المشهد الأول.. طفولة الإيغوري لا تشكل أي فارق في وساوس آلة القمع الصينية
في ليلة صيفية من شهر مايو/آيار عام 1994، كان محمد أمين صاحب الـ14 عاما يلعب مع أصدقائه قرب منزلهم في منطقة الختل التاريخية في تركستان الشرقية، قبل أن يأتيه صوت سيارات الشرطة، التي ربما لم يتخيل للحظة أنها جاءت من أجله.
“أخبار الآن” تحدثت إلى أمين الذي وصف تلك اللحظة: “هبط من السيارات مجموعة من رجال الشرطة المسلحين، ألبسوا رأسي قناعا أسودا واصطحبوني إلى قسم الشرطة”.
لم يكن أمين يعرف شيئا عن سبب القبض عليه، قبل أن يأتيه صوت المحقق “هل تدرس عند الشيخ عبد الأحد؟ هل يدرس والدك لديه”.
لم يكن الطفل الذي لم يتجاوز الـ14 ربيعا، يدرك أن دراسة القرآن وتفسيره، باتت جرما، يستوجب التعامل بتلك الطريقة، خصوصا وأنه قد نشأ في إقليم ينتمي أغلبيته للدين الإسلامي.
يضيف أمين: “واصلوا ذكر أسماء جميع شيوخ المنطقة، واستمروا في سؤالي إن كنت أدرس لديهم أم لا، أجبت بالنفي، لكن ذلك حملهم على البدء في تعذيبي بشتى الوسائل، بالضرب، أو استخدام العصا الكهربائية، وبقي الحال على ذلك لشهرين متتاليين، حتى انتهت مدة الحبس الاحتياطي بدون وجود تهمة”.
المشهد الثاني.. اختلفت الأدوار وبقيت التهمة
في وقت مبكر من العام 2012، جلس محمد يعلم الصبيان، دروس الفقه، والقرآن وتفسيره، قبل أن تباغته قوة أمنية ضخمة مدججة بالسلاح، لتقتحم مجلس العلم، في مشهد ربما عرفه محمد في طفولته، لكنه بدا غريبا على تلاميذه.
الاتهام تلك المرة تشابه في جوهره مع المرة الأولى، ولكن الجرم هنا كان أكبر، فالأمر لم يتعلق بالدراسة لدى شيخ ولا بترديد الآيات أمام معلم، بل الجريمة كانت اقتناء الكتب الدينية وتدريسها للصغار.
يقول محمد لـ”أخبار الآن”: “بدأوا بتكبيل أيدينا وأرجلنا، ثم قسمونا إلى مجموعات، وتولت القوات تعذيب كل مجموعة على حده”.
“كان الضرب يتواصل حتى نفقد الوعي، وعند استعادة الوعي تعود الكرة من جديد” يضيف محمد.
ويكمل صاحب الـ40 عاما: “كان صغار الصراخ يقتلني، بعضهم كان يتساءل عن جرمه، والبعض الآخر كان يسأل عن سبب مجيئه إلى الدنيا من الأساس”.
وكحال المرة السابقة بقي محمد في السجن لمدة شهرين، حتى انتهت مدة الحبس الاحتياطي، دون إثبات الاتهام، فتم إطلاق سراحه.
المشهد الثالث.. فلتتوقف عن هذا أو ستموت هنا
ثلاث سنوات مرت على خروج محمد من سجون الحزب الشيوعي الصيني، ولكن عودته لتعليم الصبيان علوم دينهم، كانت تعني دخول المعتقل من جديد، بيد أن تلك المرة كانت الرسالة واضحة “إما تتوقف عن تعليم الصغار، وممارسة الشعائر، أو ستخرج من سجنك إلى قبرك”.
يقول أمين: “ازدادت الوحشية تلك المرة، كانوا يتركوني مع كلب بوليسي في الزنزانة، أجري إلى الزوايا فيركض خلفي، وينهش جسدي، ويواصل ذلك حتى أفقد الوعي”.
“عند استعادة الوعي، يعيدوا الكلب من جديد، حتى أفقده مرة أخرى، قبل أن يأخذوني إلى غرفة الاستجواب، والتي كانوا يتناوبون فيها على ضربي” يكمل محمد.
يروي أمين تفاصيل وضعه في تلك الفترة فيقول: “بقيت على تلك الحال لأشهر؛ القليل من النوم، القليل من الطعام السيئ، القيود تكبل يدي وقدمي طوال الوقت، حتى تم الإفراج عني بدون سبب كما دخلت بدون سبب”.
المشهد الرابع.. الخروج من الصين
لا يتطلب السفر من دولة إلى أخرى في أي مكان في العالم، سوى الحصول على جواز سفر، والبدء في الإجراءات، من تأشيرة وتذاكر طيران وغيرها، الأمر ذاته ينطبق على الصين أيضا، ولكن إذا كنت خارج إقليم تركستان الشرقية.
محمد أمين أحد أولئك الإيغور، الذين حاولوا الخروج من البلاد، بعد أن تكرر اعتقاله، فتقدم للحصول على جواز سفر، لكن محاولاته قوبلت بالرفض.
ستتكرر محاولات محمد من جديد، حتى تنجح بعد دفعه رشوة مالية ضخمة لأحد المسؤولين.
عن ذلك يوضح:” الحصول على جواز سفر في السابق كان صعبا وكنا نحاول أن نتغلب على الأمر بتقديم الرشاوى للمسؤولين، ولكن منذ 2016 بات الأمر مستحيلا”.
يكمل أمين: “الإقليم بالكامل أصبح سجنا كبيرا وبات الخروج منه أمرا شبه مستحيل، في ظل استمرار محاولات تغيير العقيدة الدينية وطمث هوية مواطني الإيغور”.
مشاهد أخرى في قصة معاناة محمد
في قصة حياة أمين عشرات القصص الأخرى لأولئك الذين غيبهم الموت في السجن، أو لا زالوا قيد الاعتقال؛ في مقدمة هؤلاء تأتي أمه فاطمة، تلك السيدة التي كانت تعمل على كسب قوتها في السوق رغم تقدمها في العمر، لكن السلطات الصينية، رأت أن الأفضل لمثيلاتها أن تقبعن في السجن، فتم اعتقالها في العام 2018، بدون تهمة، واستمر تعذيبها وإجبارها على العمل في معسكرات إعادة التأهيل القسري، حتى وافتها المنية في شهر فبراير/شباط من العام الماضي.
يقول أمين باكيا: “لم تكن أمي مريضة أو تعاني من ظرف صحي ما، بل كانت تعمل في السوق وكانت بكامل صحتها، حتى تم اعتقالها بدون أي سبب، ولم نعرف أي شيء عنها سوى أنها في معسكر لإعادة التأهيل، قبل أن يأتينا خبر وفاتها في المعتقل”.
بين من فقدهم محمد كذلك يأتي شيخه، عبد الأحد مختوم، الذي قضي أعواما في السجن، قبل أن يعلم ذويه، بنبأ وفاته في 2017، الأمر ذاته تكرر مع نجل الرجل نفسه في العام التالي، ويدعى عبد الرؤوف.
يضاف إلى هؤلاء جميعا شقيق محمد، عبد المجيد عبد الله، الذي ألقي القبض عليه بدون اتهام منذ خمسة أعوام، قبل أن يصدر القاضي الصيني قرارا بسجنه لعشر سنين، ومنذ ذاك الحين، غاب عبد المجيد في سجون إعادة التأهيل دون أن يعلم عنه أهله أي شيء، إذ يمنع عنه الزيارة أو أي وسيلة للتواصل مع العالم الخارجي.
حكاية مسلمي الإيغور
الإيغور، هم أقلية مسلمة، يعتبرون أنفسهم أقرب عرقياً وثقافياً لشعوب آسيا الوسطى.
ويبلغ عددهم في الصين 11 مليون شخص ويشكلون نحو 45 في المئة من سكان إقليم شينغيانغ.
وأعربت الأمم المتحدة مراراً عن قلقها بعد ورود تقارير عن حملات اعتقال جماعية للإيغور، ودعت لإطلاق سراح أولئك المحتجزين في معسكرات “إعادة التأهيل”.
وكانت مفوضية حقوق الإنسان في الأمم المتحدة قد أكدت تلقيها الكثير من التقارير الموثوقة التي تتحدث عن احتجاز نحو مليون شخص من أقلية الإيغور في “مراكز إعادة التأهيل”.
وقالت مفوضية حقوق الإنسان عام 2018 إن السلطات الصينية ألقت القبض على كل من له أقارب في 26 دولة حول العالم وكل من اتصل بشخص في الخارج عبر تطبيق واتسآب.
وتحدث آخر التقاير عن إجبار السلطات الصينية نساء الإيغور على تناول حبوب منع الحمل وإخضاعهن لعمليات تعقيم قسرية لحرمانهن من الإنجاب نهائياً.
وفي شهر سبتمبر/ أيلول 2020 اظهرت دراسة قام بها المعهد الاستراتيجي للسياسة الأسترالي أن السلطات الصينية قد زادت وتيرة احتجاز الأيغور في معسكرات، إذ تبين أن عددها يزيد باضطراد وهو ما يفند إعلان السلطات الصينية عن تراجع اعداد هذه المعسكرات التي يبلغ عدد المجتجزين فيها ما لا يقل عن مليون رجل وامرأة.
وحسب المعهد يبلغ عدد هذه المعسكرات حالياً 380 معسكراً وهو ما يزيد بنسبة 40 في المئة عن التقديرات السابقة ولا يزال العمل جار في 14 معسكرا إضافيا.
وبدأت الحكومة بتطبيق مجموعة من القوانين منذ مطلع أبريل / نيسان عام 2017 حيث يلزم بموجبها موظفو الدولة في الأماكن العامة من بينها محطات الركاب والمطارات، بمنع النساء اللائي يغطين أجسادهن بشكل كامل بما في ذلك وجوههن، من الدخول إلى هذه المرافق، وإبلاغ الشرطة عنهن.