وسط صخب الحرب، يواصل علي الزين العزف على أوتار الأمل، ليحول المعاناة إلى حياة عبر الموسيقى
في قلب الصراعات والنزاعات التي عصفت بالسودان، حيث دُمرت الحياة العادية وتهدمت العديد من الآمال، كان هناك من يسعى لإنقاذ ما تبقى من ثقافة وفن. الموسيقار السوداني علي الزين هو أحد هؤلاء الذين لم يقفوا مكتوفي الأيدي أمام الحرب، بل حملت ألحانه رسالة أمل، وأسس مركزًا ثقافيًا لم يكن مجرد مكان لتعليم الموسيقى والفنون، بل كان واحة للسلام والتعايش وسط المآسي.
“السلام، هذا الاسم الذي اختاره الله ضمن أسمائه الحسنى، هو رسالتي التي أعيش من أجلها”. بهذه الكلمات بدأ الموسيقار السوداني علي الزين حديثه لــ“اخبار الآن”، ذاكراً تفاصيل رحلته من وطنه السودان، حيث أسس مركزًا ثقافيًا كان شعلة أمل وسط تحديات القمع، إلى القاهرة، حيث أعاد بناء الحلم ليصبح مركزًا للتعافي والالتقاء عبر الموسيقى.
قصة مركز علي الزين: من السودان إلى القاهرة
بدأت رحلة مركز علي الزين للثقافة والفنون في السودان عام 1997، في ظل نظام سياسي لم يكن يشجع على التعبير الفني. ورغم الضغوط والإغلاقات المتكررة التي واجهها المركز بسبب نصوص ثقافية ورؤى مختلفة، كان المركز نافذة أمل للشباب السوداني، يقدم لهم مساحات للتعلم والإبداع في مجالات الموسيقى، الدراما، والفنون التشكيلية.
“كنت أعلم أننا نزرع بذور الإبداع في شباب يحملون أرواحًا تبحث عن الحرية”، يقول علي الزين. لكنه لم يكن يتخيل يومًا أن الحرب ستجبره على ترك بلده وأحلامه، ليبدأ رحلة جديدة في القاهرة.
المركز في القاهرة: منصة للتعافي والدمج
بعد اندلاع الحرب في السودان، وجد علي الزين نفسه بين ملايين اللاجئين السودانيين في مصر. لكنه لم يسمح للحرب أن تخنق رسالته. “عندما وصلت القاهرة، أدركت أن المهمة لم تعد فقط تعليم الموسيقى، بل المساهمة في علاج الجروح النفسية والاجتماعية التي سببتها الحرب”، يضيف الزين لـ“أخبار الآن” .
في القاهرة، أنشأ علي الزين مركزًا يضم استوديو، قاعات تدريب، ومكتبة. “ليس هذا جهدي وحدي”، يقول الزين بتواضع. “كل من مروا عبر بوابة مركزنا في السودان أو دعمونا هنا في مصر ساهموا في بناء هذا الحلم”.
من الأنشطة الأسبوعية التي يقدمها المركز برنامج “ضربة حرة”، الذي يهدف إلى خلق مساحة للتضامن الاجتماعي والنفسي بين السودانيين في القاهرة. “مجرد أن يلتقي الناس ويتحدثوا، ينشأ نوع من الأمان الداخلي”، يشرح علي. بالإضافة إلى ذلك، يقدم المركز دروسًا موسيقية ولغات أجنبية مثل الفرنسية والإنجليزية، مما يساعد اللاجئين على كسر طوق الفراغ الأكاديمي الذي يعيشه كثير من الشباب السودانيين.
الموسيقى كأداة للسلام والتعايش
يعتبر علي الزين الموسيقى أداة سامية لتوحيد الأرواح ونشر السلام. “الموسيقى لغة عالمية تدعو إلى السلام، وهي أرقى أنواع الفنون التي تسمو بالنفس البشرية”، يقول علي. ويضيف: “ربما الحرب تسرق منا الكثير، لكنها لا تستطيع أن تأخذ الموسيقى، لأنها جزء من أرواحنا”.
رسالة أمل وسلام
في ختام حديثه، وجه علي الزين رسالة لكل من يعيش تبعات الحرب، قائلًا: “الحرب دمار لا يخدم سوى الشيطان. لكننا، من خلال الموسيقى والفن، يمكننا أن نحافظ على إنسانيتنا. رسالتي هي أن نختار السلام، لأنه اسم الله الأعظم، وأن نعيد بناء أوطاننا بالحب والإبداع”.هذه القصة ليست فقط عن رجل تحدى الحرب، بل عن قوة الفن في شفاء الجراح وبناء الجسور بين الثقافات.
حقائق صادمة
وفي ظل الحرب المستعرة في السودان، والتي دخلت شهرها الثامن عشر، كشفت دراسة أجرتها أربع جامعات أميركية عن حجم مأساوي للخسائر البشرية، حيث قُدّر عدد السودانيين الذين فقدوا حياتهم بشكل مباشر أو غير مباشر بنحو 130 ألف شخص. هذه الأرقام لا تمثل فقط إحصاءً صادمًا، بل تعكس أيضًا مأساة إنسانية غائبة عن عدسات الإعلام.
“ما يحدث في السودان هو أحد أكثر الصراعات دموية في العالم، لكنه الأقل تغطية إعلامية، مما يساهم في تفاقم الكارثة الإنسانية”، هكذا وصف الباحثون الوضع المأساوي.
اعتمدت الدراسة، التي أجراها مختصون في الطب والصحة العامة من جامعات نبراسكا وكاليفورنيا ولوفين وأوريغون، على بيانات نقابة أطباء السودان ومنظمات دولية. وأشارت التقديرات إلى مقتل نحو 19 ألف شخص مباشرة جراء القتال، بالإضافة إلى وفاة نحو 111 ألفًا بسبب تداعيات الحرب، من نقص الغذاء والرعاية الصحية وانتشار الأمراض.
مع اشتداد المعارك، وامتدادها إلى 70% من البلاد، تتزايد أعداد الضحايا بشكل يومي. القصف الجوي والمواجهات العسكرية لم يترك زاوية آمنة، بينما تفشت الأمراض المعدية، مثل الكوليرا، لتفاقم المعاناة.
وفي المتوسط، يسجل السودان أكثر من 1200 وفاة شهرية بسبب الصراع، وفقًا لمنظمة “أسليد” غير الربحية. هذا الرقم، الذي يمثل 21600 وفاة مباشرة خلال 18 شهرًا، يعكس تقديرات متطابقة مع بيانات نقابة الأطباء ومنظمات أممية أخرى.
ولكن خلف هذه الأرقام، يقبع الألم الصامت لعائلات فقدت أحبّتها، وأجيال تحاول النجاة في بلد يكافح بين الحياة والموت، في انتظار يوم تنطفئ فيه نيران الحرب.