أخبار الآن | دبي – الإمارات العربية المتحدة (نهاد الجريري)
عندما وصف الجنرال سيريليتو سوبيهانا، قائد الجيش الفلبيني، الهجمات الإرهابية التي ابتليت بها بلده بأنها “مسألة عائلية” لم يكن يقصد أن منفذيها ينتمون إلى عوائل مترابطة وحسب؛ وإنما أن هذه العائلات صارت ترسل نساءها لتنفيذ تلك الهجمات. في أكتوبر الماضي، أغار الجيش الفلبيني على منزل فيه ثلاث نساء: الإندونيسية (رزقي فانتاسيا رولي) المعروفة باسم (سي سي)، وفلبينيتان تنتميان إلى جماعة أبي سياف. الثلاثة كنّ يحضرن لهجمة انتحارية. يُعتقد أن رولي هي ابنة رجل وزوجته فجرا نفسيهما في كنيسة في جولو جنوب الفلبين. كما أنها أرملة الإرهابي (أندي باسو) الذي فجر كنيسة في ٢٠١٦. القوات الفلبينية قالت إنها قتلته في مواجهة في أغسطس الماضي.
رزقي فانتاسيا رولي وزوجها أندي باسو مطلوبان للقضاء الفلبيني
وفي أغسطس، فجرت انتحاريتان نفسيهما في نفس المنطقة، جولو، ما أسفر عن قتل ١٥ شخصاً وجرح العشرات. وهكذا باتت المرأة في صلب الهجمات الانتحارية في جنوب شرق آسيا. وبحسب موقع رابلر Rappler الفلبيني المرأة الآن هي “الوجه الظاهر من التطرف العنيف” بعد أن انتقلت من “تنفيذ مهام في ظل الرجل إلى تنفيذ مهام أكثر فاعلية إلى جانب الرجل.”
ما الذي غيّر هذا الاتجاه؟
الإرهاب في الفلبين مرتبط ارتباطاً عضوياً بالإرهاب في إندونيسيا التي شهدت هجمات عنيفة في العامين الماضيين كانت المرأة في صلبها. في مايو ٢٠١٨، فجرت عائلة ثلاث كنائس في مدينة سورابايا، عاصمة ولاية جاوا الشرقية. الزوج نقل المتفجرات في سيارته التيوتا العائلية، الولدان المراهقان فجرا نفسيهما في دراجة هوائية، والأم انتظرت حتى فجرت بنتاها نفسيهما قبل أن تفجر حزامها الناسف.
صورة العائلة التي فجّرت الكنائس في سورابايا، عاصمة ولاية جاوا الشرقية – إندونيسيا
في بحث نشره موقع The Conversation في يونيو ٢٠١٨، جاء أن استخدام النساء في تنفيذ هجمات انتحارية يرجع إلى حاجة لوجستية يفرضها النقص في أعداد الرجال بسبب القتل أو الاعتقال. ويقول البحث: “في إندونيسيا، اعتقال الإرهابيين المنتمين إلى جماعات إرهابية من ضمنها داعش، دفع قادة هذه الجماعات إلى فرض مشاركة أوسع للنساء، قناعة منهم أن النساء سينجحن أكثر (في تنفيذ الهجمات) لأن أحداً لن يظنّ أنهنّ إرهابيات.” التوسع في استخدام النساء في الهجمات المباشرة لا يقتصر على داعش جنوب شرق آسيا، الذين يستمدون أيديولوجيتهم من داعش “الأم” في كل شيئ. بل إن تنظيم داعش “الأم” ذهب هذا المذهب في وقت مبكر، وتحديداً مطلع العام ٢٠١٧.
إقرأ أيضاً: هجوم انتحاري يستهدف كاتدرائية في اندونيسيا بعد قداس الشعانين
زجّ المرأة في القتال
في الجماعات الجهادية، أهم دور تضطلع به المرأة هو أن تكون أماً وزوجة تعنى بالرجل وتربي أولاده وتنشئ جيلاً جديداً من الجهاديين. وقد تشارك في أمور لوجستية كالتجنيد، ونقل الأموال. لكن توسعاً في دورها ليشمل زجّها في قتال مباشر ظهر في داعش مرتين: الأولى في ٢٠٠٥ إبّان ولاية الزرقاوي، الأب الروحي لداعش، والثانية إبّان ولاية البغدادي في ٢٠١٧. يسرد كتاب “عاشقات الشهادة” لمؤلفيه حسن أبو هنية ومحمد أبو رمّان، كيف مهد الزرقاوي في منتصف ٢٠٠٥ “لاستدخال النساء في العمليات القتالية وخصوصاً الانتحارية.” فتوجه بالخطاب للمرأة مباشرة. وكان هذا في كلمته التي عنوانها “أينقص الدين وأنا حي؟” في يوليو ٢٠٠٥. وفعلاً، يرصد الباحثان هجمتين انتحاريتين ذلك العام، وأكثر من ٩٠ هجمة انتحارية نفذتها نساء في الفترة من “ربيع ٢٠٠٧ وصيف ٢٠٠٩.” بحلول العام ٢٠١١ ومع تدرج الانسحاب الأمريكي من العراق، خفّت وتيرة هذه الهجمات، وبدا واضحاً أن “دولة العراق” في ذلك الوقت “لم تعد تسمح بمشاركة المرأة في القتال،” بحسب ما جاء في بحث صادر عن مركز مكافحة الإرهاب في جامعة ويست بوينت، بتاريخ أغسطس ٢٠١٧.
ومع إعلان تنظيم داعش “الخلافة” في ٢٠١٤، ظلّ التنظيم يستخدم النساء لأغراض “المشروع الجهادي” من دون أ، يشجعهن على القتال في تلك الفترة. ويلحظ الباحثان تشارلي وينتر وديفورا مارغولين أنه في هذه الفترة لم يكن داعش يحفل كثيراً بالنساء إن “شاركن” في القتال، فمثلاً “امتنع (التنظيم) عن الإشارة إلى تشفين مالك، التي شاركت في هجوم سان بيرنادينو (٢٠١٥)، بأنها إحدى ‘جنوده’، وكذلك لم يحفل التنظيم كثيراً بثلاث نساء هاجمن بالسكاكين والقنابل مركز شرطة في كنيا في ٢٠١٦.” ويعلّقان أنه بحلول منتصف يوليو ٢٠١٧، وقعت ٣٠ هجمة انتحارية نفذتها نساء، إلا أن داعش لم يتبنَّ أياً منهن، على الأقل حتى ذلك الوقت.
إذاً، أصرّ داعش على الدور التقليدي للمرأة. وهذا واضح في وثيقة صدرت مطلع ٢٠١٥ عن “كتيبة الخنساء الإعلامية” بعنوان: “المرأة في الدولة الإسلامية – رسالة وتقرير.” وفيها أن المرأة مخلوقة “من آدم ولأجل آدم.” في خمس وثلاثين صفحة، لم تأت الوثيقة على ذكر “الجهاد” إلا في جملة واحدة؛ ولم يكن ذلك ضمن واجبات المرأة أو ووصف دورها، وإنما ضمن شرح مسوغات خروجها من المنزل. فالمرأة تخرج من المنزل في حالة من ثلاث: طلب العلم “وأهمها علوم الدين”، والعمل معلمة أو طبيبة “ضمن ضوابط شرعية”، والجهاد دفاعاً “إذا هاجم العدو بلدها ولم تحصل بالرجال الكفاية وأفتى العلماء الربانيون لها بذلك.” لكن ابتداء من ديسمبر ٢٠١٦، حدث تحوّل لافت. بدأت منشورات داعش الرسمية تخاطب المرأة مباشرة دافعةً بمسألة “جهاد النساء إلى أبعد من الأمور الدفاعية كتبرير لحمل المرأة السلاح” كما تلحظ الباحثة ليديا خليل في بحثها “ما وراء الحجاب: النساء في الجهاد بعد الخلافة” المنشور في موقع Lowy Institute بتاريخ يونيو ٢٠١٩. العدد ٥٩ من صحيفة النبأ الصادرة عن ديوان الإعلام المركزي في داعش، خاطب المرأة مباشرة في مقالٍ بعنوان: “لسان حالكِ: لأموتنّ والإسلام عزيز” وفيه: “كما أنه من المعلوم أن لا جهاد على النساء من حيث الأصل، فلتعلم المسلمة أيضا أنه ومتى دخل العدو بيتها فالجهاد حينها متعين عليها كما الرجل.”
صفحة المقال “لسان حالكِ” من صحيفة النبأ – العدد ٥٩
بعد سبعة أشهر تقريباً، وفي يوليو ٢٠١٧، نشرت مجلة (رومية) الرسمية التي تنشر بلغات أعجمية، وفي عددها رقم ١١، مقالاً موجهاً للمرأة بعنوان “رحلتنا إلى الله” وفيه دعوة النساء لحمل السلاح “ليس لنقص في الرجال وإنما حباً في الجهاد ورغبة في التضحية في سبيل الله تعالى وطمعاً في الجنة .. والسعي إلى إحدى الحسنيين: النصر أو الشهادة.” ما حدث في تلك الفترة هو أن داعش كان “ينزف” ويخسر الأرض مع بدء تحرير الرقة والموصل في أواخر ٢٠١٦ وعليه “كان لا بد من مراجعة موقف (التنظيم) من مشاركة المرأة في القتال،” كما جاء في بحث وينتر و مارغولين. وتزيد خليل أنه “بعد سبعة أشهر من سقوط الرقة (في أكتوبر ٢٠١٧) وإعلان أن جهاد المرأة فرض عين، نشر داعش فيديو رسمي في يناير ٢٠١٨ تظهر فيه النساء وهنّ يقاتلن. فنادراً ما رأينا نساء في المواد الدعائية الرسمية (للتنظيم) ناهيك عن تصوير النساء أثناء القتال.” خليل كانت تشير هنا إلى الجزء السابع من سلسلة “من داخل الخلافة Inside the Caliphate” والذي تظهر فيه امرأة ترتدي السواد تطلق النار من وراء ساتر ترابي إلى جانب الرجال؛ وفي لقطة أخرى تظهر نساء في مركبة (بك أب) وهنّ يحملن البنادق.
من إصدار Inside the Caliphate – الجزء ٧
نفاق داعش في تعامله مع المرأة
في البحث عن تحوّل دور المرأة من التقليدي إلى الحربي، يتكشف جانب آخر من نفاق داعش في التعامل مع نسائه. في الوقت الذي يسمح فيه التنظيم للنساء بأداء مهام قتالية استثنائية، نجد أنه يحرمها من أي نفوذ. وهنا نتحدث عن الداعشيات المتعلمات تعليماً عالياً خاصة ممن “هاجرن” إلى “أرض الخلافة.” الباحث أيمن جواد التميمي كشف عن أكبر فضيحة تعرضت لها المرأة المتعلمية في ظل داعش عندما حاكم التنظيم الدكتورة إيمان مصطفى البُغا (ضم الباء). “الدكتورة إيمان” تنتمي إلى عائلة سورية متدينة ومشهورة. هي ابنة رجل الدين السوري المعروف مصطفى البُغا. حاصلة على الدكتوراة في الفقه، وعملت سنواتٍ في جامعة الدمام في السعودية. في أكتوبر ٢٠١٤، انتقلت وعائلتها – زوجها ولدها وابنتيها – إلى المناطق التي تسيطر عليها داعش. ونشرت لاحقاً مقالاً قصيراً بعنوان: “أنا داعشية قبل أن توجد داعش.” في ظلّ التنظيم تولت مناصب رفيعة في ديوان البحوث، ويقول الباحثان أبو هنية وأبو رمّان إنها كانت ربما “المرأة الوحيدة في مجلس شورى التنظيم.” كما اعتبرت “من أبرز فقهاء التنظيم والأصوات المدافعة عنه التي تؤطر فكره الإيديولوجي واختياراته الفقهية.” كانت إحدى ٥٧ شخصاً من “مشايخ التنظيم” وقعوا وثيقة بعنوان “المشاعل العلمية في نصرة دولة الخلافة الإسلامية.” من قرأ لها أو عرفها وناقشها يدرك كم كانت متطرفة. بحسب أبو هنية وأبو رمّان فقد “(بررت) فقهياً وفكرياً وسياسياً موقف التنظيم من قتال الفصائل الأخرى مثل الجيش الحر وفي قتل من يعتبرهم صحوات، فهم وفقاً لها مرتدون وخونة ولا جزاء لهم إلا القتل. كما بررت حرق الطيار الحربي الأردني معاذ الكساسبة بالنار.” لكن بالرغم من كل ذلك، شكك التنظيم في ولائها وعقد لها “جلسة” أشبه بالمحاكمة في مايو ٢٠١٦. وورد في الوثائق أنه “جرى معها أكثر من ١٥ تحقيقاً خلال عام بنفس التهم، وفي كل مرة تبرأ منها.”
تقرير جلسة المساءلة مع إيمان البغا – المصدر: أيمن جواد التميمي
التميمي استعرض وثائق الجلسة وكانت وقتها تُعرف حركياً باسم “أم المظفر الدمشقية” وتدير معهد “ذات النطاقين” وفيه حوالي ٤٠٠ طالبة.” بحسب الوثائق المُسرّبة، فإن المسائل التي أثيرت ضدها تعلّقت بـ “إنكارها السحر والمس الجني والسبب هو عقلانتيها في تناول المسائل الشرعية … كلامها عن احترام الأديان … تخطيئ بعض الصحابة … وصفها المخالفات الشرعية بألفاظ قانوينة عقلية كقولها عن السرقة إنها جريمة اقتصادية … وكلامها عن علة جعل العقيقة كبشين للذكر وواحد للأنثى، وقولها إن الذكر يستحق أكثر من ذلك، واستنكارها للسبي،” ومسائل أخرى من هذا القبيل. وجاء في الوثائق إنها أنكرت كل ما تقدم. ومن قراءة الوثائق يبدو أن المشكلة الحقيقة وراء كل ذلك هو إصرارها على أن يكون المعهد مستقلاً عن ديوان الدعوة والمساجد وأن تكون علاقتها مع والي الرقة مباشرة. كما برزت مشكلة أخرى تتعلق بمعلمة في المعهد اسمها أم أحمد المصرية وهي زوجة أبي مرام الجزائري، القيادي المتشدد في التنظيم. إيمان البغا شككت في الشهادات العلمية التي “ادّعت” أم أحمد أنها حصلت عليها، خاصة أن الأخيرة أخفقت في تقديم صور عنها متذرعة بأنها في مصر ولا سبيل للحصول عليها. فما كان من ديوان التعليم إلا أن شكل لجنة لاختبار المدرسات يرأسها أبو مرام نفسه “ما اعتبرته أم المظفر إهانة لها أو تهديد.”
تقرير جلسة المساءلة مع إيمان البغا – المصدر: أيمن جواد التميمي
في الخلاصة، قررت اللجنة المحققة إلغاء المعهد وإعادة بناء كادره! وفي الفقرة قبل الأخيرة، تذكر الوثيقة على لسان الدكتورة إيمان أنها هُددت بالقتل، وأن البعض ألمح بعلاقة بينها وبين والي الرقة في ذلك الوقت أبي عبدالرحمن التميمي. لا شكّ في أن “الدكتورة إيمان” تميزت بين مهاجرات داعش المتعلمات. لم تظهر مثلها من علا صوتها بين الرجال. لكنهم سحقوها حتى وإن فاقتهم تطرفاً.
الصورة: من إصدار (من داخل الخلافة)