 وعندما بدأت أحقق بموضوع صيادي الكرملين على وسائل التواصل الإجتماعي، بدأت تصلني رسائل من حول العالم من أشخاص يتحدثون اللغة الروسية، وهؤلاء قرأوا تلك الأخبار عنّي وبدأوا يرسلون لي رسائل كراهية وتمنيات بالموت، كما أنّهم كانوا يتصلون بي ويسمعوني أصوات طلقات نارية، واستمر الحال على ذلك المنوال منذ ذلك الحين”.
تتابع: “على سبيل المثال هناك موقع موال للكرملين نشر أكثر من 300 خبراً ملفقاً عنّي وكان يصورني دائماً على أنّني مجرمة ومدمنة مخدرات ومروّجة للمخدرات، وعميلة لوكالة المخابرات المركزية ومكتب التحقيقات الفدرالي وغيرها من الوكالات الأمنية الأميركية. وأسوأ ما في الأمر أنّ الناس صدقت تلك الأخبار. إذاً هناك الآن عدد كبير من سكان فنلندا مصدقين لكلّ تلك الأخبار، وكل تلك الحملة لأنّني فقط بدأت أحقق بموضوع الحرب الإعلامية الروسية”.
تواجه خطر العنف المتهوّر
وترى يسيكا أن “ذلك ما يجيد فعله الروس ومهندسو الحملات الإعلامية في الكرملين”، مشدّدةً على أنّ “الروس يجيدون التلاعب بأفكار الناس الحقيقيين ومواقفهم وحتّى تصرفاتهم، وذلك أسوأ ما في الأمر”. وكشفت أنّه وفقاً لتقديرات الشرطة، فهي تواجه خطر العنف المتهوّر إذا كانت في المكان الخطأ وفي الوقت الخطأ، “إذاً في حال التقاني شخص من الذين قرأوا تلك الأخبار في الشارع، فمن الممكن أن أتعرّض للضرب أو إلى ما هو أسوأ من ذلك، وذلك مثل على التبعات المقلقة للحملات الإعلامية الروسية وآليات الكرملين لحرب المعلومات الدولية. إنّهم يؤججون ذلك الشعور العدائي الإجتماعي، ويهددون النمو في عدة بلدان، ولسوء الحظ هناك دائماً أشخاص مستعدون لتصديق صيادي الكرملين”.
“الروس يثيرون مواضيع حسّاسة”
يستهدف الكرملين في دعايته مواضيع حسّاسة يلعب فيها على وتر يثير الناس بدرجة عالية، وتجعلهم ينساقون خلف ما يريد الترويج له، تقول يسيكا إنّ الروس يسوّقون لأفكارهم عند العرب والمجتمع الدولي، فيقومون بتأجيج المشاعر الإجتماعية العدائية. إنّهم يتلاعبون بتلك الأفكار العنصرية الموجودة أساساً ولسوء الحظ في بعض البلدان، لكن بالإضافة إلى ذلك هم يسوّقون لأفكارهم عند العرب والمجتمع الدولي، وهنا يصبح الوضع خطراً ومقلقاً لأنّ بوسعهم الحث على قيام التظاهرات وتأجيج المشاعر الإجتماعية العدائية، إنّهم بارعون في التواصل مع أفراد مختلفة من المجتمع، علينا أن نعترف بمهارة الصيادين الروس ومهندسي الحملات الإعلامية، فلقد تمكنوا من إيجاد طريقة لاستغلال وسائل التواصل الاجتماعي بحيث يتمكنون من التواصل مع الفئات السكانية المستهدفة وحتى الأفراد، ذلك ما توصلت إليه من خلال تحقيقاتي، وذلك الوضع خطير أيضاً بالنسبة للشباب العرب وللعرب بشكل عام لأنّهم أحياناً ينجحون في غرس أفكارهم في عقول الناس والتلاعب بهم”.
أضافت: “هؤلاء الصيادون يمكنهم الإدعاء أنّهم عرب فيتواصلون مع هدفهم، وقبل أن يعي ما الذي يحصل يجد نفسه قد أصبح جزءاً من تلك الحملات الإعلانية من دون أن يدري، ذلك قد يحصل على فيسبوك وتويتر ويوتيوب وانستغرام، وحتّى من خلال التعليقات الموجودة في وسائل الإعلام التقليدية، حيث يدّعي الصيادون الروس أنّهم مواطنون عاديون ويستدرجون المواطنين والعرب للغوص أكثر وأكثر في أفخاخ التواصل الإجتماعي والمؤامرات ضدّ المجتمعات”.
وتحدّثت يسيكا آرو لـ “أخبار الآن” عن فرنسا كمثال واضح المعالم بشأن المتصيّدين الروس، موضحةً أنّ ذلك قضية كبيرة ليس فقط في فرنسا، بل في العديد من الدول الأوروبية، موضحةً أن تلك الحملات الروسية لنشر المعلومات الكاذبة كانت بدأت العام 2005… توضح: “الكرملين بدأ في عهد بوتين بإنشاء تلك الشبكات منذ العام 2005 على الأقل، لذلك هم متقدمون علينا بأشواط كبيرة، وبعض تلك الشبكات تمّ فضحها من خلال الصحافيين والباحثين، لكن بعضها مازال سرّياً، وأغلب تلك الحملات تحدث الآن على تلغرام ومجموعات واتساب السرية وغيرها من المجموعات السرية التي من الصعب التحقّق منها حتى علينا كصحافيين”.
وتابعت: “على سبيل المثال عبر آر تي والتي كانت تُعرف سابقاً باسم روسيا اليوم والشركة التابعة لها روبثلي والتي تُدار من برلين في ألمانيا، أي من قلب الناتو والإتحاد الأوروبي، تُدار عملية روسية لحرب معلومات دولية، يتعاونون مثلاً بطريقة ما مع متظاهري السترات الصفراء الذين يتظاهرون ضدّ الحكومة وما يُدعى بالطبقة الراقية، وهؤلاء يقومون بعمليات تخريبية حتّى أنّ المتظاهرين أنفسهم اعترفوا أنّ آر تي هي شبكتهم المفضلة، وهم يريدون التحدث فقط مع من يُسمون أنفسهم صحافيي الـ آر تي… إذاً تلك ليست وسيلة إعلامية عادية، وعلى الناس أن يعرفوا أنّهم لا يتعاملون مع وسائل إعلام اعتيادية تتبع المبادئ التوجيهية الأخلاقية والقانونية، والروس أنفسهم قالوا إنّهم أسلحة في حرب المعلومات، إنّها قضية كبيرة ليس فقط في فرنسا بل في العديد من الدول الأوروبية، مَنْ يحرك العديد من التظاهرات التي تحصل مخربين وصيادين روس.
ورأت يسيكا آرو أنّ المستبدين الآخرين يحذون حذو روسيا، مثل إيران إذ تقول إنّ الحكومة الإيرانية تستخدم أساليب مشابهة جدّاً لتلك التي يستخدمها الكرملين، فيُسكتون الناس بالإكراه ويحاولون منع انتشار الحقيقة، وهكذا يخنقون حرية الكلام والتعبير. وبناء على ذلك الواقع، دعت إلى وجوب اليقظة تجنباً للسقوط في فخ الدعاية الروسية، قائلةً: “علينا أن نكون يقظين جدّاً ويجب أن نعلم أنّ تلك الظاهرة المؤسفة موجودة، لكن يمكننا البحث عن الدعم والمساعدة من أفراد مجتمعنا إذا شعرنا أنّنا مُستهدفون من قبل الصيادين الروس أو من قبل الحملات الإعلامية الروسية. طبعاً هناك تقنيات مضادة منها الانفتاح والتواصل مع أفراد المجتمع ونشر التوعية عندما نشك بأنّنا نتحدث مع أحد الصيادين الروس فلنناقش ذلك مع شخص يمكنه مساعدتنا، على الأقل ذلك ما حدث في فنلندا وفي مجال المعلومات الدولي، الناس تفضح عمليات هؤلاء الصيادين الروس ويساعدون في توعية الناس، برأيي التوعية هي من أهم الإجراءات المضادة التي يمكن أن تحمينا من حرب المعلومات الروسية”.
كيف نتجنّب الدعاية الروسية؟
الجميع في غالب الأحيان يحرص على اليقظة لعدم الوقوع ضحية أمر ما، لكن في بعض الأحيان قد نسقط في الفخ، خصوصاً أنّ الروس بارعون في الدعاية باعتبارها أحد أسلحة الكرملين. لكن في حال شككنا بأيّ معلومات، ما الذي يتوجب علينا فعله؟ يسيكا وبحكم تعاطيها بشكل مباشر مع ذلك الملف، كانت لها جملة من النصائح، هنا أهمّها:
- ثقّف نفسك أكثر عن ذلك الموضوع
- دقق بمصادر الأخبار المنتشرة على الإنترنت وعلى وسائل التواصل الإجتماعي
- دقق في تبعية المصادر وتنبه لعدم انتمائها لجهات تبث تلك الدعاية
- إذا لم تكن واثقاً من مصدرها، من الأفضل أن لا تصدق ما تقرأه
- إبحث عن المساعدة في حال كنت تشكّ بشيء ما
- الروس يستخدمون المؤثرين فعليك التنبّه لمحتواهم
“ابحث عن المساعدة”
وتقول يسيكا: “في تلك الأيام المتصيّدون الروس يدفعون أموالاً للمؤثرين الحقيقيين على وسائل التواصل الاجتماعي للترويج للسياسات الروسية ووجهات النظر الروسية، وبالتالي لا يمكن أن نعرف مَنْ تلقى المال على وسائل التواصل الإجتماعي للترويج لأفكار معينة. ذلك خيار آخر أيضاً، وهنا علينا أن نبحث عن المساعدة إذا كنّا نشكّ بشيء ما، إذ أنّ هناك دائماً شخصاً ما على الإنترنت مستعد للمساعدة لمعرفة ما إذا كان من يتواصل معك من المتصيّدين الروس أم لا”.
هنا تطرح يسيكا آرو إشكالية مهمّة جدّاً قد تخفى على الكثيرين، فثمة مؤثرون كثر هم أصلاً وقعوا في الفج، وبالتالي باتوا يروج لمصالح تعارض مصالح بلادهم من دون أن يعلموا بذلك. وهنا تقول الصحافية الفنلندية: “أحد الأمثلة التي عُرفت عن روسيا أنّها عرضت فيها الأموال، ونقداً لأحد المؤثرين في تيك توك كان في ربيع العام 2020 عندما قامت السفارة الروسية في إيطاليا، إذاً عُرف أنّ الدبلوماسيين الروس في إيطاليا عرضوا عشرين يورو على أحد المؤثرين في تيك توك إذا صور أفلاماً يتحدث فيها عن المساعدات التي قدمتها روسيا لإيطاليا لمواجهة الإنتشار الواسع لكوفيد، لقد أرادوا أن يقوم المؤثرون في تيك توك بنشر تلك الفكرة عن روسيا باعتبارها المساعد الأكبر للصحة الدولية”.
وختمت: “إنّهم يقدمون دعماً بطريقة غير مباشرة لبعض هؤلاء المؤثرين، ويساعدونهم في تحقيق أرباح وجمع الأموال لعملياتهم، بالإضافة إلى مساعدة المؤثرين على زيادة عدد جمهورهم. أعتقد أنّهم يقدمون عملية مفيدة للطرفين، ولسوء الحظ أحياناً هؤلاء المؤثرين لا يعلمون أنّ ذلك العرض للتعاون مُقدم من قبل روسيا أو من خدمات الأمن الروسية أو من قبل مهندسي الدعاية الروس، بل يعتقدون أنّه من أحد رجال الأعمال المحليين، يقوم الروس ببناء شبكة شريرة بالفعل للتلاعب بالمعلومات، وللأسف نحن لا نعرف كلّ التقنيات التي يستخدمونها”.
في ذلك التقرير، تقدم آرو مساهمة مهمّة في فهمنا لعمليات الدعاية الروسية، لكن إنّ ذلك دليل دامغ على ساسة الروس في التأثير والترويض، فهو حتماً ليس كافياً لوقف تلك الدعاية، هنا تبليغ وتوعية، والدور الأوهم يبقى في كيفية العمل على منع الدعاية الروسية، لا سيما من خلال القوانين والأنظمة القانونية، التي يجب أن تكون اشد صرامة لمواجهة تحديات النشر المنظم للكراهية عبر الإنترنت.