عام على حرب السودان.. والحكايات لا تنتهي
يمرّ قرابة عام على اندلاع شرارة الحرب في السودان، وكعادة الحروب لا تخلّف وراءها فقط أطرافاً مُنهزمة وأخرى منتصرة، بل تسحق معها أحلام البسطاء وتسحق أروح الأبرياء، فلا يبقى وقتها سبيلاً للطمأنينة في كنف الأوطان.
هُنا السودان حيث رائحة الدماء تفوح من كلّ مكان… على جدران بيوت خاوية توجد أُمنيات العودة. هُنا السودان حيث صرخات تعلو هنا وهناك، نسمعها من كلّ حدب وصوب. فهذه أسرة شُرد وقُتل جميع أفرادها، أمّا تلك فسُلبت كلّ ممتلكاتها، وهذه أخرى أُغتصبت نساؤها أمام أعين رجالهن، اُنتهكت أعراضهن وتُركن لمواجهة مصير مجهول بأطفال سِفاح وأزمات نفسية.
“منى” خُيّرت بين تسليم جسدها أو حياة أطفالها
داخل منزل بسيط من الطوب اللبني عاشت منى -اسم مستعار- وهي إبنة مدينة الخرطوم وصاحبة الـ45 عاماً، سنوات هنيئة برفقة زوجها وطفليها (7 أعوام و11عاماً) قبل أن تنقلب حياتها بين ليلة وضحاها وتصبح أسيرة اضطراب نفسي يجعلها حتى تخشى الحديث أو البوح، وذلك إثر تعرّضها للإغتصاب على يد مُسلحين.
20 يوليو 2023 تاريخ لن يُمحى من ذاكرة مُنى، آنذاك فوجئت باقتحام منزلها من قبل 3 أفراد مدججين بالأسلحة، أرغموها على نزع ملابسها وقاموا باغتصابها. تقول منى بعد محاولات تهدئة جعلتها تسرد ما تعرضت له أخيراً: “تعرضنا لهجوم من 3 أفراد مدجّجين بالسلاح، إثنان منهم بقيا معي في المنزل، والثالث بقي مع زوجها في الخارج. في البداية طلبوا منّي إحضار المال والذهب، وتحدثا معي بضغينة شديدة لأنّنا كنّا نعيش في الخرطوم بينما أهلهما عانا من سوء المعاملة في دارفور”.
تضيف: “تمّت مساومتي إمّا تسليم جسدي أو قتل أطفالي، وللأسف تحت تهديد السلاح اغتصبوني، بعدها عشت وضعاً مأساوياً خصوصاً وأنّني كنت أعاني منذ فترة من الإكتئاب، وبعد الحادث زاد الأمر سوءاً. بعد مرور 4 أيّام نجحنا في التحرّك إلى ولاية الجزيرة وتعاملت مع منظمة أطباء بلا حدود بخصوص الحالة، وتمّ إجراء فحوصات فيروسية وكذلك اختبارات حمل، ولكنّني لم اتمكن من التواصل مع طبيب نفسي وقتها بسبب سوء الأوضاع”.
خروج منى من تلك الواقعة من دون حدوث حمل، هو أمر أشبه بطوق النجاة الأخير بالنسبة لها، فالعيش مع طفل ناتج عن عملية اغتصاب أمر ليس بالهين ولن تقوى على تحمله أو التكيف معه، فيكفي النظر لهذا الطفل لتتذكر أقسى لحظات حياتها. وتتابع منى: “أنا الآن أشعر بعدم الآمان، وعدم توازن وكراهية للعالم، لم أعد أملك شيئاً لأخسره، فالحياة أصبحت صعبة للغاية”.
القانون الإنساني الدولي يحمى النساء خلال فترة النزاعات
في أحدث إحصائيات لها، أعلنت منظمة الأمم المتحدة أنّ الحرب التي اندلعت في أبريل الماضي في السودان أدّت لنزوح 7,1 مليون شخص، فيما وصفت المنظمة الأممية تلك الحرب بأكبر أزمة نزوح في العالم، والتي أسفرت عن سقوط أكثر من 12 ألف قتيل حتى ديسمبر الماضي.
وعلى الرغم من أنّ القانون الدولي الإنساني يقرّ بحماية النساء بصفة خاصة ضدّ أيّ اعتداء عليهن، لاسيما ضدّ الاغتصاب والإكراه على البغاء وأي هتك لحرمتهن وفقاً لاتفاقية جنيف 4 مادة 27، البروتوكول 1 المادة 76-1. ولكن للأسف ذلك لا يحدث في حالة نساء السودان، حيث أشارت منظمة العفو الدولية إلى أنّ عشرات النساء والفتيات اللواتي لا تتجاوز أعمار بعضهن 12 عاماً، تعرّضن للعنف الجنسي على أيدي عناصر من الأطراف المتحاربة في السودان، بل وأحتجز بعضهن لعدّة أيّام وفي ظروف من الاستعباد الجنسي.
تصرخ، تبكي، تتألم، تنادي: أنقذوا أختكم، ابنتكم، أمّكم، لكن العويل إنْ لامس المسامع لم يلامس نخوّة المعتصم، فالسلاح مصوّب إلى الرأس والاغتصاب واقع لا محالة، ومَنْ يجرؤ ويقترب ليلعب دور البطل، فرصاصة في الرأس تنهي الأمر. أمّا إنْ حاولت الضحية المقاومة، فما بدأ اغتصاباً سينتهي قتلاَ، ولأنّ القهر للجميع ويمتد للرجال، فيحدث أن يحضر الرجل اغتصاب زوجته، أو الأخ الاعتداء على شقيقته أو حتّى الولد قد يجبرونه على أن يكون شاهداً على الجريمة البشعة ضدّ أمه.. ذلك هو حال كثير من نساء السودان اللواتي بات الاغتصاب ليس إلّا بداية الكابوس لرحلة بحث عمّا تبقى من حياة عبر حبوب إجهاض ومنع حمل ومضادات فيروسات وبكتيريا، أو ربّما عن طريقة ما لإنهاء كلّ ذلك الوجع.
“سما” فَقدت عُذريتها
فمنذ منتصف أبريل العام 2023 والسودان في دوامة صراع مسلّح بين أكبر مكوّنين عسكريين في البلاد، تأتى عنه كثير الجرائم لكن ربّما يبقى أبشعها اغتصاب النساء في عدّة مدن وقرى سودانية، حيث تتوالى التقارير عن تعرّض نساء وفتيات للعنف الجنسي على يد مقاتلين معظمهم من الدعم السريع. وبينما تخشى معظم الضحايا الإبلاغ عن تعرضهن للاغتصاب خوفاً من الانتقام أو الاتسام بالعار والرفض المجتمعي لهن، وربّما لا يختلف حال سما – اسم مستعار- عن نظيرتها منى. هذه الفتاة السودانية التي لم تتجاوز الـ 24 من عمرها. والتي تسرد تفاصيل قصتها لـ”أخبار الآن” قائلة: “أنا واحدة من ضحايا عنف قوّات الدعم السريع، الحادثة حلت ثاني أيّام عيد الأضحى تحديداً في 29 يونيو، جاء مُسلحان تهجّما علينا في البيت وكنت أنا وأمي، ومعي إثنان من بنات عمّتي، دخلا وكان هناك تهديد وعنف لفظي شديد، أحدهما وبعد محادثات طويلة، أخذني أنا وابنة عمتي الأصغر إلى إحدى الغرف، وطلب مني أن أكتب رقم هاتفي على هاتفه فكتبته، بعد ذلك جاء زميل له وقال له خذ أنت واحدة وانا سآخذ الأخرى”.
سما لم تتوقف هنا، بل سردت لحظات الإغتصاب والرعب والفزع الذي عاشته قائلة: “أغلق الغرفة وقال لي ستأتين للعيش معي بالتأكيد. في البداية كان هناك نوع من المقاومة من جانبي لكن للأسف وقع الاعتداء، التفاصيل صعبة جدّاً وأنا حالتي كانت صعبة لم أعرف كيف أتصرف حينها، خصوصاً في ظلّ العنف الذي تعرضت له، حاولت أقاوم وبعدها ضربني على قدمي اليسرى، وقام باغتصابي بينما يضع السلاح على رأسي وفقدت عذريتي”.
بالطبع لم تنتهِ مأساة سما، بل لقد كان الكابوس قد بدأ للتو، تقول:”ظلّ يغتصبني حتى جاء شخص وطرق الباب وأخبره أنّ عليهم المغادرة، وحذروني من الحديث وإلّا سيتم قتلي، وحتّى عندما حاول أحد الجيران التدخل ضربوه على وجهه”. وتضيف: “في اليوم التالي ذهبت للطبيبة في مستشفى الشهيد وتناولت حبوب منع الحمل ومضادات فيروسات وبكتيريا، وبعدها انتقلت لولاية اخرى خارج الخرطوم، الفترة الأولى كنت في حالة صدمة واضطراب، وتواصلت مع أطباء نفسيين وخضعت لجلسات علاجية، واستغرق الأمر وقتاً طويلاً لكي أتمكن من التعامل بشكل طبيعي مع الناس”.
ولأنّ سما ككل نساء السودان رغم فظاعة الجرائم، هن محكومات بالأمل ويعتبرن أنفسهن ناجيات، فيهن الكثير من الإصرار والقوّة، ولسن مجرّد ضحايا مغلوب على أمرهن أمام وحوش الحرب… كانت تلك رسالة سما لكلّ العالم: “الحالة النفسية صعبة للغاية لكن الآن أشعر أنّني أفضل الفترة المقبلة نحن بحاجة لتوعية الناس أكثر بالكوارث التي تحدث للنساء السودانيات الموقف كله مازال عالق فى ذهني ، كلامي ووصفي بسيط جداً مقابل ما حدث وقتها ..
وفي وقت تؤكّد كلّ الناجيات أنّ المحنة تبدأ مع الاغتصاب ولا تنتهي بانتهائه، كان لـ”أخبار الآن” وقفة للاستماع إلى مديرة وحدة مكافحة العنف ضدّ المرأة، سُليمة إسحاق التي أكّدت أنّ ما تحتاجه الناجيات الآن هو الدعم بسبب صعوبة الوضع في السودان. ففي الشهور الماضية، وثّقت وحدة مكافحة العنف ضدّ المرأة، وهي منظمة سودانية مستقلّة للتنسيق بين المؤسسات المحلية والمنظمات الدولية، حول قضايا المرأة والطفل في السودان، عشرات الحالات من النساء ضحايا عمليات الإغتصاب خلال الحرب.
تقول سُليمة لـ “أخبار الآن“: “لا يوجد الإهتمام الإعلامي والتضامن الإقليمي والعالمي اللازم. منذ فترة أطلقت حملة أوقفوا الاغتصاب لتعطي لكنّ الأمر بحاجة للدعم والمناصرة على المستوى الإقليمي والدولي، بالإضافة إلى ضرورة معاقبة المجرمين، لأنّ ما يحدث دائماً هو الإفلات من العقاب، لذلك التضامن يمنح الناجيات حقّهن، فهن بحاجة للمحبة والاحتواء من قبل المجتمع المحيط”.
وإزاء ما تفجع به نساء السودان كلّ يوم جرّاء تلك الحرب، تقول تقارير أممية إنّ فرقها سجلت 105 حالات لعنف جنسي، وبالطبع الحديث هنا عن الحالات الموثقة، وإذا ما نظرنا إلى إحصاءات الوحدة الحكومية، فإنّ الحالات المسجلة لديها حوالي 140 حالة عنف جنسي، لكن هذه الإحصائية لا تمثل أكثر من 2 % من حالات الاغتصاب التي حصلت إذ يوجد الكثير من الحالات غير الموثقة جرّاء صعوبة الإبلاغ في ظلّ انقطاع الاتصال أو تردّي الوضع الأمني نفسه، كما أنّ معظم الحالات قد لا تصل للمرافق الصحية ولا تبلغ جراء الخوف من نظرو المجتمع والنعت بالعار.
وفي السياق تقول مديرة وحدة مكافحة العنف ضدّ المرأة، سليمة إسحاق: “عدد الحالات الموثقة حتى الآن من وحدة مكافحة العنف ضدّ المرأة هي 142 حالة اغلبها في الخرطوم، الناجيات تتمّ مساعدتهن من خلال تقديم الخدمات الصحية المنقذة للحياة، من حيث البروتوكول الخاص بالمعالجة السريرية للإغتصاب، الأدوية المنوط بها منع الأمراض الجنسية ومنع الحمل والفيروسات، لحمايتهن من الأضرار التي يخلّفها العنف الجنسي”.
القصص من أجل المحاسبة
وتضيف: “في ظلّ الحرب حالياً تُقدّم الخدمة النفسية عبر الهاتف، ونحن الآن كوحدة لا نقدّم الخدمة المباشرة في الوقت الراهن لصعوبتها، لكن نحن عبر الشركاء نعزز وجود الخدمات، ودورنا الأساسي الآن هو توثيق الجرائم على أساس أنّها جرائم حرب وتتمّ المحاسبة عليها دولياً وإقليمياً، خصوصاً أنّ العنف الجنسي المرتبط بالنساء هو شكل مختلف من العنف الموجود في أوقات السلم، وتلك واحدة من مهام الوحدة التي تضع التقارير الخاصة بأوضاع النساء لنقل الوضع حالياً في السودان.. وكذلك من أجل المحاسبية لأنّ استخدام العنف الجنسي ضدّ الأبرياء والمدنيين يعتبر جريمة حرب”.
ووفقاً لتقارير سودانية وأخرى أممية، فإنّ الحالات التي تمّ التعرف على الجناة فيها، تبيّن أنّهم من قوات الدعم السريع أو أفراد يرتدون زي تلك القوات، حيث نسبت مفوضية حقوق الإنسان الأممية 70 % من حوادث العنف الجنسي المؤكّدة لمقاتلين يرتدون زي قوات الدعم السريع، وذلك ما تؤكّده الوحدة الحكومية السودانية لمكافحة العنف ضدّ المرأة بعد إعلانها أنّ حالات اقتحام المنازل والاختفاء القسري أو الاسترقاق الجنسي، هي كلّها على حسب ما أوردت الناجيات ارتكبت على أيدي أشخاص يرتدون زي الدعم السريع، حيث تقول سُليمة: “الجرائم كانت في مناطق تقع تحت سيطرة قوات الدعم السريع، يمكن أن تكون هناك انتهاكات أخرى لكن غير مُسجلة لدينا، وبالتأكيد انتشار السلاح له دور كبير فى إضعاف وضع النساء”.
فالنساء هن اللواتي تدفعن الثمن وقت الحروب والصراعات، والمشكلة التي تواجهنا أنّ ليس كلّ النساء يأخذن البروتوكول العلاجي كاملاً المتعلّق بأدوية مكافحة الأمراض والفيروسات. ففي الحالات التي حصل فيها حمل، النساء أحيانأً لم يستطعن الحصول أو الوصول إلى الخدمات خوفاً من الحديث و نظرة المجتمع، وأمام وحوش الحرب مغتصبي النساء في السودان، يبدو أنّه ليس أمام السودانيات إلّا أن يقاومن ويروين قصصهن إلى العالم لنيل حقوقهن ومعاقبة المجرمين لعدم تكرر المأساة في المستقبل.