“هذا مستحيل، مستحيل، إننا نطلق عليه مخدر الأفيال، فالفنتانيل الصيني يحتل أول مركز في نشرة جدول المخدرات الموزعة على صيدليات مصر، ويقتصر وجوده على الصيدليات الكبرى أو التابعة للمستشفيات العامة والخاصة ولا مجال له ليصل إلى يد الشباب في الشوارع، فجرعة منه كفيلة بقتل المدمن، كما لن يخاطر أي صيدلي بمستقبله المهني إذا ما قام ببيعه خارج الجدول” هكذا قال بانفعال شديد ونبرة حماسية واثقة، أحمد علي الصيدلي الشاب في إحدى المستشفيات الحكومية في مصرمؤكدا استحالة أن يصل الفنتانيل في مصر إلى يد الشباب المدمن من الذين يتناولون الاستروكس والترامادول في بعض حواري القاهرة وأزقتها.
وهذه حقيقة فالفنتانيل لم يصل إلى عامة المدمنين من العاطلين وأنصاف المتعلمين في مصر بعد، فقد أصبح إدمان الفنتانيل الصيني في مصر حكرا على جزء من الطبقة عالية المستوى التعليمي، بل إنه بدأ يستهدف أوساط الأطباء حيث الفئة الأكثر عرضة للمخدر الفتاك والأسهل في إمكانية الحصول عليه، وهو ما اتفق واقعه في مصر مع بيان منظمة الصحة العالمية حول الفنتانيل والذي ذكر أن من ضمن الفئات الأشد تعرضا لأخذ جرعات مفرطة من المواد الأفيونية ومنها الفنتانيل هم عاملو الرعاية الصحية وخدمات الطوارئ.
صدمة نفسية عرفته على”كارثة الأفيونات” فحوله لمدمن
بعد مروره بصدمة نفسية عصيبة، لم يجد “أ.ش” (تم اخفاء بيانات الطبيب حرصا على مستقبله المهني حيث انه مازال يمارس الطب)، طبيب التخدير الواعد، أمامه على طاولة أدوات التخدير قبل إجراء إحدى العمليات إلا الفنتانيل، آملا في الحصول على فترة إسكات عقله عن التفكير في تجربة مؤلمة مر بها، لكن طريق العودة إلى حياته الأولى كطبيب وطالب علم يشهد له أساتذته وزملاؤه بالعبقرية قد أوصده الفنتانيل بعد 5 سنوات من الإدمان تبعتها محاولات للتعافي ثم انتكاسات متعاقبة.
فوجئت بقدماي تنزلقان في طريق إدمان بلا عودة
لقد صادف ربيع 2015 خريفا أقبل قبل موعده بعقود في حياة “أ.ش” الذي كان في السادسة والعشرين من عمره حينها، والذي فسر لطبيبه المعالج سبب إقباله على الفنتانيل بقوله” تعاملت معه في البداية على إنه مسكن قوي سوف يريحني من ألامي الجسدية التي سببتها أزمتي النفسية أو ربما يريحني من ألامي النفسية ذاتها، وكان الأقرب ليدي فهو أمام عيني طوال اليوم ولكني فوجئت بقدماي تنزلقان في طريق إدمانه بلا عودة.”
من طبيب واعد إلى سارق أمبولات ومديون للبنوك
في البداية كان “أ.ش” يتناول أمبولا واحدا من الفنتانيل الصيني في اليوم ولم تمر إلا فترة قليلة طلب حتى طلب جسده المزيد والمزيد من الأمبولات، تحول الطبيب النابه إلى لص لأمبولات الفنتانيل الموجودة بيصيدليات المستشفيات التي يعمل بها، حتى بات الأمر ملحوظا فأينما وجد الطبيب الشاب اختفى الفنتانيل، صار مشكوكا به بدأ الجميع يتهامس ولاحقته نظرات الاتهام والريبة من طاقم الأطباء فتوقف عن اختلاسه من المستشفى ولكنه لم يستطع التوقف عن تعاطيه كمخدر.”
أصبح في حاجة ملحة لشرائه حتى ظهرت إحدى الجرعات الممدودة له بالسم من يد ترتدي زي ملاك الرحمة، كانت عايدة(اسم مستعار) الممرضة هي المنقذ للطبيب المدمن حيث أهدته إحدى الأمبولات مرة بعد أن أخبرها أنه يستخدمها لكي يستطيع العمل ليل، نهار حتى ينفق على أسرته ويكون مستقبله، وبعد فترة ظهر الوجه الحقيقي لعايدة ك”تاجرة مخدرات” محترفة، وكان على الطبيب أن يدفع ثمن الحقن التي وصل عددها مؤخرا ل8 أمبولات يوميا، تبيعها عايدة مقابل (150 جنيها مصريا للأمبول الواحد)، أي ما يعادل 1200 جنيه مصري في يوم للأمبولات الثمانية ، وهو ما يفوق الـ 2000 دولار شهريا وأيضا ما يتجاوز ضعف راتب الطبيب الشاب، الزوج والأب لطفلين فما كان منه إلا ان أخذ قروضا من البنوك كي يستطيع شراء الفنتانيل.
كان عبقريا مثقفا وحوله الفنتالين إلى انطوائي يخشى مواجهة الجميع
صار الطبيب الذي ادعى أنه يتعاطى الفنتانيل ليزيد ساعات عمله ويوفر لأسرته حياة كريمة، يعمل ويقترض لكي ينفق على الفنتانيل الذي حوله من شخص مهذب، مثقف محبوب، إلى أب لا يعلم شيئا عن حياة أبنائه ولا يراهم إلا نادرا كالغرباء، وزوج مهمل، يتحاشى التأنيب أو العتاب والسؤال فيتوقف عن التواصل مع الجميع حتى أبويه وإخوته.
الطبيب الذي كان واعدا توقف عند درجة البكالوريوس في الطب بينما حصل زملاؤه على درجة الدكتوراه مما جعله أكثر انطواءا وانكفاءا على ذاته ووافق ذلك اعتذارات متكررة عن الخروج أو الاجتماع بهم لإحساسه بالدونية أمام أقرانه، إنهم أنفسهم زملاء المهنة ورفاق سكن الأطباء بالمستشفى الذين أنقذوه مرتين حينما تعرض قلبه للتوقف بسبب جرعة فنتانيل زائدة “أوفر دوز.”
قلب يتوقف مرتين ثم اكتئاب يعقبه علاج وانتكاسة
هو لم يقترب من الموت مرتين فقط بل أيضا تعرض للانتكاس مرتين، فمرة عاود فيها إدمان الفنتانيل بعد شهر من تعافيه، وأخرى عاد للتعاطي بعد 4 شهور من التعافي، وهو الآن محجتز في مركز لعلاج الادمان بالقاهرة لعلاجه بعد الانتكاسة الثانية.
ليس فقط تعرضه لتوقف قلبه مرتين هي كل نتائج دخول الفنتانيل الصيني إلى حياته بل أيضا أصيب بحالة اكتآب مرضي حاد بسبب علاقاته التي تدمرت مع عائلته وزملائه.
“بات مستقبله المهني مهدد، فإلى الآن لم يحدث منه خطأ مهني ولكن لو حدث ستكون كارثة وسينتهي مستقبله كطبيب للأبد ومعه تنتهي حياة مريض أخطأ في التعامل معه بسبب الإدمان.”
هكذا أبدى الدكتور عبد الرحمن حماد طبيبه المعالج مخاوفه ل”أخبار الآن”، ويضيف حماد ” كان طبيبا له مستقبل مشرق، يسبق كل زملائه في مجاله، كان يعمل عدد ساعات كثيرة جدا، و مازال برغم كل ذلك يحاول الحفاظ على مظهره، مازال يتعامل بشكل محترم ولا يبدو عليه اختلال أخلاق المدمنين ولكن مازال هناك كذب ولف ودوران في كل أحاديثه حيث مازل يخفي الكثير عن عالمه الخاص الذي لا يرافقه فيه إلا أمبول الفنتانيل.”
يروى حماد أن “تأثير جرعة الفنتانيل أصبح يقل مع الوقت، والمدمن كطبيب أخذ يزيد الجرعة تدريجيا، فبحكم عمله يعلم جيدا كيف يتجنب الوصول للأوفردوز ومع ذلك وصل لها مرتين كاد أن يفقد فيهما حياته، وفي إحدى المرات تحول جسده للون الأزرق بسبب توقف القلب عن ضخ الدم.”
الفنتانيل سبب أغلب وفيات الأوفردوز من المخدرات الأفيونية المصنعة
وعن خطورة الفنتانيل الصيني وتأثيره هو ومشتقاته يقول دكتور عبد الرحمن حماد مؤسس وحدة علاج الإدمان بمستشفى العباسية للأمراض النفسية والعصبية ” يندرج الفنتانيل تحت فئة المخدرات الأفيونية المصنعة ويتم تصنيعه في الصين والمكسيك، ووفقا لتقرير المخدرات العالمي الأخير الذي صدر منذ 4 أشهر فإنه يوجد حوالي 53 ألف شخص يتعاطون المواد الأفيونية وأنه هناك زيادة كبيرة جدا في المخدرات المصنعة، وأن الفنتانيل والمواد المشتقة منه وهي 19 مادة جميعهم لهم التأثير الأكثر ضررا.”
أما عن تأثير الفنتانيل كمادة مخدرة مصنعة فيقول حماد”الفنتانيل من المواد الأفيونية قريبة الشبه من المورفين والهيروين ولكنه يفوقهم ضررا بمراحل حتى أنه يصل تأثيره إلى 100ضعف تأثير المورفين، و50 ضعف تأثير الهيروين، وأغلب حالات الوفيات بسبب الأوفردوز من المخدرات الأفيونية المصنعة مصدرها تعاطي الفنتانيل لأنه مادة شديدة المفعول.”
للفنتانيل بدائل آمنة ولا ضرورة لاستخدامه طبيا
يؤكد الدكتور عبد الرحمن حماد أنه لا توجد ضرورة طبية لاستخدام الفنتانيل الصيني ويمكن استبداله بعقارات أكثر أمانا ولها نفس الأثر الطبي، فالفنتانيل مادة أفيونية وأغلب هذه المواد تستخدم لتسكين الآلام وكمواد مخدرة لكن استخدامه الطبي محدود وله بدائل كثيرة جدا، لكن التصنيع الغير الطبي المرتبط بالمخدرات هو ما أحدث طفرة كبيرة في تصنيع الفنتانيل وتجارته وفي تصنيع الكثير من العقارات المشتقة منه عالية المفعول وهو ما تسبب في زيادة نسبة متعاطي المخدرات الافيونية لأن إمكانية ادمانه عند التداوي به عالية جدا.”
تقرير المخدرات العالمي: الفنتانيل في أمريكا الشمالية يفوق الترامادول في أفريقيا
العام الماضي شهد زيادة في أعداد الوفيات بين مدمني الفنتانيل الصيني في الولايات المتحدة الأمريكية وعن زيادة هذه الحالات يقول حماد “الفنتانيل والترامادول والهيروين جميعهم مواد أفيونية، والمدمن عندما يبدأ في تجربة أي مخدر منهم تحدث له حالة من التحمل، حيث يقل تأثير المادة وبعد ذلك يبحث عن مادة أقوى، وقد عقد تقرير المخدرات العالمي مقارنة بين كل من الترامادول في أفريقيا والفنتانيل الصيني في أمريكا الشمالية، وخلص التقرير إلى أن تأثير الفنتانيل يفوق بكثير الهيروين والترامادول، ورغم أننا كنا نرى أن الهيروين هو أقوى مادة مخدرة موجودة لكن اتضح أن تأثير الفنتانيل يفوقه 50 مرة وهذا ما يجعل الشباب يقبلون عليه.”
لذا فإننا أمام وحش مخدرات جديد يتم تطويره في مختبرات نائية بأقصى شرق الكرة الأرضية ليتم تصديره إلى أيادي الشباب العربي بلا تفرقة بين درجة تعليم أو وضع اجتماعي.
الخطورة تكمن في معدلات الموت والانتكاسة
إلى الآن لم ينتشر الفنتانيل الصيني في مصر على نطاق واسع بين الشرائح المعتاد إقبالها على المخدرات الأفيونية، ولكن هناك جديد في عالم الإدمان في مصريدق ناقوس الخطر، حيث يقول الدكتور عبدالرحمن حماد ” للأسف مؤخرا عالجت بعض الشباب في مصر ممن يتعاطون الفنتانيل الصيني وأيضا بعض الحالات القادمة من دول خليجية من مدمني الفنتانيل الصيني، عندما أرى ذلك أحبس أنفاسي، فالمشكلة ليست فقط في خطورة إدمانه ولكنها أيضا في أن معدل الانتكاسة بين المتعافين من إدمانه عالي جدا، فكل من رأيتهم وكانوا قد تعافوا من إدمانه تعرضوا لحالة انتكاسة وعادوا بعد شهور لإدمانه بجرعات أكبر”.
“كارثة الأفيونات” وإدمانه من الجرعات الأولى و المصنعون الصينيون تفننوا في عرضه
ماذا إذا انتشر إدمان الفنتانيل الصيني بين أوساط الشباب في مصر؟
يجيب أستاذ علاج الإدمان عبدالرحمن حماد بنبرة صوت لا تخلو من الخوف الشديد” سوف يكون معدل الوفايات بسببه عالي جدا، حيث يسمي تقرير المخدرات العالمي الفنتانيل ب”كارثة الافيونات” ولو أن الناس بدأت تجربه حتى كمسكن للآلام الشديدة فسوف يدمنوه، فبينما يستغرق الترامادول أسابيع من التعاطي ليصل لمرحلة الإدمان،فإن الفنتانيل بمجرد تعاطيه سنصل لمرحلة الإدمان مع الجرعات الأولى. خطورته أيضا تكمن في أن مصنعيه تفننوا في طرق عرضه المغرية بإدمانه، فمنه الأمبولات واللاصقات على الجلد وأشكال أخرى كثيرة فسوف يغري الكثير من الشباب لتجربته وسيكون الإقبال عليه كبير والوفاة بسببه ستكون شديدة ايضا.”
كما شدد مجلس مكافحة إساءة استخدام العقّارات الاستشاري، الذي أعد تقريرا عن خطورة الفنتانيل الصيني لمجلس الوزراء البريطاني بخصوص السياسات الواجب اتباعها بالنسبة إلى العقارات، على أن الوفيات الناتجة عن الفينتانيل ارتفعت في بريطانيا، بالرغم من تصنيفه كمادة غير قانونية وإدراجه ضمن الفئة (أ) التي تضم أكثر المخدرات خطورة.
وفي تصريح لبي بي سي قال الطبيب باودن جونز، أحد المتخصصين في المجلس إن دخول الفنتانيل الصيني، والمخدرات الأفيونية الأخرى، إلى سوق المخدرات غير القانونية في بريطانيا “يثير القلق”وأوضح أنه بمجرد التلاعب بتركيبة الفنتانيل الصيني قليلاً، يمكن صناعة الـ”كارفينتانيل،” الذي يفوق قوة مخدر المورفين بعشرة آلاف مرة ويستخدم الـ “كارفينتانيل” لتهدئة الحيوانات الكبيرة كالفيلة، ويتسبب هذا المخدر في عدد كبير من حالات الوفاة بسبب الجرعات المفرطة، خاصة في الولايات المتحدة الأمريكية.
لذا فإننا أمام وحش مخدرات جديد يتم تطويره كل يوم في معامل صناعة العقاقير المخدرة بالصين ليصبح اكثر إغراءا للشباب وأكثر فتكا بهم.