تعيش سوريا منذ 2011 تحت وطأة حرب أهلية هي الأعنف في المنطقة، حيث تقبع بين فكي الجماعات الارهابية المتطرفة على غرار داعش والميليشيات المدعومة من قوى أجنبية أهمها إيران. ولكن السوريين وحدهم من يدفعون تكلفة هذا الصراع الذي يمسّ كافة مناحي الحياة على غرار التعليم.  فمع استمرار الحرب وتدهور الوضع الاقتصادي، يضطر اليوم ملايين الأطفال إلى ترك المدارس والانخراط في سوق العمل، لتأمين قوتهم وقوت أسرهم. في هذا السياق، نستعرض قصتين من الواقع المؤلم لعمالة الأطفال في سوريا، مثل غاندي ومريم اللذان قذفتهما الأوضاع المعيشية الصعبة إلى العمل في الشوارع فقط لسد رمقهمها.

أزمة التسرب المدرسي

وفقًا لمنظمة الأمم المتحدة للطفولة (اليونيسف)، فإن أكثر من 2.4 مليون طفل سوري هم خارج النظام التعليمي، إما بسبب انقطاعهم عن الدراسة أو لأنهم لم يلتحقوا بالمدارس أبدًا. وتشير التقارير إلى أن النزاع الدائر منذ عام 2011 دمّر آلاف المدارس، وأصبحت العديد من المنشآت التعليمية غير آمنة للاستخدام. وبحسب التقرير، فإن معظم الأطفال المنقطعين عن التعليم هم من العائلات النازحة داخليًا أو اللاجئة، الذين يجدون صعوبة كبيرة في استئناف الدراسة وسط الظروف المعيشية القاسية.

في السابق، كان معدل الإلمام بالقراءة والكتابة في سوريا يتجاوز 90% بين الرجال والنساء، وكان التحاق الأطفال بالمدارس الابتدائية قريبًا  عند 97% بين الفتيان والفتيات على حد سواء. لكن، بعد عامين فقط من اندلاع النزاع في 2013، بدأت معدلات الالتحاق بالمدارس الابتدائية والثانوية في الانخفاض بشكل كبير مقارنةً بمعدلات عام 2005، واستمر هذا التدهور منذ ذلك الوقت، مما يشكل تهديدًا خطيرًا للمجتمع والأسرة السورية.

غاندي ومريم: طفولة سوريا المسلوبة والتعليم الضائع تحت نيران الحرب وعبء الإعالة

وفي ظل تواصل الوضع الاقتصادي والاجتماعي الصعب، باتت العودة إلى المدرسة حلمًا بعيد المنال لمعظم الأطفال السوريين. إذ إن كل يوم يمر دون أن يكون هؤلاء الأطفال على مقاعد الدراسة يضاعف من فرصة فقدانهم لمهارات التعليم الأساسية، مما يزيد من احتمالية انخراطهم في سوق العمل في سن مبكرة، ليصبح التعليم بالنسبة لهم رفاهية من الصعب تحقيقها.

 غاندي، الطفل الذي يحمل عبء العائلة

في شوارع دمشق، التقت أخبار الآن بغاندي، طفل يبلغ من العمر عشر سنوات، يحمل في يديه باقات من الورود الصغيرة ويجوب الشوارع لبيعها. غاندي هو واحد من آلاف الأطفال الذين تركوا مقاعد الدراسة في سوريا. يقول غاندي: “كنت أذهب إلى المدرسة وأحلم بأن أصبح أستاذًا أو طبيبًا، لكنني الآن أعمل لمساعدة عائلتي.”.

غاندي أثناء بيعه الورد في شوارع دمشق

غاندي أثناء بيعه الورد في شوارع دمشق، أكتوبر 2024.

غاندي ينتمي لعائلة فلسطينية سورية نزحت من صفد وتعيش اليوم في حي جرمانا بريف دمشق، حيث يساعد في إعالة أسرته المكونة من سبعة أفراد من خلال بيعه للورود. يعمل غاندي أكثر من 12 ساعة يوميًا، وغالبًا ما يكسب دولارين فقط في اليوم. ويقول: “أخرج صباحًا وأعود ليلًا بعد أن أبيع الورود، وأحيانًا يتعرض لي بعض الأطفال في الشوارع فيضربونني ويحاولون أخذ ما جمعته.”

والد غاندي كان يعمل في البناء ولكنه أصيب بكسر في ساقه جعله عاجزًا عن العمل، ما دفع غاندي لتحمل هذا العبء في سن مبكرة. يقول والده لأخبار الآن: “أصبحت غير قادر على العمل، وغالبًا ما نعتمد على ما يجمعه غاندي، رغم صغر سنه.”
ويضيف: على الأقل هو الآن يعمل في بيع الورود، ما يعتبر عملا نظيفا إلى حد ما، ولكنه يؤلمني أن أرى ابني في هذه السن مضطرا للعمل عوض أن يكون في المدرسة.”

مريم، طفلة تسترزق من حاويات القمامة

مريم، طفلة سورية لم تتجاوز العشر سنوات، تعتبر مثالاً آخر عن الأطفال الذين أجبرتهم الظروف القاسية على العمل بدلًا من الدراسة. نزحت مريم من دير الزور إلى دمشق مع أسرتها هربًا من النزاعات المسلحة الدائرة بين العشائر وفصائل أخرى في قريتها. تعيش مريم الآن في منزل مهجور بمنطقة السيدة زينب في ريف دمشق، لم تطأ قدمها المدرسة يوما بل تعمل هي وأمها وأختها في جمع القمامة وفرزها وبيعها وحتى الأكل منها.

مريم أثناء عملها بشوارع دمشق، أكتوبر 2024.

مريم أثناء عملها بشوارع دمشق، أكتوبر 2024.

ففي نهاية عام 2022 أصدر مجلس الأمن الدولي تقريراً حول الاحتياجات الإنسانية في سوريا، مؤكداً أن 14.6 مليون شخص كانوا بحاجة إلى مساعدات إنسانية عام 2022، مع توقعات بارتفاع هذا العدد إلى 15.3 مليون شخص في عام 2023.  في الواقع لا تزال  سوريا  إلى اليوم واحدة من أكثر حالات الطوارئ الإنسانية تعقيداً في العالم، حيث تضم أكبر عدد من النازحين، وتُعتبر مصدرًا لإحدى أكبر أزمات اللجوء على الصعيد الدولي، خاصة بعد شن اسرائيل هجوما شاملا على لبنان.

تقول مريم: “نعمل طوال اليوم لجمع البلاستيك والحديد والزجاج، ثم نبيعها لتأمين قوت يومنا. أحيانًا نجد طعامًا مرميًا في الشارع ونتناوله عندما نجوع.” لم تلتحق مريم  بالمدرسة، لأن عائلتها لم تقم بتسجيلها في سجلات النفوس، مما حرمها من الحصول على شهادة ميلاد وبالتالي حقوقها الأساسية.

تعتبر مريم أن عملها في الشارع صعب ومهين، وتقول: “أتعرض للنظرة الدونية من الناس الذين يصفونني بـ’الزبّالة’. أحلم بأن أعود إلى دير الزور والتحق بالمدرسة مثل باقي الأطفال.”

واقع مُرّ وأرقام مقلقة

في السنوات الأخيرة، ازدادت عمالة الأطفال بشكل ملحوظ في داخل سوريا،  أو حتى في البلدان المجاورة التي لجؤوا إليها نتيجة تدهور الوضع الاقتصادي وفقدان العائلات لمصادر دخل ثابتة بسب الحرب خاصة. وفق دراسة صدرت سنة 2021 بلّغ العديد من الأطفال السوريين اللاجئين في لبنان عن إصابات تتعلق بعملهم، حيث أشار 31.4% منهم إلى أنهم أصيبوا، غالبًا بسبب ساعات العمل الطويلة والممارسات غير الآمنة،. إذ أن عملهم في الشوارع أو في ورش تفتقر إلى أدنى معايير السلامة،  يعرضهم لأضرار جسدية ونفسية خطيرة. وكثيرًا ما يتعرض هؤلاء الأطفال لسوء المعاملة، سواء من أرباب العمل أو من المجتمع.

تقول حنين أحمد ناشطة مدنية ومديرة البرامج في حركة البناء الوطني في حديثها لأخبار الآن: لاحظنا خلال السنوات الماضية ظهور الأطفال كفئة أكثر هشاشة خلال سنوات الحرب. في البداية كنا نركز في البرامج التنموية على النساء أو الشباب، ولكن في كل الجلسات التي عقدناها كانت تظهر فئة الأطفال، خاصة المتسربين من المدارس والذين يتعرضون للعمل. هذه الفئة هشّة وتحتاج إلى الدعم في كل هذه الجلسات.”

وتضيف حنين أحمد: “الحديث عن الواقع والأرقام دائماً ما يكون صعباً في سوريا. الحقيقة أن الدولة السورية أو الحكومة دائماً ما تبخل بتقديم المعلومات الدقيقة أو الإحصائيات. لهذا نلجأ دائماً إلى الإحصائيات الصادرة عن المنظمات. في آخر إحصائية من اليونيسف لعام 2024 قالت أن هناك 2 مليون و400 ألف طفل متسربين من المدارس.”

جهود محدودة لمساعدة الأطفال

وفي ظل هذا الواقع، تسعى بعض الجمعيات والمنظمات لتقديم الدعم للأطفال العاملين وأسرهم، بهدف تخفيف العبء عنهم ومساعدتهم على العودة إلى التعليم. تعمل جمعية  عين سيار مثلا في دمشق منذ عام 2014  على تقديم المساعدة للأطفال المتضررين من الحرب. تقول ريم حسن، منسقة برامج الجمعية: “نحاول تقديم برامج تعليمية واجتماعية تستهدف الأطفال العاملين في الشوارع، ونأمل أن نقدم لهم الفرصة لاستكمال تعليمهم.”.

وتشير ريم إلى أن الجمعيات تواجه تحديات كبيرة في توفير التمويل اللازم لتغطية احتياجات الأطفال، لكنها تؤكد أن التعاون بين الجمعيات والمنظمات الدولية يمكن أن يساهم في تحسين حياة الأطفال.

التحديات القانونية: ضعف تطبيق قوانين حماية الطفل

من الناحية القانونية، ينص التشريع السوري على حماية الأطفال من العمل القسري، حيث يُمنع تشغيل الأطفال دون سن الخامسة عشرة إلا وفق شروط خاصة وبإشراف رقابي صارم. لكن المحامية هبة الشيبة خبيرة قانونية ومنسقة مراكز في دمشق، تؤكد أن الظروف الاقتصادية جعلت من الصعب تطبيق هذه القوانين بفعالية. وتضيف الشيبة: “للأسف، مع استمرار النزاع وتدهور الاقتصاد، باتت القوانين عاجزة عن توفير الحماية للأطفال العاملين، وأصبح الدافع الاقتصادي أقوى من الدافع القانوني.”

وترى الشيبة أن انتشار الفقر يدفع بالعائلات للاعتماد على دخل الأطفال لتغطية احتياجاتها الأساسية، مشيرة إلى أن الأطفال هم الحلقة الأضعف في هذا النزاع.

 العواقب المستقبلية لتسرب الأطفال من المدارس

تؤدي عمالة الأطفال والتسرب المدرسي إلى تأثيرات سلبية عميقة على الأطفال تتجاوز امتناعهم عن التعليم تؤثر على نفسياتهم وبناء شخصياتهم.. فرغم صغر سن غاندي مثلا ومريم إلا أننا نلاحظ إلى أي حد هم يشعران بمسؤولية كبيرة على عاتقهما في أن يوفرا لعائلتيهما عشاء كل يوم.

هذه المسؤولية لا يمكن أن تكون صحية على أطفال لم يتجاوزوا العشرة سنوات وهم يتعرضون يوميا إلى الإرهاق الجسدي علاوة على قسوة الشارع. كما أن الأطفال الذين ينخرطون في سوق العمل في سن مبكرة يفتقرون إلى المهارات الأساسية التي تؤهلهم لدخول سوق العمل في المستقبل بشكل مستدام، مما يزيد من نسبة الفقر ويجعلهم أكثر عرضة للاستغلال.  هذا علاوة على أن افتقاد هؤلاء الأطفال لفرص التعليم يسهم في ارتفاع نسبة الأمية ويهدد بتحولهم إلى أفراد يعانون من التهميش الاجتماعي والنفسي.

تظل قضية عمالة الأطفال والتسرب المدرسي في سوريا من أبرز التحديات التي تواجه المجتمع السوري في خضم الأزمة الحالية. ففيما يشعل الكبار الحروب و يخوضونها بكبرياء يدفع الصغار الثمن غاليا فيشيخون وهم براعم. في مناطق الصراع مثل سورية يتحول هؤلاء الأطفال من طاقة البلد وقدراته الواعدة إلى رماد تذروه رياح البؤس والفقر. ملايين الأطفال السوريين اليوم مثل غاندي ومريم يحتاجون إلى انتشالهم من الشوارع والحاقهم بمقاعد الدراسة حيث يستطيعون تغيير مصيرهم ومصير بلد بأكمله تنهشه الصراعات والفقر.