“الفنتانيل” مركب شيطاني بإمكان المختصين الكيميائيين أن يصنعوا منه عشرات أنواع المخدرات الجديدة، بأشكال مبتكرة وألوان زاهية وتأثيرات يمكن أن تجعل العاقل مجنوناً والمجنون عاقلاً، وبسبب تأثيراته الخطيرة تلك تبذل العديد من الدول قصارى جهدها لمحاربة وصوله إلى أرضها أو انتشاره، وذلك ما تفعله الولايات المتحدة الأمريكية. فمنذ أيّام قليلة فرضت وزارة الخزانة الأمريكية عقوبات على 25 فرداً وكياناً صينياً لتورطهم المزعوم في تصنيع المخدرات وتهريبها على رأسها الفنتانيل وذلك في الوقت الذى تكثف فيه واشنطن جهودها لمنع انتشار ذلك المخدر .
يُعرف ذلك المخدر بـــ”Tranq dope”، وهو خليط بين مادة الزيلازين التي تُعطي للحيوانات الضخمة لتسكين آلامهم مع مادة الفنتانيل، وهنا تكمن الخطورة، فذلك المركّب السحري الذي يمكن للكيميائي أن يمزجه مع أيّ نوع آخر ليبتكر بشكل دائم أنواع جديدة من المخدرات طالما أنّ نظائر الفنتانيل الصينية متوفرة.. وقد وجدت تلك المواد طريقها نحو الأسواق المصرية، فكيف وصل ذلك المخدر من مصانع الصين إلى أسواق مصر؟ ولماذا يجب على المصريين الحذر منه أكثر من أيّ نوع آخر من المخدرات؟ “أخبار الآن” تواصلت مع عدد من الأطباء والمختصين الذين كشفوا حقائق جديدة عن وقوع ذلك المخدّر في أيدي بعض مقدّمي الرعاية الصحية في مصر ..
“مراد” أدمن الفنتانيل بعد عملية جراحية.. كيف؟!
لم يعلم أنّ عملية جراحية بسيطة في ذراعه ستجعله شخصاً مُدمناً… ذلك باختصار ما حدث مع مراد (إسم مستعار)، وهو شاب فى الثلاثينات من عمره وأحد مقدّمي الرعاية الطبية في مصر بعدما أصبح واحداً ضمن صفوف مدمني مُخدر الفنتانيل.
يقول مراد في حديثه لـ”أخبار الآن“: بعدما أجريت العملية وصف لي الطبيب نوعاً معيناً من الأدوية على أنّه مسكن قوي للألم، وهو عقار النالوفين، بدأت في تناوله أثناء تواجدي في المستشفى لتلقي العلاج واستمريت في ذلك حتّى بعد خروجي لفترة طويلة، وكنت أحصل عليه في مكان عملي، وعندما حدث عجز في توفيره رحت أحصل عليه من بعض الصيدليات مدّعياً أنّ هناك مريضاً يحتاجه – ذلك المخدر لا يتمّ صرفه من دون وصفة طبية – وبعدها لجأت إلى مادة أخرى وهي الفنتانيل لأنّها كانت أقوى بالنسبة لي”.
ويضيف: “كنت أتعاطى ذلك المخدّر بكميّات كبيرة على مدار اليوم، فخلال ساعات معدودة على سبيل المثال كنت أحقن نفسي بما يقرب من 6 أو 7 أمبولات، لأنّ تأثيرها رغم قوته إلّا أنّه يدوم لفترة قصيرة لدرجة أنّه كان يحدث لي ضيق تنفس مرّات عديدة، وكنت أقوم بسرقة المادة من المستشفى التي أعمل بها حتى تعرفت على المندوب الذي كان ياتي بها، ومع التحايل والكذب تمكّنت من أخذ كميات منه”.
“الصين” تحول الفنتانيل العلاجي لأخر مدمر :
“تصنيع المادة الفعّالة للفنتانيل عالمياً يُقدر بالأطنان، ويأتي في مقدمة الدول المُصنعة ألمانيا وجنوب أفريقيا بينما دخلت بعض الشركات الصينية فى عملية التصنيع بشكل غير رقابي، فتمّ دمجه مع مواد أخرى ليكون لها فعالية، حتّى تمّ تحويله إلى مادة مخدّرة تسبب الإدمان”. ذلك وفق الدكتور علي عبد الله، مدير المركز المصري للدراسات الدوائيه والإحصاء ومكافحة الإدمان، وقد أشار في حديثه لـ”أخبار الآن” إلى دخول بعض الشركات الصينية في مجال تصنيع الفنتانيل بشكل غير قانوني مخلوطاً بعشرات المواد الخطرة.
العام 2022، قامت الولايات المتحدة الأمريكية بضبط أكثر من 370 مليون جرعة من الفنتانيل، وهي كميّة قادرة على قتل الشعب الأمريكي بأكمله، وتحاول الولايات المتحدة محاربة ذلك المنتج بكافة الوسائل المتاحة، وقبل مدّة اعتقلت وزارة العدل الأمريكية عدة أشخاص وكشفت عن لوائح اتهام جديدة ضدّ 4 شركات صينية تصنع المواد الكيميائية، واتهموا بارتكاب جرائم تتعلق بإنتاج الفنتانيل وتوزيعه ومبيعاته الناتجة عن المواد الكيميائية الأولية، وتمثل لوائح الاتهام تلك أولى المحاكمات التي تتهم شركات تصنيع المواد الكيميائية التي تتواجد في الصين.
وخلال التحقيقات، ضبطت إدارة مكافحة المخدرات DEA أكثر من 200 كيلوغرام من المواد الكيميائية الأوّلية المرتبطة بالفنتانيل، وهي الكمية التي يمكن أن تحتوي على جرعات مميتة كافية لقتل 2 مليون أمريكي. ولا يتوقف انتشار تلك المادة عند الولايات المتحدة وحدها، بل تنتشر فى عدّة دول حول العالم، وفي منطقتنا العربية تعتبر مصر واحدة من أكثر الدول استهلاكاً لتلك المادة.
لم يدرك مراد صاحب الـ 33 عاماً، أنّ اعتياده على تناول تلك المادة ستحوّله شخصاً مدمناً مع مرور الوقت. “في البداية كنت لا أرى أنّني بحاجة إلى العلاج أو أنّني مدمن من الأساس، لكن بعدما تعرّضت لضائقة مادية كنت أخشى أن اتجه لسرقة الأموال، خصوصاً بعد تراكم ديوني، حينها استجبت لرغبات أصدقائي وصارحت أهلي بالأمر خصوصاً أنّني متزوج ولدي طفلان”. ويتابع: “أتيت إلى أحد مراكز علاج الأدمان، وفي أوّل فترة علاج لم أشعر بحجم الكارثة حتى بدأت تتطوذر معي أعراض الانسحاب وبدأت أتعافى تدريجياً مع وجود طبيب نفسي متخصص، ومن خلال مركز تأهيلي تعلمت كيف أواجه الناس في الخارج”.
وفي السياق يقول الدكتور علي عبد الله لـ”أخبار الآن” إنّ “الفنتانيل مفعوله فى الجسم قصير جدّاً لذلك فالبحث العلمي الصيدلى صاغه فى هيئة لاصقات توضع على الجسم لمدّة 72 ساعة لتسكين الألم بتركيزات مختلفة، وخطورته في سوء استخدامه، لذلك يجب على الصيدلي شرح للمريض كيفية الاستخدام الآمن لتجنب الوفاة”.
“مصر” تدخل على خط الدول الأكثر استخداماً للفنتانيل
يُعرف الفنتانيل بأنّه مادة أفيونية اصطناعية قوية تشبه المورفين، يُستخدم عادة لعلاج المرضى الذين يعانون من الآم شديدة خصوصاً بعد الجراحة، كما يستخدم أحياناً لعلاج المرضى الذين يعانون من الآم مزمنة، وذلم هو الاستخدام القانوني للمادة. أمّا الفنتانيل الإصطناعي وهو الشكل غير القانوني، فيُباع على شكل مسحوق أو يوضع في قطرات للعين وبخاخات للأنف، ويُصنع أيضاً على شكل أقراص تشبه المواد الأفيونية الأخرى الموصوفة طبياً. ويقوم بعض تجار المخدرات بخلط الفنتانيل مع مخدرات أخرى مثل الهيروين والكوكايين والميثامفيتامين، وذلك لأنّ إنتاج مادة الفنتانيل عملية سهلة، ما يجعلها خياراً أرخص للتاجر.
الدكتورة إيناس الجعفراوي، مقرّرة المجلس القومي لمكافحة وعلاج الإدمان، تقول لـ”أخبار الآن” إنّ “عقار الفنتانيل كان ومازال موجوداً في مصر، وعندما ظهر تمّ إدراجه فى قانون المخدّرات كجدول أوّل، بمعنى أنّه لا يتمّ صرفه من دون إذن الطبيب، وبالتالي يعاقب القانون في حالة تعاطيه من دون استشارة طبيب أو الاتجار فيه”.
وتضيف: “ذلك العقار تفوق قوّته قوّة المورفين بأضعاف لأنّ الأخير عقار من المسكنات الأفيونية، لكنّ الفنتانيل تأثيره أكبر، وبالتالي لو دخل شخص فى دائرة الإدمان فذلك يمثل مشكلة خطيرة جدّاً مثلما يحدث فى الولايات المتحدة الأمريكية حيث يتمّ تحويره لأشكال أخرى أكثر ضرراً”. وتتابع: “تصنيع أيّ عقار علاجي يكون وفقاً لخطوات محدّدة ولا يعني أنّ عقاراً محدداً آمناً عند العلاج أن يكون الشيء نفسه عندما يساء استخدامه أو خلطه بعقار آخر، وكلّ تلك الأدوية معروفة لأنّ أيّ مسكن من مجموعات الأفيون يكون خطيراً جداً، والفنتانيل عند خلطه بمخدر حيواني وهو الزايلسين يعطي نتائج فى منتهى الخطورة”.
العام 2022 أودى ذلك العقار بحياة ما يقرب من 110.000 أمريكي، ويعد الفنتانيل الآن السبب الرئيسي للوفاة بين الأمريكيين الذين تتراوح أعمارهم ما بين 18 إلى 49، وعندما يتناول الأشخاص جرعة زائدة من الفنتانيل، ويمكن أن يتباطأ تنفّسهم أو يتوقف، وذلك يمكن أن يقلل من كمية الأوكسجين التي تصل إلى الدماغ، وتلك حالة تسمى نقص الأكسجة التي يمكن أن يؤدّي إلى غيبوبة وتلفٍ دائم في الدماغ وبالتالي الموت.
نحو نصف المدمنين في مصر تبدأ رحلتهم نحو التعاطي من سن الـ15 إلى 20 عاماً. وتقدر حجم تجارة الممنوعات في مصر بنحو 400 مليار جنيه، والآن يدخل الفنتانيل الصيني على المجتمع المصري ليزيد من معاناة السكّان والشباب خصوصاً، ويضاعف من حجم المأساة التي عادة ما تنتهي بالموت إذا لم يتمكن المدمن من النجاة بنفسه والتوجه نحو العلاج قبل فوات الأوان.
سُفن الشحن بوابة عبور مخدر الفنتانيل داخل مصر
الدكتورة سامية خضر، أستاذة علم الاجتماع في جامعة عين شمس، تقول لـ”أخبار الآن” أنّ “بعض الدول تسعى إلى استقطاب فئة الشباب ليكونوا سلاحاً مختلفاً يساعد في السيطرة عليها، وهنا تكمن أهمية وجود برامج توعوية، بدايةً من مرحلة الطفولة والمرأة والأسرة.. إضافةً إلى كتب تُظهر كيف أنّ الإدمان هو بمثابة وحش يقضي على الإنسان ويدمّر المجتمعات”.
وتضيف أنّ “هناك سمات تظهر على الشخص المدمن مبكراً لا بدّ أن تلتفت لها كلّ أسرة لإنقاذ ابنها، على سبيل المثال الترنح فى الأفكار والاختيارات، النسيان المتكرر، النوم الكثير والعصبية الزائدة التي تدفعه للقيام بأيّ عمل إجرامي، وذلك أمرّ في غاية الخطورة، فعندما يعتاد على تلك السموم يكون إنساناً آخر تماماً”.
يأتي مخدر الفنتانيل من الصين إلى مصر ويتمّ تصديره عبر سفن الشحن ضمن البضائع بحيث يصعب على المفتشين اكتشاف تلك المواد التي يتمّ تخبئتها جيّداً ضمن المواد الصناعية الأخرى، لأنّه من المستحيل تفتيش كلّ الحاويات، ولا يتم الكشف عن المخدر عادةً إلّا في حال توفر معلومات سريّة”.
الصين لا تقوم بما يكفي لمنع الفنتانيل
تقوم الصين بتصنيع كلّ شيء تقريباً، ولديها سوق ضخم من صناعة المواد الكيميائية، وهي تعتبر المصدر الأوّل لسلائف الفنتانيل. في مايو العام 2019 استجابت بكين لضغوطات المجتمع الدولي، فحظرت الحكومة الصينية إنتاج وبيع الفنتانيل ومشتقاته العديدة، لكن كأنّ شيئاً لم يحدث، ما يعني أنّ الصين لم تقم بما يكفي من أجل منع ذلك المخدّر، وقد واصل البائعون الصينيون تسويق السلائف المستخدمة في صنع الفنتانيل عبر الإنترنت وشحنها مباشرة إلى العملاء في الولايات المتحدة وأوروبا والمكسيك، لتدخل المنظمات الإجرامية المكسيكية في تجارة تلك المادة المربحة وبدأت تهريب الفنتانيل النهائي إلى المستهلكين في الولايات المتحدة.
أصبحت المكسيك الآن مصدر “الغالبية العظمى” من الميثامفيتامين والهيروين والفنتانيل غير المشروع المضبوط في الولايات المتحدة، وذلك وفقاً لتقرير الإستراتيجية الأمريكية الدولية لمكافحة المخدرات، وفي العام 2022 حدّدت الولايات المتحدة المكسيك على أنّها دولة المصدر الوحيد المهم للفنتانيل ونظائره غير المشروعة التي تؤثّر بشكل كبير على الولايات المتحدة.
نجح التجار الصينيون من خلال شبكة معقّدة من الكيانات المسجلة في مدن نائية على طول المناطق الداخلية من الصين في استخدام أساليب شحن متطورة لتجاوز إجراءات الفحص، خصوصاً أنّ التدقيق يكون في كثير من الأحيان أكثر تراخياً ممّا هو عليه في المدن الكبرى، مثل بكين أو شنغهاي، ويمكن شحن آلاف الجرعات معاً في عبوات صغيرة مخفية.
وما يزيد من تعقيد مكافحة الفنتانيل هو التنوع الهائل في السلائف التي يمكن استخدامها لصنعه، كما أنّ أغلب تلك السلائف لها استخدامات مشروعة ـ بما في ذلك لأغراض البحوث الطبية ـ وبيعها قانوني تماماً وتمّ وضع العديد من السلائف المستخدمة في تصنيع الفنتانيل تحت المراقبة الدولية منذ العام 2017.
لكن المختص في المجال الكيميائي بإمكانه الجمع بين السلائف القانونية في سلسلة التوليف لصنع مركبات مماثلة، كما بإمكانه تصنيع نظائر الفنتانيل، وهي بدائل تشبه كيميائياً الفنتانيل وتكون أشدّ فتكاً. ففي تقرير يعود للعام 2021 صادر عن الحكومة الأمريكية، أنّه تمّ العثور على أحد نظائر الفنتانيل أقوى 10000 مرّة من المورفين.
أمّا في مصر فتحاول الحكومة بشكل دائم وضع خطط جديدة لمحاربة الإدمان. ففي العام 2021 أطلقت قانوناً لفصل الموظفين المتعاطين للمخدّرات، ولدى مصر مؤسسة وطنية تعرف باسم “صندوق مكافحة الإدمان” يعمل بالمؤسسة نحو 31 ألف متطوع يقومون بزيارات سنوية لمئات آلاف الأسر للتوعية حول مخاطر الإدمان، وفي العام 2021 وصل عدد الأشخاص الذين أقدموا على مراكز العلاج إلى نحو 101 ألف مرض.
العملات المشفّرة ومبيعات الفنتانيل العالمية
تجارة الفنتانيل لم توفّر العالمَ الرقمي، فالعديد من الجهات الفاعلة غير المشروعة المشاركة في معاملات الفنتانيل وسلائفه، تستخدم العملات المشفّرة. وفي تقرير أعدّه فريق تحقيق chainalysis يظهر حجم التدفقات المالية غير القانونية من مختلف أنحاء العالم إلى الصين لهذا الغرض. ووفق تلك الخريطة المرفقة أدناه والتي عرضها الموقع، تظهر أرقام مهولة عن حجم التحويلات بالعملات المشفرة باتجاه الصين، وهي مبالغ تفوق الثمانية ملايين دولار في فترة زمنية قصيرة.
أمّا في ما يخص شمال أفريقيا ومنطقة الشرق الأوسط، فقد بلغت قيمة التحويلات ثلاثة ملايين وستَ مئةٍ وستين ألف دولار أميركي، وذلك من مارس العام 2019 وحتى ابريل العام 2023. ويعكس ذلك الأسلوب العمل الراسخ للعصابات التي تشتري سلائف الفنتانيل من متاجر المواد الكيميائية الصينية، والتي تستخدمها بعد ذلك لتطوير منتجات الفنتانيل. ذلك الأسلوب الرقمي يشير إلى أنّ مبيعات الفنتانيل باستخدام العملات المشفرة تحدث على نطاق واسع، مع التأكيد على أنّ الأرقام التي تمّ عرضها هنا لا تعكس النطاق الكامل للمعاملات الكيميائية لسلائف الفنتانيل القائمة على التشفير، فهي تتضمن فقط العناوين التي تم الكشف عنها، ومن المحتمل أن يكون إجمالي حجم معاملات العملة المشفرة الحقيقي لذلك النشاط أعلى بكثير.
الكثير من المسؤولية على عاتق الصين
في المحصّلة، تعدّ الصين موطناً لأكبر صناعة كيميائية من حيث الإيرادات في العالم منذ العام 2011، كما تمّ تحديد الصين على أنّها الرائدة عالمياً في صادرات المواد الكيميائية، إذ بلغت قيمتُها أكثر من 100 مليار دولار في عام 2021 وحده. وبينما تزيد الحكومات الإقليمية من يقظتها، لا يزال الكثير من المسؤولية يقع على عاتق الصين في اتخاذ إجراءات صارمة ليس فقط ضد الفنتانيل، ولكن أيضًا حيال المركّبات ذات الصلة وكذلك سلائف الفنتانيل.