على مرّ العقد الماضي، رحبت صربيا بالاستثمارات الصينية التي بلغت قيمتها مليارات الدولارات، من أجل إعادة إحياء صناعاتها المتعثّرة وبناها التحتية المهترئة. إلّا أنّ تلك “النعم” غالباً ما تترافق مع السخاء الصيني المعروف من حيث المصانع الملوّثة والعقود غير الشفافة ومستويات الديون المرتفعة، ما يدفع الصربيين حالياً إلى التفكير بما إذا باتت كلفة تلك الاستثمارات تتخطى فوائدها.
هل تقف صربيا في مهب الريح مع تمكّن الصين من بلغراد؟
في ظلّ تأثير النزاعات الكبرى على السياسة الجغرافية، عملت صربيا بصمتٍ على تطوير علاقاتها الودية مع الصين، التي باتت إحدى أهم القوى الكبرى في العالم اليوم. وفيما كانت الأنظار تتركّز في مكان آخر، انبرت الشركات الصينية بقوّة على الاستثمار في البنى التحتية الصربية.
في 17 أكتوبر/ تشرين الأول، وقّعت صربيا على عقد تجارة حرّة مع الصين خلال قمة “الحزام والطريق” الدولية التي أقيمت في بكين، وعزّزت بذلك تلك العلاقة. من شأن ذلك الاتفاق أن يسهّل تصدير ما يزيد على 8930 منتجاً صربياً ليدخل الصين، والعكس صحيح بالنسبة إلى 10412 منتجاً صينياً.
على مرّ سنين طويلة من التنسيق المتنامي، أمّنت الصين التمويل اللازم لكي تنفذ صربيا مشاريع الطرقات والجسور ومشاريع أخرى أيضاً. ويبدو أنّ علاقات صربيا الجيّدة بالصين المتصاعدة آخذة في الاستمرار في ظلّ الاتفاق التجاري الجديد.
وتجدر الإشارة هنا إلى أنّ العلاقات الثنائية القوية بين الصين وصربيا تعود إلى الحقبة الشيوعية، لكنّها تعزّزت بقوّة في السنوات الأخيرة. وشكل رفض الصين الاعتراف باستقلال كوسوفو أحد العوامل الأساسية التي دفعت بتلك الشراكة المتنامية قدماً بفعل التقدير الصربي لتلك الخطوة.
خريطة الصين الاقصتادية في صربيا
وصرّحت نائبة رئيس الوزراء الصربي مايا غويكوفيتش (Maja Gojković) في سبتمبر/ أيلول في معرض التجارة والاستثمارات الدولية الصينية الثالث عشر في سيامين، بأنّ الصين كانت أكبر مستثمر أجنبي في صربيا في العامين 2021 و2022، وأنّها احتلت المرتبة الثانية على صعيد تدفق الاستثمارات الاجمالية في الفترة المتراوحة بين العامين 2010 و2022. وفي العام الماضي وحده، بلغ تدفق الاستثمارات الصينية 1،5 مليار دولار أميركي، كما أنّ الشركات الصينية العاملة في صربيا تشغّل حالياً ما يزيد على 28 ألف عامل.
وتظهر دراسة متعقّب الاستثمارات الصينية الدولية (China Global Investment Tracker) التي نفذها معهد “أميركان أنتربرايز” (American Enterprise Institute) وجمعية “هاريتاج فاوندايشن” (Heritage Foundation)، أنّ صربيا تبرز من بين حاملي الأرقام القياسية في العالم من حيث تدفق رؤوس الأموال الصينية والاستقراض، إذ تبلغ قيمة القروض الصينية في صربيا 13،98 مليار دولار، وذلك يعتبر رقماً مرتفعاً للغاية. فقد استعملت صربيا الأموال الصينية لغاية بناء الطرقات السريعة والسكك الحديدية والخدمات الجماعية والتغويز وتمويل مشاريع الطاقة، بالإضافة إلى الاستثمار في شركتي الكهرباء Elektroprivreda Srbije والاتصالات Telekom Srbije.
وإضافةً إلى القروض الصينية، استقطبت صربيا في السنوات القليلة الماضية استثمارات صينية مباشرة تتضمن بصورة أساسية استثمارات في منجمي بور (Bor) وزيليزارا (Zelezara) في سميديريفو (Smederevo)، وفي شركة تصنيع إطارات للسيارات. وكان المستثمرون الصينيون الرئيسيون مجموعة زيجين للتعدين (Zijin Mining Group) ومجموعة هيستيل (Hesteel Group) وشركة شان دونغ لينغ لونغ للإطارات (Shandong Linglong Tire).
إلّا أنّ مشاكل تلويث البيئة وغياب الشفافية والمحاسبة قد أدوا إلى بروز مخاوف كثيرة، وانطلاق سلسلة احتجاجات في كلّ أنحاء البلاد، ما أجبر السلطات المحلية على التفكير مليّاً في ما إذا كانت كلفة تلك الاستثمارات تبرر حالياً الفوائد المتأتية عنها.
بور.. مدينة الذهب والغبار
لتوضيح تلك المعضلات ليس هناك أفضل من بور، المدينة الصناعية التي يطغى عليها منجم نحاس شاسع ومجمّع يضمّ مصهراً كانت قد اشترته مجموعة “زيجين” الصينية للتعدين، مقابل مبلغ قدره 350 مليون دولار أميركي. ومنذ ذلك الحين، تمكنت “زيجين” من مضاعفة الانتاج في المنجم بنسبة 3 أضعاف مع الإشارة إلى أنّ المنجم يؤمّن آلاف الوظائف في تلك المنطقة الصربية الفقيرة الواقعة شرق البلاد، لكن سكّان بور يرون أنّ الانبعاثات الصادرة من المصهر القديم قد تسببت بأزمة صحية عامة.
وقد صرحت سنيزانا سيربولا (Snezana Serbula)، وهي رئيسة قسم حماية البيئة في الكلية التقنية في مدينة بور، في حديث لقناة تي في آن وان (TV N1) التلفزيونية في يناير/ كانون الثاني من العام 2023، بأنّ التركيز العالي من الزرنيخ والمعادن الثقيلة الأخرى جاء نتيجة 120 عاماً من التنقيب في المناجم ومن الصناعات التعدينية في تلك المدينة، علماً أنّه كلما ازداد إنتاج النحاس والذهب يزداد انبعاث الزرنيخ، وهو أشهر السموم المعروفة منذ القرون الوسطى. وقد كشفت دراسة حكومية لحال الواقع بين 2015 و2018، أنّ نسبة الوفيات في مدينة بور أعلى بكثير ممّا هي عليه في باقي أنحاء صربيا، وأنّ متوسط العمر المتوقع للسكان في المدينة هو أقل بمعدل 10 سنوات.
وفي العام 2021، فرضت مفوضية المعلومات في صربيا غرامة على مجموعة “زيجين” بعدما وجدت أنّها قد انتهكت القوانين التي تطالب بالكشف عن بيانات بيئية، وقد غُرّمت الشركة عدّة مرّات بسبب انتهاكها معايير الانبعاثات البيئية، إلّا أنّ الحكومة قد تجاهلت الشكاوى المحليّة بحقّ الشركة أو قد رفضتها.
أمّا إيرينا زيكوفيتش (Irena Zivkovic) وهي ناشطة محلية وعضو في جمعية تضم مواطنين محليين متحدّرين من مدينة بور، تدعى “There is a choice”، وهي أيضاً عضو في حزب “الحرية والعدالة” المعارض، قالت في إحدى التظاهرات في المدينة إنّ سكان المدينة يشعرون أنّهم وحيدون وأنّ الدولة الصربية قد تركتهم لمصيرهم وفضّلت الشركة الصينية عليهم وأنّهم خائفون على صحتهم. وأضافت زيكوفيتش أنّ المصنع قد بيع وأنّه على ما يبدو لقد بيعت أيضاً حقوق الإنسان الأساسية الخاصة بسكان المدينة.
ومع تعثر آمال بلغراد بالانضمام إلى الإتحاد الأوروبي، جاءت الصين لتملأ فراغ الإستثمارات. فقد سمح ما قدمته الصين من قروض للبنى التحتية وما اشترته من المصانع الصربية المحتضّرة، بخلق آلاف الوظائف وفرص العمل مع الإشارة إلى أنّ الرئيس ألكسندر فوتشيتش (Aleksandar Vučić) يروّج لتلك المنافع بغية تبرير موقفه من الصين. فقد كانت أهمية الاستثمارات الصينية للرئيس فوتشيتش جليةً منذ بداية بروز نجمه واعتلائه السلطة.
سميديريفو.. المدينة الحمراء
في العام 2012 عندما قرّرت شركة أميركية ترك مصنع الحديد الموجود في مدينة سميديريفو (Smederevo)، قامت الحكومة الصربية بشراء ذلك المصنع الخاسر مقابل مبلغٍ رمزي قدره دولار أميركي واحد، أملاً منها بأنّ تتمكن من تفادي إقفاله وتحافظ على توظيف 5400 عامل في وقت كانت البلاد تواجه فيه بطالة متفشية وصعوبات اقتصادية. وفي العام نفسه، تبوأ السلطة في البلاد للمرّة الأولى الحزب التقدمي الصربي الذي كان قد تشكل حديثاً والذي يرأسه فوتشيتش.
وجاء تولّي الأخير لزمام السلطة وتنظيم قمة (16 + 1) في بلغراد (Belgrade) لتعزيز الاستثمارات والقروض الصينية في صربيا. وقد تعزّزت أيضاً الصداقة بين البلدين وكان السفير الصربي في بلغراد الديبلوماسي الأجنبي الوحيد الذي تمّت دعوته لحضور العيد العاشر لتأسيس الحزب التقدمي الصربي.
في العام 2016، اشترت شركة HBIS الصينية معمل الحديد في سميديريفو مقابل 46 مليون يورو، وأسهمت تلك الصفقة في إعادة إحياء صناعة الحديد المتعثرة في صربيا وفي خلق فرص عمل جديدة. لكن السكّان المحليين في سميديريفو قد واجهوا متاعب جديدة مع المالكين الجدد بسبب انبعاث الغبار الأحمر والأسود وسقوط نجارة الحديد على الفاكهة والأسطح وأوراق الشجر، واضطرار السكان على تنشيف الغسيل في البيوت البلاستيكية بسبب الغبار. وتلك هي الصورة من بلدة راديناك (Radinac) الواقعة على بعد بضعة كيلومترات من معمل الحديد في سميديريفو.
وبحسب بيانات جمعتها المنظمة غير الحكومية المحلية Movement Fortress، فقد أصبحت مدينة سميديريفو نقطة سوداء بسبب التلوث المفرط الذي شهدته لمدة 148 يوماً العام 2020. وتلقي المنظمة باللوم على شركة HBIS لتسبّبها ببروز لاجئين بيئيين فيها، أي السكان الذين يهربون من منازلهم بدافع التلوث.
إنّ مجموعة أتش بي ىي أس (HBIS GROUP Serbia) جزء من مجموعة HBIS الدولية، وهي شركة حكومية تعود ملكيتها لهونغ كونغ. كما أنّها إحدى أكبر منتجي الحديد والفولاذ في العالم. تتضمن مجموعة HBIS ما يزيد على 20 شركة موجودة في كافة أنحاء العالم، بما فيها الولايات المتحدة الأميركية وكندا والنمسا وجنوب أفريقيا، وتوظف أكثر من 120 ألف موظف.
في حفل الإفتتاح، حمل العمّال الصربيون لافتات دعم كتب عليها “زيليزارا، أي مصنع الحديد، حجر زاوية الاقتصاد الصربي“. إلّا أنّ تلك الاستثمارات لم تجلب فقط المال والوظائف الجديدة ولكن التلوث أيضاً. فمنذ قيام المستثمر الصيني بشراء ذلك المصنع، ارتفع مستوى المواد الستاتيكية (أو الساكنة) في الهواء، ما جعل حياة المواطنين في سميديريفو للمخاطر الصحيّة الكبيرة. وبالتزامن مع شعور سكان مدينتي بور وسميديريفو أصلاً بالعواقب البيئية المترتبة على الاستثمارات الصينية، باتوا يخشون اليوم بروز استثمارات جديدة في شمال البلاد.
زرينجانين.. مدينة الإطارات المستقبلية
على بعد 200 كيلومتر شمالاً، تصاعدت شكاوى مماثلة على مرّ السنوات الثلاثة الماضية بحقّ المصنع الجديد الذي أنشأته شركة “شان دونغ لينغ لونغ” بقيمة 994 مليون دولار في مدينة زرينجانين (Zrenjanin)، ما يجعل من ذلك المشروع أكبر استثمار صيني حتى الآن في صريبا. ومع انطلاق الانتاج في المصنع في وقت سابق من العام الجاري، بات السكّان يخشون بأنّ تسمم الانبعاثات الصادرة منه هواءهم وترابهم ومياههم. وفي تلك المدينة، بدأ السكان بالاشارة إلى انتهاكات للقانون والعواقب البيئية المحتملة التي ستتكبدونها عندما يبدأ أحد أكبر المعامل المصنعة للإطارات بالإنتاج بكامل طاقته.
وبناءً على تصاريح الحكومة الصربية، ستوظف شركة “شان دونغ لينغ لونغ” الصينية 1200 عامل، وستنتج 13 مليون دولار سنوياً. لكن ثمّة مشكلة برزت في مدينة زرينجانين وهي أنّ المعمل كان قيد الإنشاء ولم يتم إجراء تحليل للوقع البيئي المترتب عنه علماً أنّه ضرورة قانونية لكل الشركات في صربيا.
بالإضافة إلى ذلك، تتعلق أبرز اعتراضات بعض المنظّمات البيئية وبعض المواطنين في زرينجانين، بأنّ إنتاج الإطارات يعدّ من بين الصناعات الأكثر تلويثاً في الصناعات الكيميائية. ففي العام 2021، ادعت منظمات غير حكومية صربية أنّ زهاء 500 عامل فييتنامي كانوا قد وظفوا من أجل تشييد المصنع كانوا يعيشون ويعملون في ظروف من شأنها أن تشكل خطراً على صحتهم وحياتهم. وبحسب تقرير صادر عن منظمة A11 غير الحكومية، لقد ظهرت دلائل على أنّ العمال الفييتناميين يمكن أن يكونوا قد وقعوا ضحية اتجار بالبشر بغية استغلالهم. إلّا أنّ كلّ شكاوى السكان واعتراضاتهم لم تجدِ نفعاً لأنّ الحكومة الصربية قد أعلنت أنّ ذلك المشروع هو “استثمار ذي أهمية وطنية”.
في مايو/ أيار من العام 2018، اتخذت المفوضية الأوروبية سلسلة تدابير لمكافحة الإغراق واستحدثت تعرفة للإطارات الصينية. وفي العام ذاته، خلال زيارة الرئيس فوتشيتش إلى بكين، وافق على بناء معمل لتصنيع الإطارات في مدينة زرينجانين الصربية، وقد بدأ ذلك المعمل نشاطه بداية العام 2023 لكن بطاقة محدودة.
وبالرغم من أنّ الصين هي أكبر منتج للإطارات على مستوى العالم، لقد أعلن الرئيس الصيني تشي جين بينغ في أكتوبر/ تشرين الأول من العام 2020، أنّ بلاده تسعى لتحقيق “حياد الكربون” بحلول العام 2060. ولا شك في أنّ إحدى السبل الآيلة إلى تحقيق ذلك الهدف تكمن في نقل الإنتاج إلى بلدان أخرى في العالم، مثل الإستثمار في صربيا. وهكذا أصبح مصنع Linglong International Zrenjanin أوّل مصنع أوروبي في صناعة الإطارات الصينية.
كما أنه بالرغم من إشارة المواطنين والناشطين الصربيين على مرّ السنوات إلى تلك المشاكل في تعاملهم مع الصينيين، لم تصبح المخاوف البيئية إلّا منذ فترة ليست ببعيدة ملفاً ساخناً بنظر الاتحاد الأوروبي في عملية توسعة الاتحاد كلها.
وفي الوقت الراهن، تشكل تلك الشكاوى خطراً صغيراً على الرئيس فوتشيتش أو على شركائه الصينيين. إلّا أنّ النار التي ترقد تحت الرماد قد تتأجج، لكنّ الأمر يتوقف على ما إذا كانت الوظائف الموعودة والرخاء سيصبح أمراً واقعاً قبل تفاقم الوضع بسبب عدّة ملفات مثل الملف التلوث. وتحتل صربيا المرتبة التاسعة في العالم في وفيات الأطفال حديثي الولادة، وتُنسب أسباب الوفاة إلى التلوث علماً أنّ مصدر التلوث الرئيسي هو تلوث الهواء.
في الواقع في ظل تلك الصفقات، لقد تراجعت الديمقراطية في صربيا وسط الانتهاكات التي يرتكبها الحزب التقدمي الصربي، والتي وثقتها منظمات غير حكومية على غرار منظمة Freedom House. وفي الحقيقة، يمارس الرئيس فوتشيتش سيطرةً قويةً على وسائل الإعلام بالتزامن مع دخول الشركات التكنولوجية الصينية مثل شركة “هواوي” إلى نظام “المدينة الآمنة”، وهو نظام مراقبة اعتمدته مؤخراً العاصمة بلغراد، وبالتالي يشعر الناشطون بالقلق من أن يسهّل اعتماد صربيا المتزايد على الصين حدوث انتكاسة إضافية للديمقراطية في البلاد.