بدلا من أوروبا..رحلة المهاجر إسماعيل تنتهي في تونس

مرّت سبع سنوات منذ أن غادر اسماعيل (اسم مستعار) موطنه في غينيا كوناكري، بالكاد حينها تجاوز العشرين عامًا. ما إن كان يستلقي على السرير للنوم في تلك الأيام حتى يبدأ في تخيل نفسه واقفا على مسرح في باريس يغني لآلاف الناس. قيل له إن الطريق إلى هناك لن يتعدى بضعة أسابيع وأن عليه المضي بقليل من الصبر وكثير من العزم.

ولكن كل ذلك كان أضغاث أحلام فما إن غادر غينيا حتى تقاذفه المهربون ولذعت شمس الصحراء الكبرى بشرته لينتهي به المطاف مطاردا من العصابات الليبية وواقفا على شواطئ المتوسط كل يوم لا يعرف هل يفصله ركوبه عن الموت أم تحقيق الحلم.

بعد سبع سنوات تقريبا من خروج اسماعيل من غينيا كوناكري التقاه مراسل أخبار الآن في المنزل الذي يسكنه في مدينة جرجيس سرّا بسبب أن هناك 16 مؤجرا محليّا يواجهون بالفعل أحكاما سجنية بسبب إيواء مهاجرين من إفريقيا جنوب الصحراء في ظل إعلان الحكومة التونسية منذ فبراير 2023 مكافحة ما اعتبرته “مخطّطا لتوطين أفارقة جنوب الصحراء” في تونس. وهو ما تسبب في تصاعد التضييقات ضدهم في الفضاء العام.

يسترجع اسماعيل بكثير من الحسرة اليوم الذي قرر فيه الخروج نحو أوروبا فيقول لأخبار الآن: “لم تكن الحرب ولا ضيق ذات اليد ما دفعاني للخروج من بلدي واتخاذ طريق المغامرة المحفوف بالمخاطر، بل مشيت خلف حلمي في أن أصبح مغنيا، حيث ظننت أن نجاحي رهين بمغادرة غينيا”

تحديدا في عام 2016 وبينما كان اسماعيل ينتقل من السنة التاسعة إلى السنة العاشرة بنظام التعليم المحلي في غينيا كوناكري، اتخذ قرارًا فاصلا في حياته. قرر أنه لا يريد إكمال دراسته، بل يعقد العزم على الهجرة إلى أوروبا. وبما أنه لم يكن مؤهلًا للحصول على فيزا شنغن بسبب المعايير الصارمة التي يضعها الاتحاد الأوروبي على سكان الدول ذات الدخل المنخفض، اختار الطريق الذي سلكه الآلاف من سكان القارة السمراء: الهجرة غير النظامية.

 

من هناك بدأ الجحيم: الرحلة الكاملة لمهاجر من غينيا كوناكري إلى تونس

تعرف اسماعيل عن طريق أصدقائه إلى أناس في شبكة لتهريب المهاجرين عبر الصحراء انطلاقا من النيجر. مع هؤلاء عقد اتفاقا لييلتقي بهم في أغاديز النيجيرية، ومن هناك سيسهلون عملية عبوره إلى ليبيا، حيث كان يخطط لركوب قارب نحو شواطئ إيطاليا. قُدمت له هذه الرحلة وكأنها مسار سهل، لكن الحقيقة كانت مختلفة تمامًا. حيث فهم لاحقا جرّاء ما عاشه من أهوال أنه قد تحول إلى مجرد بضاعة في يد المهربين، الذين لا يعنيهم شيء عدى المال، وأن كل الوعود التي تقدم قبل دفع المال ما تلبث أن تتلاشى.

من الركض وراء الحلم إلى الهروب من شبح الموت..

لم يكن اسماعيل يدرك أنه يسلك أخطر طرق تهريب المهاجرين في العالم. وهذا بشهادة المتحدث باسم المفوضية السامية لشؤون اللاجئين التابعة للأمم المتحدة وليام سبيندلر (William Spindler) الذي صرح في مؤتمر صحفي في 2016: “إن احتمال الموت على الطريق بين ليبيا وإيطاليا أعلى من احتمال الموت على الطرق الأخرى، وينجح في الوصول في المجمل شخص واحد فقط بين كل 47 شخص يحاولون الوصول إلى أوروبا”.

سبيلندر صرّح أيضا حينها إن 2016 “كان أسوأ ما شهده البحر المتوسط على الإطلاق، فاحتمال الموت قد ارتفع من واحد من بين 269 واصلاً في العام 2015 إلى واحد من بين 88 واصلاً في عام 2016”. كما وثق مشروع المهاجرين المفقودين التابع للمنظمة الدولية للهجرة حالات وفاة  149 شخصا واختفاء أكثر من 5600 آخرين عبر الصحراء الكبرى  بين عامي 2014 و 2022.

من هناك بدأ الجحيم: الرحلة الكاملة لمهاجر من غينيا كوناكري إلى تونس

مجموعة من الرجال المهاجرين، معظمهم من النيجر ونيجيريا، يأخذون قسطًا من الراحة في 22 يناير 2019 قبل مواصلة رحلتهم عبر الصحراء الجوية، شمال النيجر، باتجاه مركز جاترون الحدودي الليبي، المصدر أ.ف.ب.

لم يكن يعلم اسماعيل أن رحلة سبع سنوات من الجحيم ستبدأ في سبها فما كان يعتقد أنه مأوى قبل التوجه إلى الساحل لركوب القارب كان سجنا خاصا في يد ميليشيات ليبية مسلحة. كانت الظروف صعبة جدًا؛ إذ تعرض ورفاقه للضرب وعاش على الخبز والماء فقط. وكان عليهم الدفع مقابل هذه الظروف القاسية للبقاء على قيد الحياة حيث كان يعيش حالة من الرعب وهو يرى جثثا يتم إخراجها من السجن لتدفن في الصحراء.

بعد بضعة أسابيع في السجن، اضطر فيها اسماعيل لشرب مياه مالحة ونبش القمامة للحصول على الطعام، نجح في الهروب. ولكنه وجد نفسه متسولًا في الشوارع، لا يعرف إلى أين يتجه أو ما الذي يجب عليه فعله للنجاة، بالإضافة إلى ذلك، كان عليه مواجهة تهديدات أخرى خطيرة،  فقد تعين عليه في مرات كثيرة تجنب رصاص الميليشيات المسلحة التي كانت تطارد المهاجرين من ذوي البشرة السمراء.

للمرة الأولى منذ أسابيع يبتسم الحظ في وجه إسماعيل أين يلتقي صدفة في أحد طرقات سبها بعليّ أحد جيرانه القدامى في كوناكري. شيئا فشيئا يساعده علي في الحصول على عمل ليبدأ من هناك رحلة تعلم وظيفة جديدة. ولكن ذلك لم يثنيه عن حلمه في  عبور المتوسط، فما إن يجد الفرصة حتى يقدم كل الأموال التي جمعها إلى مهرب.

كانت تلك المرة الأولى التي يغادر فيها اسماعيل سبها منذ قدومه قبل سنتين. يأخذه المهرب مع مجموعة أخرى إلى مدينة زوارة الساحلية حيث يركب قارباكان يفترض أن يوصله إلى الشواطئ الإيطالية. لكنها رحلة بائت بالفشل حيث تعطل محرك المركب بعد لحظات من المغادرة ليجد نفسه مجددا على الشاطئ في اليوم التالي هاربا من شرطة السواحل الليبية  لتي تمكن من إعتقال كثيرين غيره.

من هناك بدأ الجحيم: الرحلة الكاملة لمهاجر من غينيا كوناكري إلى تونس

اسماعيل في مدينة جرجيس التونسية، مايو 2024، تصوير نور الدين القنطري

بعد هذه المحاولة الفاشلة يفقد اسماعيل المال الذي جمعه لأشهر ويعود جارا ساقيه إلى مدينة زوارة باحثا عن عمل وعازما على المحاولة مرة أخرى ولكنه لم يلبث هناك مدة طويلة قبل أن يمتثل لنصيحة أحد الرفاق ويقرر التوجه إلى تونس ظنا من أن الإبحار من هناك سيكون أسهل من ليبيا وأكثر آمانا.

حلقة مفرغة من المحاولات البائسة..

دفع اسماعيل مجددا لمهرب ليبي لينقله إلى الحدود التونسية برفقة مجموعة أخرى. كان دور المهرب يقف عند الحدود الصحراوية لـليبيا مع تونس حيث تعين عليهما مواصلة الطريق مشيا. عند الحدود التقطتهم دورية للجيش التونسي وتولت نقلهم لمدينة مدنين، حيث تم تسجيلهم وتزويدهم بالمأوى والطعام برعاية من الهلال الأحمر التونسي.

ولأن اسماعيل كان يتشبث بمواصلة الرحلة نحو أوروبا فإنه لم يلبث هناك سوى أسبوع قبل أن ينطلق إلى مدينة جربة. هناك عمل في حظائر بناء النُزل ليجمع ثمن الهجرة السرية نحو أوروبا. ولكنه فشل كالعادة في الرحلة الأولى والثانية وبات يخاف البحر أكثر فأكثر بعد أن رأى حجم الناس وتواتر غرق المراكب.

يرافقه إلى هذه اللحظة رهاب البحر بعد أن عرف أن أحد المراكب الذي كان سيستقله ذات شتاء 2023  قد غرق موديا بحياة 3 أشخاص. ولكنه رغم شبح الموت الذي لم يفارقه طيلة السنوات السبع الماضية لا يزال اسماعيل يجمع فتات المال الذي يتلقاه من عمله في طلاء المنازل في جرجيس استعدادا للمحاولة من جديد وتشبثا بحلم تحويل مسودات أغانيه التي يحملها معه منذ أن كان في ليبيا أملا في أن تصل يوما ما إلى الجماهير.

 

من هناك بدأ الجحيم: الرحلة الكاملة لمهاجر من غينيا كوناكري إلى تونس

مهاجرون من أفريقيا جنوب الصحراء في قارب متجه نحو إيطاليا، تم العثور عليهم قبالة سواحل صفاقس، تونس، 4 أكتوبر 2022. (أ.ف.ب تصوير فتحي بلعيد)

الحلم يبتعد أكثر فأكثر..

بات الخروج من تونس اليوم نحو أوروبا أصعب من أي وقت مضى بعد تشديد السلطات التونسية حراسة حدودها البحرية في العامين الماضيين بإيعاز ودعم من دول الاتحاد الأوروبي وفي مقدمتهم إيطاليا التي أمضت معها خلال العام الجاري ثلاثة اتفاقيات لم يتم الكشف عن كافة تفاصيلها.

من نتائج هذا التعاون في كبح الهجرة غير النظامية، نشرت المنظمة البحرية الدولية في 19 يونيو 2024 خريطة توضح توسيع منطقة البحث والإنقاذ التونسية لإيقاف حركة الهجرة عند الجانب التونسي ومنعها من بلوغ حدود إيطاليا. يتيح هذا الإجراء للبحرية التونسية رقعة جغرافية بحرية ضخمة تغطي مسارات مراكب الهجرة المنطلقة من غرب ليبيا إلى أقصى شمال تونس ولكن دون امتيازات اقتصادية. كما ستعطي لها سلطة القيام بعمليات اعتراض وإعادة المهاجرين على كامل طول هذه المساحة وستكون كل سفينة تقوم بعمليات انقاذ في هذه المنطقة الاستجابة لتعليمات السلطات التونسية.

وقد اعتبرت وسائل إعلام إيطالية أن هذا الإجراء هو نجاح إيطالي، إذ نشرت صحيفة “لا ريبوبليكا” الإيطالية، مقالا تحت عنوان “ولادة منطقة البحث والإنقاذ التونسية.. انتصار جيورجيا ميلوني الجديد على المهاجرين” فيما خلصت في نهاية المقال  إلى أنّ ذلك “يعدّ انتصارًا آخر لجورجيا ميلوني بهدف قطع الطريق أمام المهاجرين الذين يحاولون الوصول إلى لامبيدوزا من سواحل شمال إفريقيا”، مثلما جاء في نص المقال.