تعيش عاصمة إستونيا تالين هدوءاً لافتاً، لكنّ ذلك الهدوء تخرقة السياسة التي تتنفسها إستونيا، ويمكن بسهولة أن تلاحظ الأمر بمجرد جولة صغيرة في شوارع تلك العاصمة التي تروي مبانيها قصصاً كثيرة، فذلك مبنى سوفياتي، وذلك مبنى من عهد ستالين، وهناك مبانٍ بُنيت إبّان عهد الإستقلال…. ومن هنا فسرعان ما يفاجئك ذلك التناقض بين الحياة الهائدة والمواقف السياسية التي لا يلبث رأس الديبلوماسية الإستونية، وزير الخارجية ماركوس تساهكنا (Margus Tsahkna)، بكل وضوع وقوّة في حديثه عن روسيا التي تتشارك حدوداً معها، وإستونيا لا تعتبر فقط أنّها الدولة الأوروبية التي انخرطت في الإطار الأوروبي وتتشارك حدوداً مع روسيا، إنّما أيضاً هي تشكل حدود الناتو مع روسيا.
في مطلع الحوار، سألنا وزير الخارجية ما إذا كانت بلاده تعتبر محظوظة فعلاً أم أنّها تفتقر لذلك فيما هي تقع على حدود روسيا، فردّ بالقول لـ”أخبار الآن“: “نحن نعيش هنا منذ آلاف السنين، لذا فلسنا خائفين لكن لا يأتي أيّ خير من الشرق. أنا كنت وزيراً للدفاع منذ سنتين، وعلى المقلب الآخر من الحدود، كان يتواجد على الحدود مئة وعشرون ألف جندي جاهزون للانطلاق، الآن هؤلاء تمّ إرسالهم إلى أوكرانيا، لكنّ التهديد الروسي مازال قائماً، فنحن لطالما عشنا هنا وقد قرّرنا أن لا نبقى بمفردنا كما كان حالنا العام 1940 عندما كانت إستونيا محتلّة من قبل روسيا، ذلك حالنا وهذا قدرنا”.
“إستونيا تقع على الحدود ما بين العالم الديمقراطي والديكتاتورية”
وعن كيفية إدارة العلاقات مع الروس اليوم في الغزو لأوكرانيا، خصوصاً أنّه يوجد أشخاص من أصول روسية يعيشون في إستونيا، قال: “بالطبع لدينا علاقات مع عدة بلدان، كما أنّه يوجد أشخاص من أصول روسية يعيشون في إستونيا، لكن روسيا الآن دولة معتدية، ونحن نحاول أن نفرض عليها عقوبات من جانبنا كإستونيين، كذلك يحاول الإتحاد الأوروبي، وأعتقد أنّ إستونيا هي من أوائل الدول التي حاولت فرض عقوبات لوقف الحرب الروسية. علاقاتنا الرسمية في أدنى مستوياتها حالياً، ويمكننا القول إنّه لا توجد أيّ علاقات، واللوم لا يقع على إستونيا بل على روسيا، فروسيا هي بلد معتد ونحن نقول ذلك علانية، نحن البلد الذي يقع على الحدود ما بين العالم الديمقراطي والديكتاتورية”.
كيف تواصل إستونيا مواجهة الدعاية الروسية؟
عندما بدأ الغزو الروسي لأوكرانيا، توقفت القنصليات في نارفا ومدينة سانت بطرسبورغ عن إصدار تأشيرات للأشخاص الذين يعبرون في الاتجاهين، كما حظرت إستونيا البرامج التلفزيونية الروسية لأنّها تعتبر إلى حدّ كبير دعاية للكرملين، فكيف تواصل إستونيا مواجهة الدعاية الروسية اليوم؟ في ذلك الصدد أوضح تساهكنا في حديثه لـ”أخبار الآن“أنّ “إستونيا لا تصدر تأشيرات إلّا لأسباب إنسانية، وقد أغلقت كلّ حدودها… كما أنّنا أوقفنا أكثر من 50 قناة تلفزيونية وأكثر من 240 موقعاً إلكترونياً كانوا يروّجون للحرب ولذلك الإعتداء، لكنّنا دعمنا الإعلام الإستوني الخاص والحر حول قنوات الإتصال الروسية والمواقع الإلكترونية المختلفة لمشاركة المعلومات الصحيحة وبشكل موضوعي”.
تابع: “نحن معتادون على التعامل مع السكّان الذين يتحدثون باللغة الروسية في إستونيا لأنّهم موجودون هنا بأعداد قليلة، وأعتقد أنّهم مطلعون على ما يجري بشكل جيّد، أمّا في ما يختص بمواجهة الحملات والدعاية الروسية على مستوى العالم، فذلك ليس هدف إستونيا فقط بل العالم الديمقراطي الحر بأسره، لذا نحن نتعاون مع الإتحاد الأوروبي على عدة مستويات ونتبادل المعلومات لمعرفة حقيقة ما يجري، كما أنّنا نواجه المعلومات الخاطئة التي تنشرها وسائل التواصل الإجتماعي. لدينا شبكة يتطوّع للعمل فيها عدة أشخاص، كما أنّ وزارة الداخلية تعالج أمر المعلومات المضلّلة، كذلك توجد لدينا شبكة مضادة نسميها الشرطة الإلكترونية، وهي المسؤولة عن إصدار إنذار في حال نشر أيّ معلومات مضلّلة على وسائل التواصل الإجتماعي”.
في سياق متّصل، كانت روسيا طردت مؤخّراً عدداً من الأشخاص ضمن الفريق الديبلوماسي الروسي، وأبقت على ثمانية أفراد فقط، وقالت حينها إستونيا إنّ هؤلاء يروّجون للدعاية الروسية ويبررون العدوان على أوكرانيا. وردّاً على سؤال حول كيفية تأكد تالين من أنّ مَنْ تبقّى لا يروج للدعاية الروسية، قال تساهكنا: “السفارات الروسية في كل أنحاء العالم تدافع عن الهجوم، وموظفوها هم الممثلون الرسميون لبوتين ومنتشرون في كلّ العالم. بوتين هو مجرم حرب ويمارس الإبادة الجماعية ضدّ الشعب الأوكراني، بالطبع هم يحاولون إستغلال أيّ فرصة، لكنّنا بلد مستقل ونتصرف عندما تدعو الحاجة”.
ماذا يجري على الحدود؟
وشدّد وزير الخارجية على أنّ “إستونيا تراقب الحدود بشكل جيّد وثمّة تعاون مع الدول المجاورة، لاتفيا، ليتوانيا، بولندا، فنلندا والنرويج… ونحن نتبادل المعلومات بشكل دائم، لكنّ خطر الخرق الإلكتروني موجود دائماً. إنّنا نشهد مئات الهجمات الإلكترونية اليومية ضدّ إستونيا، لا أعتقد أنّ هناك خططاً لغزو عسكري من الجانب الروسي في الوقت الحالي لأنّهم متورطون بشكل كبير في أوكرانيا، لكن يجب أن نكون مستعدين دائماً. نحن أعضاء في الناتو منذ نحو عقدين ونحن دولة حدودية بالنسبة لناتو أيضاً، لذا المادة الخامسة موجودة وجاهزة للتطبيق. عندما كنت وزيراً للدفاع رحّبنا بجنود الناتو عندما قدموا إلى هنا، والآن لدينا مخططات إتفقنا عليها في قمة فينيوس، نحن موجودون فعلاً على الأرض هناك جنود من مختلف البلدان، وفي حال حدوث أيّ هجوم فسيتمّ تطبيق المادة الخامسة بشكل جدي”.
وأكّد أن “روسيا تتصيّد أي فرصة لاختبار وضع الحدود، فهم يستغلون الأبرياء، يقومون بدفع اللاجئين عبر الحدود ويقومون بهجمات إلكترونية، ويجب أن نكون حاضرين دائماً لأنّنا لا نعرف ما ينتظرنا، لكن يمكن القول إنّ حدودنا محمية بشكل جيد”.
“إذا حصل أي انتهاك روسي فنحن سنردّ بالشكل المناسب”
وعمّا إذا كانت إستونيا تخشى أيّ سيناريو محتمل من قبل الروس، قال: “نحن لسنا خائفين ولم نكن يوماً خائفين، فنحن نعيش هنا منذ آلاف السنين، ونعلم تماماً ما الذي يجري، وأعتقد أنّنا الأفضل والأكثر إحترافية لمراقبة ما الذي يجري في الجانب الآخر من الحدود، وما الذي يحصل في روسيا. إنّ روسيا تشكل تهديداً وقد ذكرنا ذلك منذ فترة طويلة ولسوء الحظ كنّا محقين، نحن مستعدون جيّداً ولا أقصد إستونيا لوحدها بل مع حلفائنا، لذا نحن لسنا خائفين وإذا حصل أي انتهاك فنحن سنردّ بالشكل المناسب”.
وشدّد وزير الخارجية الإستونية في حديثه لـ”أخبار الآن“، على أنّ “تالين تريد أن تربح أوكرانيا الحرب ضدّ روسيا. لقد قدمّت إستونيا أكثر من 1 % من دعم الناتج المحلي الإجمالي، وربّما يكون ذلك هو أعلى نصيب للفرد في العالم، لكن الأمر لا يتعلق فقط بالانتصار في الحرب بل بانتهاك القانون الدولي وبالجرائم التي ارتُكبت. إنّ إستونيا ستقدّم شكوى بتلك التصرّفات أيضاً ونريد إنشاء محكمة دولية خاصة بالجرائم التي أمرت بتنفيذها الترويكا التابعة لبوتين، لم نتمكن من تحقيق ذلك حتى الآن لكن المحادثات مازالت مستمرة، وهناك أيضاً المحكمة الجنائية الدولية الخاصة بأيّ نوع من الإنتهاكات بحقّ الأطفال، نحن نعلم أنّ هناك أكثر من 20 ألف طفل قد تمّ ترحيلهم، ذلك الأمر كان من الأولويات في المحادثات التي أجريناها في نيويورك الأسبوع الفائت، نحاول أن نعالج الأمر من مختلف الجوانب، وهدفنا هو إعادة روسيا إلى روسيا ومحاولة فهم ما إذا كانوا سيقومون بأيّ عدوان جديد في المستقبل. لذا يجب أن تجري محادثات على عدة أصعدة، وبالنسبة للعقوبات نحن نقوم الآن بإعداد مقترح حزمة العقوبات الاثني عشر للاتحاد الأوروبي، وهي حزمة قاسية جدّاً، نحن نحاول أن نفعل ما بوسعنا لأنّ ذلك الأمر يتعلق بوجودنا”.
وعن الإستثناءات التي تمنحها إستونيا للروس الذين يرغبون بالقدوم إليها، أوضح أنّ “هناك إستثناءات إنسانية ترتكز على أسباب إنسانية، أيضاً هناك الصحافيون الذين نحاول مساعدتهم وهم معرّضون للخطر في روسيا، فنحن نحاول حمايتهم… لكن إذا كنت مواطناً روسياً فلا يمكنك دخول البلدان التابعة للإتحاد الأوروبي عبر إستونيا.
وعمّا إذا كانت إستونيا ستقدم على إلغاء الإقامات الدائمة للروس لديها في حال أقدمت روسيا على ارتكاب المزيد من المجازر أو عدوان ، قال: “العديد من السكّان من أصول روسية يعيشون هنا منذ عدّة عقود وليس لدينا أيّ مشكلة معهم، نحن نتحدث عن المواطنين الروس الذين يريدون زيارة إستونيا أو دول الإتحاد الأوروبي، إذا انتهت مدّة تأشيرتهم فعليهم العودة إلى روسيا، فما يجري عدوان كامل وتُنفذ فيه عمليات إبادة جماعية ويحصل فيه خرق لكل القوانين الدولية، وذلك كله يحدث الآن ومستمر منذ سنة ونصف”.
وأضاف إنّ “روسيا ترتكب الجرائم يومياً، وأعتقد أنّ ما حدث في بوتشا فتّح أعين العالم على فظاعة ما يجري، وبرأيي أنّ أوكرانيا ربحت الحرب في عقول الناس حول العالم. من حسنات وسائل التواصل الحديثة هو أنّه يمكننا رؤية ما يجري عبر الانترنت وفي كلّ أنحاء العالم. الوضع مختلف تماماً عن أيّام الحرب العالمية الثانية. في الواقع ليس هناك أيّ معلومات عن حقيقة ما حصل، نحن رأينا فقط التحرّكات العسكرية، لكن حصلت انتهاكات خطيرة للقوانين الإنسانية بحقّ الجميع من الإغتصاب إلى ترحيل الأولاد، ما يحدث لا يُصدّق، لا يمكن القبول ببقاء الحال على ما هو عليه بعد الذي حصل في بوتشا، هناك جرائم تحدث على مدار الساعة في أوكرانيا”.
التجارة مع روسيا.. متى تتوقف؟
وفي ما يخص التجارة مع روسيا، أوضح وزير الخارجية الإستوني لـ”أخبار الآن” أنّ “المفاوضات التجارية تجري على مستوى الإتحاد الاوروبي لأنّه لا يمكن لإستونيا أو لاتفيا أو ليتوانيا معالجة الأمر بمفردهم، لدينا حدود طويلة وأعتقد أنّ كلّ القرارات التجارية يجب أن تُتخذ على مستوى الإتحاد الأوروبي لتكون قابلة للتنفيذ، وتلك إحدى الإقتراحات التي قدمناها للإتحاد الأوروبي”.
وعمّا إذا كان تحصل عمليات تهريب لبضائع قد تعتبر محظورة أو خطيرة، قال: “هناك دائماً محاولات للقيام بعمليات التهريب، لكن إستونيا هي من الدول الملتزمة بتطبيق العقوبات، وهناك تعاون وثيق بيننا وبين الدول الواقعة على الحدود. منذ أسبوعين عقدت إجتماعاً مع كلّ الدول الحدودية بدءاً من النرويج وصولاً إلى بولندا ناقشنا فيه مسألة لوحات أرقام السيارات، هذه الشراكة متينة لكن هناك دائماً محاولات، ليس من جانب الشركات الإستونية طبعاً، أكثر من 75% من البضائع التي تمر عبر إستونيا لا تأتي من إستونيا، بل تمر عبر إستونيا، هذه النوايا عالمية”. وتابع: “هناك بعض البضائع غير خاضعة للعقوبات، وتلك مشكلة أيضاً، وما فعلته ليتوانيا هو أنّها وضعت قائمة ببعض السلع التي لا يمكنها أن تعبر الحدود، تلك هذه إحدى الخيارات التي نناقشها حالياً”. وأشار إلى أنّ “إستونيا تحاول تعطيل آلة الحرب الروسية على كل المستويات، من فرض العقوبات إلى فرض قوانين دولية”.
وعمّا إذا كان الناتو يقوم بما يكفي لدعم أوكرانيا، قال: “يمكننا فعل المزيد طبعاً، فأوكرانيا بحاجة إلى كل أنواع الدعم، الدعم العسكري، الدعم المالي، الدعم السياسي. إستونيا هي من قدمت اقتراح تقديم دعم عسكري بقيمة مليون دولار من الإتحاد الأوروبي، لم نكن نتخيل أن يقوم الإتحاد الأوروبي بتقديم مساعدة عسكرية منذ سنتين لأيّ دولة، ذلك الأمر كان يبدو مستحيلاً حتى بالنسبة لي، بالطبع يمكننا أن نقوم بأكثر من ذلك، يمكننا أن نقدم المزيد من الأسلحة، أسلحة أكثر فعالية لأنّ أوكرانيا تحارب من أجل مبادئنا أيضاً، لكن علينا أن ندرك أنّنا يجب أن لا نتعب فتلك حرب طويلة الأمد، وذلك ما نعمل على التشديد عليه على مستوى العالم، لا يمكننا أن نتعب من دعم أوكرانيا، وبوسعنا تقديم المزيد دائماً لكننا ندعم أوكرانيا وذلك هو الأهم”.
ماذا طلب وزير خارجية أوكرانيا من نظيره الإستوني؟
وعن أمد تلك الحرب على أوكرانيا، قال تساهكنا لـ”أخبار الآن:” “تلك الحرب ستستمر، ذلك ليس مجرد هجوم مضاد كما توقّع الجميع، وزميلي وزير الخارجية كوليبا قال بوضوح وعلى الملأ، كما قال لي شخصياً عدّة مرّات، أرجوك بلّغ حلفاءك أنّ الهجوم المضاد ليس كافياً إنّها حرب طويلة الأمد، روسيا زرعت ألغاماً على مسافة 30 أو 40 كيلومتراً، ستة ألغام لكلّ متر مربّع، والأوكرانيون يسيرون فوقها تحت وابل من الرصاص، يجب أن نفهم ما الذي يقومون به إنّهم ينجحون، لكن ذلك سيستغرق وقتاً، يجب أن ندعمهم، هم يخسرون الكثير من الأرواح لكنهم يحاربون من أجل حريتهم ومن أجل قيمنا”.
مشروع يمكّن من استخدام الأصول الروسية المجمّدة!
ولدى سؤاله عن القرار الذي قد يتمّ اتخاذه على مستوى عالٍ بالتوازي مع العقوبات، قال إنّ “العقوبات هي مجرد أدوات نستخدمها لإلحاق الضرر بآلة الحرب الروسية، كما أنّني سأقدم للحكومة وللبرلمان أوّل مشروع قانون للتهريب القانوني في أوروبا، وهو كيف يمكننا استخدام الأصول الروسية المجمّدة حتى أثناء الحرب، تلك خطوة ثورية لأنّه لا يوجد إطار قانوني في أوروبا لكيفية استخدام تلك الأصول، ومن الجيّد أن تلك الأصول مجمّدة. ففي الواقع يجب على روسيا أن تموّل إعادة إعمار أوكرانيا وأن تعوّض عن كلّ الأضرار التي تسببت بها، وتقوم إستونيا بمبادرات متعددة بذلك الخصوص”.
وعمّا إذا كان ذلك ممكناً، ختم بالقول إنّ “دعم أوكرانيا هو قرار مهم جدّاً، ولأوّل مرة نناقش كيف يمكننا استخدام الأصول الروسية المجمّدة، تلك سابقة في أوروبا وذلك أمر بالغ الأهمية، سنعمل على وضع إطار قانوني يسمح لنا باستخدام الأصول الروسية المجمّدة خلال الحرب، الأصول العامة والخاصة، ونحن قدمنا ذلك الحل”.