لو مشيت في شوارع كالينينغراد (Kaliningrad) وتأملت المباني التاريخية والتحف الهندسية الألمانية القديمة، لن تتمكن من أن تفرق بينها وبين برلين. تتلألأ تلك المدينة الروسية المعزولة عن روسيا في قلب أوروبا كجوهرة تاريخية وثقافية. قبل مدّة، خرجت تلك المدينة من مقبرة الصراعات الأوروبية التاريخية ونهضت لبث بذور الشقاق والنزاع، وتحوّلت من مدينة واعدة على المستوى الاقتصادي، إلى لغم روسي نووي خاص بفلاديمير بوتين يهدّد به حلف الناتو، والذي بدوره قد رسم الخطط للرد بالشكل المناسب، لتكون تلك المقاطعة تكملة لمسلسل الرعب الذي عاشه العالم، بعد اندلاع الحرب الأوكرانية وكثرة احتمالات تطورها إلى حرب نووية.
كالينينغراد هي أرض روسية خالصة لكن لا حدود مشتركة لها مَعَ البر الرئيسي لروسيا، وإنّما تبعُدُ عن موسكو 1300 كيلومتر، تبلغُ مساحتها 15 ألف كيلومتر مربع، ويبلغُ عددُ سكانها نحو مليونِ نسمة، وعاصمتها هي مدينة كالينينغراد التي تحمل اسمها، ويعيشُ فيها نحوُ نصف السكّان.
لعقود من الزمن كانت كالينينغراد منطقة مدجّجة بالسلاح ومغلقة أمامَ الأجانب، لكنْ في السنوات الأخيرة أصبحت وُجهةً سياحية ناشئة، لتصبحَ واحدة من أكثرِ المناطقِ الروسية ازدهاراً، يضمُّ ميناؤها أسطول البلطيق الروسي، وهو الميناء الأوروبي الوحيد الخالي من الجليد طوال العام.
كانت تعرف كالينينغراد عند تأسيسها في القرن الثالث عشر باسم كونيغسبرغ (Königsberg)، فيما بعد انضمت إلى رابطة الهانزية، وهي أولُ اتحادٍ تجاري في أوروبا. كانت المنطقة جزءاً من مملكة بروسيا، عاش فيها سكان مختلطون من الناطقين بالبولندية والليتوانية والألمانية.
مع نهاية الحرب العالمية الثانية وهزيمة ألمانيا، تمّ التنازلُ عن المنطقة لصالح روسيا السوفيتية التي غيّرت اسمها إلى كالينينغراد، نسبةً إلى ميخائيل كالينين أحد قادة الثورة البلشفية، واستبدلت السكّان الألمان بالروس. بعد انهيار الاتحاد السوفييتي وتفككه، بقيت كالينينغراد جزءاً من روسيا، وشهدت بعد ذلك وضعاً اقتصادياً مأساوياً، إذ ارتفعت معدلاتُ البطالة، انتشر الفقر على نطاق واسع، كما زادت فيها معدلات الجريمة المنظمة.
وفي محاولة لمعالجة المشاكل الاقتصادية التي ضربت المقاطعة، حاولت موسكو تحويل المنطقة إلى هونج كونج البلطيق، إذ منحتها السلطات الروسية وضعاً اقتصادياً خاصاً مع إعفاء من الرسوم الجمركية واعتماد الضرائب المخفضة، بهدف جذب المستثمرين. وسرعان ما بدأت المنطقة تشهد زيادة في التجارة مع دولِ الاتحاد الأوروبي، وارتفع بذلك النمو الاقتصادي والإنتاج الصناعي.
منذ انضمام ليتوانيا وبولندا إلى الاتحاد الأوروبي العام 2004، أصبح من المستحيل السفر بين كالينينغراد وبقية روسيا برّاً، من دون عبور أراضي دولة واحدة على الأقل من دول الاتحادِ الأوروبي، وقد نشبت خلافاتٌ عدة خصوصاً مع ليتوانيا بشأن لوائحِ عبور البضائع.
تحصل المقاطعة الروسية على معظم غذائها من جيرانها في الاتحاد الأوروبي، لكنها لا تزال تعتمد بشكل كبير على البر الرئيسي لروسيا، في الحصول على سلع أخرى. يتم كلَّ عام نقل ملايين الأطنان من النفط وفحم الكوك والفحم بشكل رئيسي عن طريق السكك الحديدية عبر ليتوانيا، ويمرّ نحو 100 قطارِ عبور روسي عبر ليتوانيا كلَّ شهر.
ورداً على الغزو الروسي لأوكرانيا، أصدر الاتحاد والمجلس الأوروبيان عقوباتٍ ضدّ موسكو، تشمل قطاعات المالية والطاقة والنقل والدفاع. وعندما نفّذت ليتوانيا تلك العقوبات، وأوقفت عبور قطارات الشحن والشاحنات التي تحمل البضائعَ المحظورة، بما في ذلك الفحم والمعادن ومواد البناء والتكنولوجيا المتقدّمة، هدّدَ الكرملين ليتوانيا وأطلقت موسكو جملةً من التحذيرات، واتهمت وزارة الخارجية الروسية ليتوانيا بانتهاك القانون الدولي وسلسلة من الاتفاقيات، بشأن تسهيلِ العبورِ من البر الرئيسي لروسيا، والتي تمّ الاتفاق عليها العام 2004، وتحوّلت القضية أيضاً إلى نقطة خلاف بين المفوضية الأوروبية، لتقوم ليتوانيا بعد شهرٍ واحدٍ برفعِ الحظرِ عندما أوضحَ الاتحادُ الأوروبي أنّ العقوبات تنطبق على الطرقِ لا السكك الحديدية.
تأتي أهمية كالينينغراد من موقعها على الخريطة، يفصلها شريطٌ رفيع عن بيلاروسيا، ويربط الأراضي البولندية وليتوانيا يُعرف باسم ممر أو فجوة سوفالكي، وهو الممر البري الوحيد الذي يربط بين دول البلطيق وبقية دول الاتحاد الأوروبي.
فجوة سوفالكي
أصبحت فجوة سوفالكي (Suwałki) بين ليلة وضحاها واحدة من أخطر الأماكن على وجه الأرض، يبلغ طول الشريط الحدودي ستينَ ميلاً، ويقعُ رسمياً على طول الحدود البولندية الليتوانية. وقد أُطلق عليه مصطلح فجوة سوفالكي، في إشارة إلى فجوة فولدا في حقبة الحرب الباردة، والتي كانت بمثابة أضعف نقطة في الناتو بالقرب من الحدود بين ألمانيا الشرقية والغربية.
تقع ليتوانيا بين بيلاروسيا إلى الشرق، وجيبُ كالينينغراد الروسي المدجج بالسلاح إلى الجنوب. لقد تأثرت دولةُ البلطيق الصغيرة العضو في حلف شمال الأطلسي، بشدّة بالحرب الروسية الأوكرانية. ولأنّ عاصمتها فيلنيوس تقع على بعد خمسين كيلومتراً فقط من بيلاروسيا، عززت السلطاتُ الليتوانية أمنَ الحدودِ معَ بدايةِ الحرب، وسرّعت في إقامةِ سياجٍ حدودي، كان يهدفُ في البداية إلى ردعِ الهجرةِ غيرِ النظامية إلى الاتحاد الأوروبي.
إنّ انضمام السويد المرتقب إلى حلفِ شمال الأطلسي سوف يغيّرُ قواعدَ اللعبة، وسيؤدّي ذلك إلى تحوّل جوهري في البنية الأمنية في منطقة بحر البلطيق، وبعدما كانت كاليننغراد لفترة طويلة المعقل الروسي الرئيسي للسيطرة على بحر البلطيق، ستجد نفسها الآن على ضفاف بحيرة الناتو منهكة، بعد أن تدهورت حاميتُها العسكرية التي كانت هائلة في السابق، معَ اضطرارِ كلِّ الوحداتِ إلى إرسالِ الجزءِ الأكبر من قواتِها إلى أوكرانيا، فهي محاطة بقوات حلف شمالِ الأطلسي التي أصبحت أقوى وأكثر اتحاداً من أيّ وقت مضى، وإذا استمر المعدلُ الحالي للحشد العسكري، فسوف تبرزُ بولندا باعتبارِها القوةَ العسكرية التقليدية الأكثر قوّةً في أوروبا، وسوف تمتلكُ أوكرانيا واحدة من أكثرِ القواتِ مهارةً في القتال على مستوى العالم، وفي حال حدوثِ أيِّ تصعيدٍ للحرب في أوكرانيا يؤدّي إلى تورطِ الناتو بشكل مباشر، فإن كالينينغراد ستكون في قلبِ العاصفة.
منذ أن غزت روسيا أوكرانيا في الرابع والعشرين من فبراير العام 2022، أبدى حلفُ الناتو قلقَهُ من أن تنجر كاليننغراد النووية إلى حربِ الكرملين. العام 2013 نشرت روسيا صواريخَ إسكندر الباليستية قصيرةْ المدى القادرة على حمل رؤوس حربية نووية في المنطقة، كردٍّ على خطط واشنطن لنشرِ نظامِ دفاعٍ صاروخي باليستي في أوروبا. لم تعترف روسيا بامتلاكِها أسلحة نووية متمركزة في كالينينغراد، لكن العام 2018 خلُصَ اتحادُ العلماء الأمريكيين، إلى أن روسيا قامت بشكلٍ كبير بتحديث مخبأ لتخزينِ الأسلحة النووية في المنطقة، وذلك بناءً على تحليلِ صورِ الأقمار الصناعية.
سكوديس: كالينينغراد من أكثر المناطق تسلّحاً في أوروبا
وزير النقل والاتصالات في ليتوانيا ماريوس سكوديس (Marius Skuodis) يقول لـ”أخبار الآن”، إنّ كالينينغراد تلقب أحياناً بقلعة أوروبا، وهي من أكثر البلدان تسلّحاً في أوروبا”. ويضيف: “لا يمكنك تغيير الجغرافيا السياسية الخاصة بك ولا تغيير جيرانك… كنّا نودّ أن تكون هناك علاقات جيّدة، لكن أحياناً لا يكفي أن تكون تلك رغبة بلد واحد، بل يجب أن يرغب جيرانك بذلك الأمر أيضاً”.
ويتابع إنّ “ليتوانيا تلتزم بقرارات الإتحاد الأوروبي في ما يتعلق بالمواصلات، تشريعات الإتحاد الأوروبي، عقوبات الإتحاد الأوروبي وتوضيحات الإتحاد الأوروبي… أوّلاً هناك فقرة تتعلق بعبور المسافرين، عدد كبير من القطارات تنقل المسافرين من روسيا وإلى روسيا كلّ يوم، ربّما نحو 4 قطارات في اليوم، ونحن نؤمّن ذلك العبور وفقاً للاتفاق المبرم بين الإتحاد الأوروبي وروسيا، والذي وُقع العام 2002 قبل أن ننضم إلى الإتحاد الأوروبي”.
ويقول: “هناك اتفاقيات دولية، اتفاقيات بين الإتحاد الأوروبي وروسيا تتعلق بسماح عبور البضائع والأشخاص، في حال تطبيق كلّ الشروط المطلوبة، ولم أرَ أيّ خرق لتلك الشروط، لذا ليس هناك أي داع للتصعيد أو اتخاذ أي تدبير. نحن في ليتوانيا لا نقرر بمفردنا، بل نتشاور دائماً مع شركائنا حول ما يجب القيام به، وشركاؤنا دائماً حاضرون، لذا أنا لا أرى أي مبرر للقيام بهكذا تصرف، وإذا كانت عملية النقل مؤمنة، وإذا نفذت الشركات والبلدان كل الشروط المطلوبة”.
ويختم الوزير الليتواني حديث لـ”أخبار الآن”: “بعد دخول فنلندا إلى حلف الناتو، وبعد دخول السويد قريباً إلى الناتو، سيصبح البحر البلطيقي تحت سيطرة الناتو، ولن يبقى إلّا كالينينغراد خارج الحلف، لذا أعتقد أنّهم سيواجهون بعض المشاكل. نحن ننتمي الى المنظومة الأوروبية الغربية، الناتو، الإتحاد الأوروبي وغيرها.. نحن نستثمر بشكل كبير في تحسين منظومتنا الدفاعية، من ناحية الوزارة، نحن ننفذ مشاريع كبيرة جدّاً لضمان التنقل العسكري، ونحرص على أن تلبي الطرق حاجتين أساسيتين، الاستخدام المدني والإستخدام العسكري”.
ليوبايف: وجود جيران عدوانيين على كلا الجانبين يولّد قلقاً كبيراً
من جهته، يوضح رئيس دائرة حرس الحدود في ليتوانيا رستم ليوبايف (Rustamas Liubajevas) أنّ “كالينينغراد لها وضعها الخاص، فهي مقسّمة وهناك عدة تحدّيات تواجهها روسيا متعلّقة بتقديم الدعم الاستراتيجي لتلك المنطقة. يجب أن أشير إلى أنّ البرلمان قدّم هذه السنة مشروع قرار يتضمن وضع قيود على دخول المواطنين الروس إلى ليتوانيا، وأعتقد أنّ بعض دول الإتحاد الأوروبي حذت حذونا أيضاً، كلاتفيا، إستونيا وبولندا. إذاً هناك قيود صارمة على دخول الروس إلى ليتوانيا، لكن كالينينغراد لناحية الترانزيت لم يتأثر بذلك، فيمكن للمواطنين الروس السفر عبر بيلاروسيا وليتوانيا الى كالينينغراد والعودة، لكن يجب أن يتبعوا إجراءات معينة وأن يأخذوا أوراقاً محدّدة، ونحن نطبق تدابير أمنية على الحدود أيضاً أثناء عبور القطار في أراضينا”.
ويتابع: “طبعاً الوضع الأمني بعد الحرب الأوكرانية تغيّر بشكل كبير، وزادت مخاوفنا بشأن الأمن القومي في المنطقة، بل وربّما في أوروبا كلّها أو في كلّ العالم بسبب تورّط روسيا بشكل مباشر بذلك الصراع العسكري والحرب ضدّ أوكرانيا، والتي تحصل بالقرب منّا، وليتوانيا تدعم أوكرانيا في ذلك الصراع. إذاً مخاوفنا كبيرة مع الأخذ بالاعتبار أنّ بيلاروسيا البلد المجاور لنا من ناحية الشرق، مشاركة أيضاً في ذلك الصراع العسكري، هي تشارك في الحرب ضدّ أوكرانيا”.
ويرى ليوبايف أنّ “وجود جيران عدوانيين على كلا الجانبين يخلق الكثير من القلق، وثمّة الكثير من النقاش حول مدى ضعف منطقتنا من وجهة النظر العسكرية. ونحن لدينا الكثير من المخاوف. هناك الخطط التي وُضعت منذ فترة وأعيد النظر فيها خلال قمّة الناتو الأخيرة هنا في فيلنوس في يوليو، تلك الخطط الجديدة أخذت في الاعتبار ذلك الوضع المستجد، فالوضع الأمني تغيّر في أوروبا”.
ويختم حديثه مع “أخبار الآن” أنّ “منطقة البلطيق، ونظراً لخصائصها الجغرافية الخاصة، معرّضة للخطر لأنّها باتت تشكل البحر الداخلي لدول الناتو باستثناء روسيا، وحالما تنضم السويد ستصبح المنطقة كلّها تابعة للناتو. لذا برأيي ذلك سيشكل تحدّياً كبيراً للروس، وعلينا أن لا ننسى أن نقل الطاقة الكهربائية يعتمد في أغلب الأحيان وحتّى الآن على اتفاقيات النقل المبرمة مع روسيا، ويجب أن أوضح أنّ العقوبات المفروضة من قبل الاتحاد الأوروبي وليتوانيا تستثني حتّى الساعة كالينينغراد والترانزيت”.
أذاً، الآن مع اقتراب السويد من الانضمام إلى التحالف، وتغيير البنية الأمنية لبحر البلطيق، فإنّ مستقبل كاليننغراد المقاطعة الروسية الدخيلة على الاتحاد الأوروبي، يعتمد إلى حد كبير على كيفية انتهاء الحرب في أوكرانيا.