مع سقوط نظام الأسد، تكشّف أحد أكثر أسرار إيران غموضًا: استثماراتها الضخمة في سوريا التي بلغت أكثر من 50 مليار دولار. تفاصيل مفاجئة حول الديون والمشاريع النفطية غير المكتملة. كيف ضاعت مليارات الدولارات الإيرانية؟ وما الذي تكشفه الوثائق عن مصير نفط سوريا بعد انهيار الأسد؟ في هذه المقال، نستعرض أكبر فضائح النفط الإيراني في سوريا وحقائق كانت مخفية وراء الستار.
في يوم الأربعاء، 11 ديسمبر، رد علي خامنئي، المرشد الإيراني، في خطاب لم يُبث مباشرة على عكس المرات السابقة، على سقوط بشار الأسد، وقال إن نطاق جبهة المقاومة سيتوسع ليشمل جميع أنحاء المنطقة أكثر من أي وقت مضى.
لكن أهم جزء في تصريحاته كان عندما قال إنه إذا تحدث شخص ما داخل البلاد عن فشل سياسة طهران في سوريا، فإنه ارتكب جريمة ويجب أن يتعرض للملاحقة القضائية. بعد ساعة، أصدرت النيابة العامة تحذيرًا مشابهًا، وبعد ساعة أخرى، أعلن القضاء عن ملاحقة قضائية ضد نائبين سابقين في البرلمان وعدد من الصحفيين.
كان هؤلاء الأشخاص هم الذين انتقدوا إنفاق الحكومة الإيرانيّة عدة مليارات في سوريا. أبرزهم حشمت الله فلاحت بيشه Heshmatollah Falahatpisheh، رئيس لجنة الأمن القومي والسياسة الخارجية في البرلمان الإيراني السابق، الذي كشف سابقًا أن طهران أنفقت 30 مليار دولار في سوريا، لكن حكومة الأسد لم تقم بسداد هذا الدين.
وفي وقت سقوط الأسد، نشر “فلاحت بيشه” منشورًا على حسابه في شبكة “إكس”، حيث وصف سياسة إيران بدعم الأنظمة المتهاوية وانتقدها. ولكن بعد أقل من يوم، وعند ضغط من السلطة القضائية، قام بتصحيح منشوره.
https://twitter.com/drfalahatpishe/status/1866058358253318619
بالإضافة إليه، شدد بهرام پارسائي، النائب السابق في البرلمان، في منشور له على أن طهران أنفقت 30 مليار دولار من أموال الشعب الإيراني في سوريا. وقال إن هذا العمل كان غير قانوني ومخالفًا للدستور الإيراني الذي ينص في المادة 80 على أنه يجب أن تتم المساعدات المالية للدول الأخرى بموافقة البرلمان.
https://twitter.com/ParsaeiB/status/1865100408252715480
وأعلن القضاء عن ملاحقة قضائية ضد كلا النائبين السابقين في البرلمان. التحدث عن مقدار وكيفية إنفاق طهران في سوريا ولبنان في إيران هو من الخطوط الحمراء ولا يمكن لأحد التحدث عنه. ومع ذلك، أتاح سقوط الأسد فرصة للاحتجاج العام على سياسة إيران تجاه سوريا. وفقًا للكثير من المحللين والمواطنين، أنفقت طهران عشرات المليارات من الدولارات للحفاظ على بشار الأسد في سوريا، ومع هزيمته في 11 يومًا، ضاع كل هذا المال. لكن ماذا كانت التكاليف التي تحملتها إيران في سوريا، وما الفوائد التي حصلت عليها؟
بيع النفط إلى سوريا، وتهريب النفط عبر السفن
في اليوم الذي سقط فيه نظام الأسد، أفاد موقع “TANKERS TRACKER” بأن سفينة إيرانية تُدعى “لوتوس” كانت تحمل 550 ألف برميل من النفط إلى سوريا، وقد دارت بالقرب من قناة السويس لتعود إلى إيران. وكان هذا جزءًا من استخدام متبادل بين طهران وحكومة سوريا بعد ضمان استقرار حافظ الأسد في السلطة. من جهة، كانت طهران تورد كميات من النفط شهريًا لاستهلاك سوريا، ومن جهة أخرى، كانت تستخدم سوريا لبيع نفطها في السوق السوداء.
وفقًا لما ذكره موقع “TANKERS TRACKER”، كانت طهران تصدر 74 ألف برميل من النفط يوميًا إلى سوريا في عام 2023. لكن لم تُنشر أي معلومات عن دفع أموال مقابل هذه الكميات من النفط. وعلى العكس، تشير الوثائق السرية المتعلقة بصادرات النفط الإيراني إلى أن سوريا لم تكن تدفع ثمن النفط الذي تستهلكه.
https://twitter.com/TankerTrackers/status/1865711218096304228
وفقًا لوثيقة هامة وسرية من اجتماع مجلس الأمن القومي الإيراني حول سوريا، التي تم الحصول عليها خلال عملية اختراق لموقع رئاسة الجمهورية، أرسلت طهران أكثر من 11 مليار دولار من النفط إلى سوريا في إطار “مشروع ربيع” بين عامي 2012 و2020.
تسريب وثائق سرية من مشاريع غير مكتملة
في العام الماضي، قام فريق هاكرز يدعى “القيامة من أجل الإطاحة”، المرتبط بجماعة مجاهدي خلق، إحدى جماعات المعارضة لإيران باختراق موقع رئاسة الجمهورية الإيرانية.
إحدى هذه الوثائق هي رسالة سرية من محمد مخبر، نائب الرئيس الأول في حكومة إبراهيم رئيسي، إلى علي خامنئي، حيث ذكر فيها أن إجمالي ديون سوريا لإيران، باستثناء الديون المتعلقة بالقطاعات العسكرية والأمنية، تبلغ 11.6 مليار دولار، وأنه من المتوقع، بعد تحديد مقدار الديون في القطاعات العسكرية، أن تحصل طهران في المقابل على مشاريع في سوريا.
في جزء آخر من الرسالة، كتب مخبر لخامنئي أن سوريا قد اقترحت على طهران 15 مشروعًا مقابل ديونها. ويقول نائب الرئيس الأول في الحكومة السابقة إن سوريا تحتاج إلى مئات المليارات من الدولارات لإعادة الإعمار، ولهذا لا توجد بيئة مناسبة للاستثمار الإيراني في هذا المجال. كما أشار مخبر إلى أن طهران قد خسرت سوق سوريا لصالح دول أخرى، حيث أن 45% من الوجهات التصديرية لسوريا كانت إلى السعودية وتركيا والإمارات والأردن، وفيما يتعلق بالواردات، تعد تركيا الشريك الأول لحكومة سوريا.
لكن في وثيقة سرية أخرى، تم الكشف عن مشاريع طهران في سوريا. حيث ذكر حميد باداش، نائب مخبر، في رسالة له إلى الأخير، أنه وفقًا لاتفاقية التعاون بين سوريا وإيران في عام 2015، من المقرر أن يتولى مقر خاتم الأنبياء للبناء التابع للحرس الثوري هذه المشاريع.
في هذه الوثيقة، يُذكر أنه نظرًا لعدم رغبة الحكومة السورية في الإجماع على اتفاقية التعاون بين البلدين في عام 2015، تم اقتراح أن استمرارية إرسال النفط تكون مشروطة بتنفيذ هذه الاتفاقية. تم في الاجتماع ذكر أن طهران قد أرسلت في النصف الأول من عام 2021 مليون برميل من النفط شهريًا إلى سوريا، ولكن في النصف الثاني من العام، طلبت سوريا إرسال مليونين من البراميل شهريًا. وقد اقترح القائد العام للحرس الثوري، بناءً على اقتراح إسماعيل قاآني، قائد فيلق القدس، إرسال 1.5 مليون برميل من النفط شهريًا.
في الرسالة السرية من محمد مخبر، النائب الأول للرئيس الإيراني إلى خامنئي، تم التأكيد أيضًا على أن المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني قد وافق على خط ائتماني بقيمة مليار دولار لسوريا، ولكن تنفيذ هذا الخط مشروط بتنفيذ سوريا لالتزاماتها في الاتفاقية المشتركة مع طهران.
بيع النفط في السوق السوداء
قبل ست سنوات، فرضت وزارة الخزانة الأمريكية عقوبات على شبكة لبيع النفط الإيراني المحظور. كانت هذه الشبكة المعقدة تعمل بالتعاون مع البنك المركزي السوري، وبنك في روسيا، وعدد من المهربين المعروفين، وكان أبرزهم المواطن السوري محمد عامر الجوّيكي. كانت هذه الشبكة تقوم بنقل النفط من إيران إلى سوريا عبر شركتين واجهتين، وبعد بيعه في السوق السوداء، كانت الأموال تُحوَّل إلى حساب شركة مملوكة للجوّيكي في روسيا، وبعد إجراء عمليات غسيل الأموال، كانت تُضخ الأموال إلى فيلق القدس التابع للحرس الثوري، وكذلك إلى القوات الوكيلة للجمهورية الإسلامية في المنطقة.
لكن هذه كانت واحدة فقط من هذه الشبكات. أنشأت طهران العديد من الشبكات المماثلة في سوريا. واحدة من أبرز هذه الشبكات كانت تحت إدارة براء قاطرجی، التاجر ورجل الأعمال المقرب من بشار الأسد، الذي قُتل في يونيو الماضي في هجوم إسرائيلي بالقرب من دمشق.
كان قاطرجی يبيع نفط إيران في السوق السوداء عبر 26 شركة في أماكن مختلفة حول العالم، من سوريا إلى جزر مارشال وبنما، ثم يرسل الأموال إلى الصين.
بعد غسيل الأموال، كانت الأموال تُوزَّع على فرعين مختلفين: الفرع الأول كان وحدة 4400 التابعة لحزب الله اللبناني تحت إدارة محمد جعفر قصيري (الذي قُتل أيضًا في الهجوم الإسرائيلي)، والفرع الثاني كان نفسه فيلق القدس التابع للحرس الثوري.
بعد مقتل قاطرجی، فرضت الولايات المتحدة عقوبات على كامل شبكته. هذه الشبكة، بعد وفاة براء، يديرها شقيقه حسام قاطرجی، عضو مجلس الشعب السوري.
كشف حشمت الله فلاحت پيشه، رئيس لجنة الأمن القومي في البرلمان الإيراني سابقًا، أن سوريا في منتصف طريق تعاونها مع إيران لبيع النفط طالبت بأن تحصل على 12% من أموال النفط.
كما كانت هذه الشبكة تتعاون مع الحرس الثوري الإيراني بطرق أخرى. جواد غفاري، القائد السابق في فيلق القدس التابع للحرس الثوري، الذي تم طرده من سوريا قبل ثلاث سنوات، كان ينقل شاحنات محملة بالديزل والبنزين المهرب إلى سوريا عبر معبر البوكمال، ويسلمها إلى شبكة براء قاطرجي مقابل أموال. وبعد سنة من طرده من سوريا، أصبح غفاري قائدًا في معاون عمليات جهاز استخبارات الحرس الثوري، لكنه استمر في نشاطه على الحدود في البوكمال وتهريب الديزل والبنزين.
كان يُعتقد سابقًا أن الشبكة قد ضعفت بعد مقتل براء قاطرجي ومحمد جعفر قصيري المعروف بحاج فادي، ولكن سقوط بشار الأسد قد يعني نهاية هذه الشبكة على الأقل بالشكل الحالي.
قلق خامنئي من الإقصاء المحتمل للأسد
في الوثيقة السرية لاجتماع مجلس الأمن القومي، تم الإشارة إلى تصريح سري من خامنئي. كان قائد إيران قد حذر من أن فترة رئاسة بشار الأسد الحالية هي فترة حساسة للغاية، وقد يتم إقصاؤه لأسباب ما، مما يعني عدم تنفيذ الاتفاقية بين إيران وسوريا، وبالتالي ضياع مليارات الدولارات من أموال إيران.
في نفس الوثيقة، تم تقدير ديون الحكومة السورية لإيران بأكثر من خمسين مليار دولار. ومع ذلك، كما كشف بعض المسؤولين السابقين في إيران، فإن إيران فقدت نفوذها في الاقتصاد السوري منذ وقت طويل. حشمت الله فلاحت بيشه، رئيس لجنة الأمن القومي في البرلمان السابق، أشار قبل عام إلى أن سوريا لم تلتزم بأي من تعهداتها. وفقاً له، كان من المفترض أن تقدم سوريا 5000 هكتار من الأراضي الزراعية لإيران لكنها لم تفعل. كما أن الروس لم يسمحوا لإيران بانتزاع وبيع الفوسفات، بل قاموا باحتلال ميناء طرطوس وصادروا الفوسفات بأنفسهم.
في هذه الوثيقة، تم التأكيد أيضًا على أن المشاريع المقترحة تحتاج إلى استثمار. بمعنى آخر، كانت سوريا تعرض مشاريع على إيران لكنها كانت لا تزال تتطلب تكاليف إضافية من إيران في سوريا.
تم ذكر ثمانية مشاريع في الوثيقة، من بينها مشروعين نفطيين:
البلوك النفطي 21 في حمص بسعة حوالي 100 مليون برميل من النفط. وفقًا لهذه الوثيقة، استخرجت طهران من هذا الحقل 65 ألف برميل فقط من النفط بين عامي 2020 والشهرين الأولين من عام 2023. كان من المتوقع أن يحتاج هذا المشروع، الذي يمتد لخمس سنوات، إلى استثمار بقيمة 300 مليون دولار، وكان من المفترض أن يولد إيرادات تبلغ 3.4 مليار دولار لإيران خلال 30 عامًا.
البلوك النفطي 12 في البوكمال بسعة لا تقل عن 100 مليون برميل من النفط. وفقًا للوثيقة، كان من المفترض أن تستثمر طهران 300 مليون دولار في هذا المشروع خلال خمس سنوات، وكان من المتوقع أن تحقق إيرادات تصل إلى 3 مليارات دولار على مدى 30 عامًا. إلا أن هذا المشروع لم يصل إلى مرحلة التشغيل الأساسية.
مع سقوط الأسد، يبدو أنه يجب اعتبار كلا المشروعين منتهيين. رغم أن الأسد، عندما كان في السلطة، قد منح غالبية المشاريع النفطية لسوريا. بعيدًا عن هذين المشروعين، كان أهم مشروع لإيران في سوريا هو مشروع منجم الفوسفات بسعة 1.05 مليار طن. كان من المفترض أن تستثمر طهران 125 مليون دولار في هذا المشروع على مدى ثلاث سنوات، وكان من المتوقع أن تحقق إيرادات تبلغ 9.8 مليار دولار، أي ما يعادل 50% من إجمالي الإيرادات.
كانت طهران تخطط لاستخدام فوسفات سوريا لإنتاج كعكة اليورانيوم الصفراء، الذي يُستخدم في برنامجها النووي. في أبريل 2023، خلال زيارة إبراهيم رئيسي إلى سوريا، تم توقيع عقد لتوريد فوسفات من منجم خنيفيس السوري.
إيران ونهب موارد سوريا: استغلال ممنهج تحت غطاء الدعم
أجرت أخبار الآن مقابلة مع الصحفي الاستقصائي محمد بسيكي الذي اوضح كيفية استغلال طهران لموارد وممتلكات سوريا تحت غطاء الدعم للنظام السوري. قال: “إيران لم تكتفِ بتقديم الدعم العسكري للنظام السوري، بل سعت بالتوازي إلى استغلال موارد وممتلكات سوريا بشكل منهجي لتحقيق مصالحها الاقتصادية والجيوسياسية. استخدمت طهران الأراضي السورية كمنصة لتوسيع نفوذها الإقليمي ونهب موارد البلاد”.
“من بين أبرز مظاهر هذا الاستغلال كان السيطرة على الثروات الباطنية، مثل الفوسفات، حيث أبرمت عقودًا طويلة الأجل لاستثمار هذه الموارد الحيوية وبيعها لدول أخرى عبر شركات تابعة للحرس الثوري. لم تكن هذه الشركات تستهدف تعزيز الاقتصاد السوري بقدر ما كانت تهدف إلى تأمين أرباح مباشرة للاقتصاد الإيراني، مع تعزيز نفوذ طهران داخل سوريا”.
وتابع: “إلى جانب ذلك، مارست الميليشيات الإيرانية، مثل “زينبيون” و”فاطميون”، أنشطة غير قانونية داخل سوريا، شملت فرض الإتاوات على المدنيين والتجار عند الحواجز، ومداهمة المعامل ونهب المعدات الصناعية والأموال. هذه الممارسات ألحقت أضرارًا جسيمة بالبنية التحتية والقطاع الصناعي السوري، ما أدى إلى تدمير مقومات الاقتصاد المحلي”.
“الأمر الأكثر خطورة هو أن طهران استخدمت هذه الموارد المسلوبة لتحقيق مكاسب سياسية، إذ سعت إلى تقديم نفسها كحليف استراتيجي للنظام السوري، مستغلة الإعلام والدعاية لبث رسائل دعم زائفة، بينما كانت تعمل على استنزاف موارد البلاد لصالح أجندتها الخاصة. هذا الجمع بين استغلال الموارد والترويج الإعلامي سمح لإيران بإحكام قبضتها على قطاعات حيوية في سوريا، ما جعلها طرفًا مستفيدًا بشكل كبير من معاناة الشعب السوري”.
لقد توقفت هذه الفضائح على الأقل منذ الخميس الماضي داخل إيران، حيث أمر خامنئي بعدم السماح لأي شخص بتقديم تحليل يشير إلى فشل سياسة طهران في سوريا وجبهة المقاومة. ومع ذلك، في إيران، يعلم الجميع أن أكثر من خمسين مليار دولار التي أنفقتها طهران في سوريا قد ذهبت هباءً مع سقوط الأسد.