ارتكبوا جريمتهم بدمٍ بارد وسط صخب وضحك وكاميرات توثّق الفاجعة… عناصر من فاغنر تراقصوا وقَتلوا ولم يُحاكم أحدٌ منهم. في قلب البادية السورية وتحديداً في حقل الشاعر، نفذت مجموعة فاغنر واحدة من أبشع جرائمها في سوريا، لم تكن الأولى ولا حتى الأخيرة، لكن تفاصيلها تكشف الكثير عن عقلية المجموعة التي انتهكت ودمّرت الكثير من السوريين.
حمّادي اسم أصبح يعرفه العالم كلّه والسبب ما فعلته ميليشيا فاغنر به قبل سنوات، واليوم تكشف “أخبار الآن” المزيد من الفضائع عن تلك الجريمة البشعة.
فاغنر وحمّادي.. الجريمة الكاملة
القصة تبدأ مع الشاب الذي راح ضحية تلك الجريمة، هو الذي لطالما هرب من المعاناة، لكنّه في النهاية وقع بين أيدي أبشع المجرمين. هو الشاب محمد طه إسماعيل العبدالله، مُلقب بـ حمّادي، يتحدّر من منطقة الخريّطة في محافظة دير الزور السورية. المعاناة بدأت مع حمادي عندما قرّر السفر إلى لبنان، ذلك هرباً من الخدمة العسكرية في جيش النظام السوري قاصداً العمل في لبنان، ليقضي هناك 5 أشهر لكن الأوضاع الاقتصادية الصعبة في تلك البلاد دفعته للتفكير بالعودة إلى سوريا.
كلّ ذلك حدث في الربع الأخير من العام 2016 حيث عاد حمادي إلى سوريا ليستقبله أوّل حاجز للجيش السوري ويُرسله مباشرة إلى الخدمة العسكرية التي تخلّف عنها. لاحقًا اتخذ حمادي القرار الذي سيُغيّر مجرى حياته، أو في الحقيقة سَيأخذه للطريق الذي سيُقتل فيه. فقد قرّر حمّادي الهروب من الخدمة العسكرية، ومثله مثل الكثيرين، اتخذ طريق البادية للهروب صوب محافظة دير الزور، لكنّه وجد نفسه فجأة بين أيدي مجموعة من مقاتلي ميليشيا فاغنر بالبادية، والذين بدورهم اعتقلوه ونقلوه إلى حقل الشاعر الذي تتولّى الميليشيا حمايته منذ سنوات، وهناك حصلت الجريمة البشعة.
الجريمة البشعة
في مارس العام 2018 انتشر فيديو كالنار في الهشيم على مواقع التواصل الاجتماعي، لمجموعة من مقاتلي ميليشيا فاغنر في حقل الشاعر بسوريا، بينما يعذبون شاباً سورياً حتى الموت بطريقة بشعة للغاية. عُرف حمادي من صوته واللباس الذي كان يرتديه، وقد نعته عائلته بعد انتشار ذلك المقطع، لكن في العام 2019 انتشر المقطع الأكثر وحشية لعملية التعذيب، والذي أظهر المقاتلين ذاتهم وهم يقومون بقطع أيدي الشاب ورأسه، ومن ثمّ قاموا بتعليقه وسكب الوقود عليه وإحراقه.
وسُمع في الفيديو حديث أحدهم كان يقول: “لاتقلقوا لن يرَ أحد هذا الفيديو”، في إشارة لقيام المرتزقة بتصوير الكثير من الجرائم. في المقطع ذاته، سُمع صوت أحدهم وهو يتفاخر بأنّهم سيلعبون كرة القدم برأس الضحية. كل من ظهر في الفيديو كانوا ملثماً ويتحدّث الروسية، ما أكّد أنّهم من مقاتلي فاغنر بالتأكيد.
الكشف عن عناصر فاغنر التي أعدمت حمّادي
صحيفة نوفايا غازيتا الروسية كشفت في تحقيق خاص بعد ذلك تفاصيل الجريمة، وقالت إنّها حصلت في يونيو العام 2017، ثمّ كشفت عن هوية أحد المشاركين بالجريمة، وهو مقاتل في المجموعة يُدعى ستانيسلاف ديتشكو (Станислав Дычко). العام 2023 ظهرت معلومات جديدة عنها إذ كشف موقع Dossier عن أسماء المشاركين جميعاً، قائد المجموعة هو نيكولاي بوكو (Николай Будько)، وهو قائد مجموعة الهجوم الرابعة في فاغنر، وهي المجموعة ذاتها التي سيطرت على حقل الشاعر من أيدي داعش العام 2017، وقد تمّت الجريمة بعلمه وموافقته أيضاً، حيث تمّ تصوير مقطع الفيديو لإبلاغه بقتل الضحية.
ستانيسلاف ديتشكو الذي ظهر اسمه في السابق، أكّد الموقع أنّه هو من قام بتصوير مقطع الفيديو بأوامر من قائده. مقاتل آخر ظهر اسمه في الجريمة وهو ميخائيل ماشاروف (Михаил Машаров) الذي كان يبلغ من العمر 26 عاماً عند وقوعها، وهو مَنْ سرب الفيديو الذي ظهر على مواقع التواصل، وعُرف أنّه تمّت معاقبته بطرده من المجموعة ومنعه من الالتحاق بها مدى الحياة. يُضاف إليهم فلاديسلاف أبوستول (Владислав Апостол) والذي توفي متأثراً بإصابة بغارة أميركية على الضفة اليسرى لنهر الفرات.
جريمة حمّادي كانت واحدة من مجموعة جرائم لفاغنر في سوريا، لكنّها يمكن القول إنّها الأشهر… ففي العام 2021 فرض الاتحاد الأوروبي عقوبات على مجموعة فاغنر، وخلال إقراره لتلك العقوبات ذكر تلك الجريمة بالتحديد بوصفها بأبشع جرائم مرتزقة فاغنر.
“أخبار الآن“ تكشف اليوم عن خيط جديد في جريمة حمّادي، وذلك من خلال اعترافات أحد عناصر فاغنر الذي كان متواجداً في سوريا خلال ارتكاب تلك الجريمة، وهو مارات غابيدولين، قائد سابق في ميليشيا فاغنر، وسبق له أن نشر كتاباً عن المجموعة حمل عنوان ” В одну реку дважды”، أي “مرتان في النهر نفسه”.
مارات غابيدولين: أردت أن أتحدث عن الحقيقة لإنّ الإعلام الروسي يُزيف الواقع
يروي مارات أسباب نشره للكتاب قائلًا: “أردت أن أتحدث علناً كي أقول للروس إنّ ذلك النوع من المجموعات العسكرية موجود فعلاً، وإنّ هؤلاء المرتزقة ليسوا نتاج الغرب العدواني وإنّ بلادنا تستخدمهم، والأهم أنّ حكومتنا تستخدمهم بطرق لا يمكن للغرب أن يتخيلها. والسبب الثاني هو أنّني أردت أن أتحدث عن حقيقة الحرب لإنّ الإعلام الروسي لا ينقل الحقيقة بل يُزيف الواقع”.
يُكمل مارات: “عند محاولتي الأولى لنشره تعرّضت لضغط نفسي كبير من المكتب الرئيسي لمجموعة فاغنر، حيث اتصل بي جهاز الأمن مستخدمين شتّى الوسائل لِمنعي، حاولوا إقناعي ثمّ تهديدي وقد نجحوا في ذلك، فقررت إرجاء النشر ورضخت واستسلمت، لكنّني بعد فترة فكرت في الأمر وقرّرت المضي قدماً وقد عثرت على محرر وعلى دار نشر صغير في روسيا، اتخذ المحرر قراراً شجاعاً وقرّر نشر الكتاب. في تلك اللحظة لم تصدر أيّ ردة فعل من قبل الحكومة فهم كانوا مشغولين بمشاكل أخرى، لكن عندما سافرت إلى فرنسا لتسويق كتابي وعندما بيعت حقوق الطبعة الفرنسية، أدركت أنّني يمكن أن أواجه مشاكل بسبب خطاباتي المناهضة، فقرّرت أن لا أعود إلى روسيا في الوقت الراهن”.
مارات: بريغوجين مارس القيادة الشمولية والسلطوية ولم يكن يغفر الأخطاء
التحق مارات بمجموعة فاغنر بعدما أنهى خدمته العسكرية، “العام 2015 وصلت إلى طريق مسدود وكنت بحاجة إلى أن أبدأ من جديد، فأخبرني رفاقي أنّه يتمّ إنشاء مجموعة عسكرية في روسيا ويمكنّني الانضمام إليها. اعتقدت أنّ تلك هي فرصتي لبدء حياة جديدة وأن أعود إلى مهنتي الأساسية، فأنا كنت جندياً محترفاً، درست في المدرسة العسكرية ثمّ خدمتُ لفترة كَمظلي في قوات الإنزال الجوي التابعة لاتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفياتية، ثمّ روسيا. اغتنمت الفرصة وذهبت إلى العنوان، وقد نجحت في كلّ الاختبارات والإمتحانات، والتحقت بأحد أقسام مجموعة فاغنر”.
استطرد مارات عن فترة ما قبل إرساله إلى سوريا إذ عمل في مكتب زعيم فاغنر السابق يفغيني بريغوجين ويقول: “عملت كمساعد له في الوحدة المركزية لـ 4 أشهر، كانت وظيفة مكتبية مملّة ولم يكن الجو مناسباً لإثبات إمكانياتي وقدراتي. التأقلم كان صعباً لأنّ الشروط في مكتب بريغوجين كانت صعبة، وكان هناك شعور بالخوف. كل الموظفين يخافون من عقاب الرئيس على خطأ لم يرتكبوه بعد… لقد مارس أساليب القيادة الشمولية والسلطوية، ولم يكن يغفر الأخطاء وحتى مساعدوه المقرّبون كانوا يشعرون بالتوتر عندما يتواجدون معه. بعد 4 أشهر تمّ تعييني في منصب مستشار رئيسي للكتبية السورية المسماة “صائدي داعش” وتمّت إرسالي إلى سوريا”.
ماذا قال عن حادثة حمّادي؟
مارات غابيدولين: قتل حمّادي جاء عن طريق الخطأ!
أمّا عن حادثة قتل حمّادي، فقال: “أوّلاً أريد أن أُشير إلى أنّ تلك الحادثة كانت نتيجة قرار خاطئ، وقد اتُخذ بهدف إخافة العدو. في البداية كان التركيز على طريقة تفكير أعضاء داعش. هذا الرجل الذي كان فاراً اعتقدوا أنّه أحد مقاتلي داعش”. وأضاف: “عندمما عرفنا حقيقة الرجل وأنه مدني ولا علاقة بشيء، صدمنا”.
وكشف مارات لنا أيضاً ما يمكن أن يكون دافعاً لدى بعض المقاتلين لتنفيذ مثل تلك الجرائم، وهو الهجوم الفاشل على مصنع كونوكو في ديرالزور، حيث يقول إنّ “بريغوجين هو من اتخذ قرار الهجوم إذ قال لنفسه, هذا هو الوقت المناسب لأقترح على رئيس الاتحاد الروسي الاختيار بيني وبين شويغو
وفهمت أنه يريد التأثير على أعلى مستوى في الحكومة في عملية صنع القرار
وهو أراد فرض قرار بإقالة وزير الدفاع , وأنا كنت أعرف منذ البداية أنه لايريد تعزيز موقع الرئاسة لكن كونه الإنسان الواثق من نفسه فهو كان مقتنعًا أن بإمكانه التأثير في عملية أخذ هكذا قرارات
هجوم كونيكو الفاشل
مارات غابيدولين: هجوم الفاشل على مصنع كونيكو مثال على ثقة بريغوجين بنفسه
يعتبر مارات أنّ “الهجوم الفاشل على مصنع كونيكو هو مثال على ثقة بريغوجين بنفسه، فقد أقنع نفسه بأنّ ذلك الهجوم سيكون ناجحاً وقد قام بإرسال مجموعتين هجوميتين وبعض الفرق الأخرى للمشاركة في تلك العملية المتهوّرة ولم يأخذ وجود القوات الخاصة الأميركية على تلك الأراضي في الحسبان، تلك العملية كانت ضرب من الجنون، وبالنتيجة قتل المئات من مقاتلي فاغنر. أسباب تلك الخسارة كانت الثقة الزائدة في النفس والتحليل الخاطئ للمعلومات، فهذه التحليلات قد وضِعت لدعم القرار الذي تمّ اتخاذه”.
من جانب آخر كشفت صحيفة “وول ستريت جورنال”في تقريرٍ لها عن ذلك الهجوم، أنّ قوات من فاغنر حاولت قطع الطريق من معمل كونوكو للغاز وصولًا إلى الحدود العراقية، وذلك لمنع تقدم قوات سوريا الديمقراطية والتحالف الدولي جنوباً والسيطرة على آبار النفط التي كانت تحت سيطرة تنظيم داعش، وفي وسط الهجوم وتحديداً في ليلة السابع من فبراير، وجّه التحالف الدولي ضرباتٍ جوية قاصمة ضدّ الميليشيا أدّت لوقوع مئات القتلى والجرحى في صفوفهم، إذ بدأت قوات فاغنر هجوماً على منطقة خشام حيث الحقول النفطية التي تديرها شركة كونوكو في محافظة دير الزور السورية. حافظت واشنطن حينها على موقع صغير للعمليات الخاصة هناك، وبمجرد تعرّضه لقصف فاغنر حاول البنتاغون التواصل مع وزير الدفاع شويغو، وأدلى وزير الدفاع آنذاك جيم ماتيس بشهادته أمام الكونغرس، وفي النهاية جاء رد موسكو وفقاً لماتيس “إنّهم ليسوا من قواتهم ولا يتبعون لهم”، ليأتي الأمر من ماتيس بإبادة القوة المهاجمة، وفي غضون ساعات قُتل وجرح المئات من المرتزقة الروس في الغارات الأميركية التي نُفذت. فقد بات ذلك الهجوم واحداً من أكثر المعارك التي خسرت فيها فاغنر مقاتلين في سوريا.
قصة فاغنر في سوريا تحتوي على الكثير من الانتهاكات، وتبدأ من سبتمبر العام 2015. وفي خضم التدخل العسكري الروسي لدعم النظام السوري، قرّرت موسكو إرسال مجموعة فاغنر لتكون هي عماد القوة الروسية على الأرض، وذلك بهدف تقليل الخسائر البشرية في صفوفها النظامية، بالإضافة إلى قدرة المجموعة على تنفيذ مهام أمنية معقدة، وبالفعل سريعاً تمكّنت روسيا من إدخال فاغنر إلى سوريا بسهولة، وقد انتشر مقاتلوها في مختلف المحافظات السورية لكن تواجدهم الأكبر كان في اللاذقية وتدمر ودير الزور ودمشق، وبشكل أقل في بقية المحافظات.
وصل عدد عناصر فاغنر من غير السوريين إلى أكثر من 2000 عنصر، في حين عمدت الميليشيا على تجنيد أكثر من 3000 سوري في صفوفها، وفي بعض الأحيان أطلقت عليهم مسميات مختلفة مثل كتيبة “صائدي داعش” التي تتشكل من مقاتلين سوريين تحت قيادة فاغنر. الرواتب كانت تتراوح ما بين 1200 إلى 4000 آلاف دولار، ويصفها البعض بأنّها قليلة مقارنة برواتب عناصر فاغنر خارج سوريا.
وعلى مدار السنوات الماضية شاركت فاغنر بجانب النظام السوري بعديد المعارك، منها معارك تدمر العامين 2016 و 2017، ومعركة حلب في فبراير من العام 2016، ومن أشرسها معارك ريف اللاذقية في العام ذاته، والتي تمكنت من خلالها من إنشاء مركز لها في مدينة سلمى، والذي تحول فيما بعد إلى معسكرٍ تدريبي للمقاتلين السوريين، ويُقال إنّها أرسلت من خلاله الكثير من المقاتلين حول العالم.
وسط كلّ ذلك تكبّدت فاغنر خسائر فادحة في العدة والعتاد، ومن جانبٍ آخر كسبت الكثير من تواجدها في سوريا، وأبرز تلك المكاسب حمايتها لحقول الفوسفات شرق حمص، والتي تمّ استثمارها من قِبل شركات روسية وصربية في منطقتي خنيفيس والشرقية وأوكلت مهمة حمايتها لميليشيا فاغنر، كما شاركت بالسيطرة على حقل الشاعر النفطي ومن ثمّ حمايته، بالإضافة إلى العديد من المواقع في منطقة الساحل، وبطبيعة الحال تحوّلت تلك الأماكن إلى مقرّات لِلميليشيا في سوريا تضمّ سجوناً وانتهاكات لا توصف، ومن خلال عناصرها السوريين تمكّنت من التحرّك في الأراضي السورية بقوّة، وحتّى نصب الحواجز واعتقال الناس بشكل تعسّفي.
كل ذلك كان يتم تحت إشراف مباشر من قائد فاغنر السابق يفغيني بريغوجين الذي حول سوريا إلى مقر مركزي لِلميليشيا في الشرق الأوسط وموقع تدريب لتصدير المرتزقة إلى بقية الدول لاحقاً، وفي الوقت نفسه أحاط مواقع وتحركات الميليشيا بتعتيم كامل، ما صعّب عملية رصد الجرائم التي كانت ترتكبها خلال اقتحامها للمدن والبلدات في المعارك، ناهيك عن السرية التامة داخل مواقع الميليشيا في مختلف المناطق، ما منح عناصرها الحرية لفعل ما يريدون من دون أن يراهم أو يسمع بهم أحد. لكن جريمة حمّادي كانت الفاضحة لهم ولِانتهاكاتهم، ولايزال حتى اليوم يُكشف المزيد والمزيد عن فضائع فاغنر في سوريا.
شاهدوا أيضاً: قيادي سابق في فاغنر لأخبار الآن: قتل بوتين ليفغيني بريغوجين لن يثبّت سلطته