استراتيجية التضليل المربك.. فهم العلاقة بين منصات الدعاية الروسية والإخوان
في السابع عشر من سبتمبر 2019، نقل موقع “روسيا اليوم” عن جماعة الإخوان اتهامهم للسلطات المصرية بالقتل المتعمد للرئيس المعزول محمد مرسي، والذي وفاته المنية إثر نوبة قلبية مفاجئة أصابته خلال إحدى جلسات محاكمته، وذلك بحسب خبر آخر نشره الموقع في اليوم التالي.
لا يعد نشر الخبر ونقيضه، أمرا عاديا في مجال الإعلام، خصوصا وأنه يأتي من وسيلة رسمية، وهو ما لا يزيل اللثام، عن عدم الاتساق التي تعاني منها الدعاية الروسية فحسب، بل يكشف النهج الذي سارت عليه أجهزتها الإعلامية خلال تلك الفترة، وهو ما يبدو مغايرا لما تعلنه الأوساط الروسية الرسمية.
بالنظر في لائحة التنظيمات الإرهابية في روسيا يبرز اسم جماعة الإخوان المسلمين، ورغم الصورة المعلنة، لوجود خصومة مع الجانب الروسي، على الأصعدة كافة؛ لكن باستقراء واقع الحال، فإن ثمة تقاربا خفيا بين موسكو والجماعة الأبرز على لوائح الإرهاب في مصر.
ولأن الغاية تبرر الوسيلة، وفق المنظور الروسي في التعامل مع القضايا الخارجية، دأبت موسكو على وضع موطئ قدم لها في الشرق الأوسط، بمنطق السعي لإدارة الصراع لا حله، أملا في الإبقاء على حضورها ودورها كقوة عظمى على الساحة الدولية، وسعيها للعب على كل الحبال في سبيل كسب ود كل الأطراف، بما يخدم نهجها الخاص.
ومن الواضح أن إطار العلاقة بين الجانبين، لا يقتصر على التوظيف الروسي للجماعة لتحقيق مصالحها في المنطقة، إذ يبدو أن هناك تشابه كبير بين الاستراتيجيات والتكتيكات والأهداف الدعائية الروسية ومثيلتها الإخوانية، وظهر هذا التشابه جليًا بعد فترة وجيزة من الإطاحة بحكم “مرسي” في صيف 2013، وهو ما نحاول أن نسلط عليه الضوء في السطور التالية
لعبت وسائل الدعاية الروسية دورًا بارزًا في تعزيز حضور موسكو في الشرق الأوسط، خلال السنوات الماضية، لتسهم بشكل واضح في خدمة أغراض استراتيجيتها الإقليمية، وتزيد من تأثيرها ونفوذها داخل المنطقة في مقابل التراجع النسبي لدور خصومها المفترضين وعلى رأسهم الولايات المتحدة الأمريكية.
وشكل الإرث السوفيتي القديم، عاملًا حاسمًا في صياغة الرؤية الاستراتيجية الروسية تجاه المنطقة، وتحديد الأدوات التي تستخدمها على رقعة الشطرنج الدولية، فاختارت اللعب بورقة استخدام وسائل الدعاية والإعلام، وتوظيف الجماعات السياسية والأيدولوجية كجماعة الإخوان وغيرها من الحركات والأحزاب، في إطار مقاربة مزدوجة ومتداخلة تهدف لزيادة مساحة الحضور الروسي في المنطقة، وتقليل الحضور الأمريكي- الغربي الذي ينظر له الكرملين بارتياب واضح.
وانتقت موسكو تلك الوسائل بالتحديد، من واقع خبراتها السابقة إذ إن أجهزة الاستخبارات الروسية، وفي القلب منها جهاز الاستخبارات العسكرية، لديها خبرة طويلة في إدارة عمليات التشكيك/ التضليل الأيدلوجي، والتي دأبت المخابرات السوفيتية على تنفيذها كجزء من أسلوب الحرب النفسية الذي انتهجته إبان فترة الحرب الباردة (1947: 1991)، علاوة على الدروس التي تعلمتها خلال مواجهة الفصائل والجماعات الأيدولوجية في إطار حروب الوكالة، وذلك خلال سنوات احتلال أفغانستان (1979: 1989)، ومن ثم نحت في اتجاه تأسيس نموذج روسي خالص يقوم على توظيف جماعات وأحزاب وكيانات عدة، وفي مقدمتها الإخوان، لخدمة مصالحها الذاتية.
وتنظر موسكو إلى الإعلام بنظرة كلاسيكية قديمة، إذ تعتبره تكتيكًا حربيًا يهدف لإقناع الخصم وتحييده، وبالتالي السيطرة عليه وتوجيهه في الاتجاه الذي يخدم الأجندة الروسية، فعلى حد تعبير “ديمتري كيسليوف”- مقدم البرامج الروسي الشهير والمعروف بمسؤول بروباغندا الكرملين: “إذا نجحت في إقناع شخص فليس عليك قتله، لأن الإقناع هو وسيلة أفضل من القتل”.
وفي ضوء التصور السابق، عملت تلك المنصات الدعائية على خدمة مصالح موسكو، وفقًا لتصور أجهزة الاستخبارات الروسية الذي يتكامل مع تصور الرئيس فلاديمير بوتين- ضابط ورئيس جهاز الاستخبارات الاتحادي سابقًا- الذي يتبنى نهجًا براجماتيًا غير مبنيًا على أساس أيدولوجي صارم، يهدف في نهاية المطاف لزيادة امتيازات بلاده السياسية والعسكرية والاقتصادية وتقليل امتيازات خصومها.
وفي ضوء التصور السابق، اتبع الرئيس “فلاديمير بوتين” وجهازه الاستخباري مبدأ نسج العلاقات مع جميع الأطراف الفاعلة في منطقة الشرق الأوسط، وذلك منذ انخراطه في مسار العودة للمنطقة بحثًا عن الإرث المتبدد للاتحاد السوفيتي السابق في عام 2005، وهو النهج الذي تميزت به سياسة موسكو الخارجية التي جمعت بين المتناقضات بصورة لافتة للنظر، فسمح لجماعة الإخوان بهامش للحركة داخل الاتحاد الروسي، على الرغم من إدراج الجماعة على قائمة المنظمات الإرهابية الأجنبية في البلاد منذ أواخر 2003، وتجديد الإدراج في عام 2015، كما دعمت منصات الدعاية الروسية الجماعة عبر الترويج لسرديتها الخاصة في أكثر من مناسبة.
ويحاول هذا المقال، الوصول إلى مقاربة منطقية لفهم إطار العلاقة الذي يجمع بين وسائل الدعاية الروسية المملوكة بطبيعة الحال للكرملين، وبين جماعة الإخوان- المدرجة على قوائم الإرهاب في روسيا وعدة دول عربية-، كما يسلط الضوء على التشابه الكبير في الأساليب والتكتيكات، وبين وسائل الدعاية الروسية ومثيلتها الإخوانية.
المحاولة الروسية للعودة للمنطقة عبر البوابة الإعلامية
منذ العام 2005، بدأت روسيا تعود إلى المنطقة بشكل حثيث بعد غيابٍ اضطراري استمر لقرابة العقد ونصف، فخلال تلك الفترة انشغلت الحكومات الروسية بوضعها الداخلي غير المستقر وسعت لضبط الفوضى التي نتجت عن انهيار اتحاد الجمهوريات السوفيتية العظمى في مطلع تسعينات القرن الماضي.
وفي حين انشغلت روسيا بترتيب البيت الداخلي، اكتسبت الولايات المتحدة (الغريم التقليدي لموسكو) نفوذًا مطلقًا في الشرق الأوسط، وهو ما حفز الدب الروسي للإسراع بالعودة إلى المنطقة التي اعتبرها ملعبًا قديمًا له، في سنوات الحرب الباردة.
على أن العودة الروسية للمنطقة لم تكن بالشكل المطلوب، فموسكو المثقلة بالجراح السياسية والاقتصادية، لم تملك المقومات الكافية لتنافس الولايات المتحدة، وبالتالي عمد “بوتين” إلى انتهاج أساليب الحرب النفسية التي تعلمها خلال سنوات خدمته في الـK.G.B (الاستخبارات السوفيتية) ليكسب لبلاده مكانةً عالميةً يراها جديرة بها.
وبالفعل، خطت روسيا أول خطوة في طريق البحث عن المكانة الذاتية/ العالمية ومحاولة خلخلة السيطرة الغربية على مجال الإعلام، في ديسمبر/ كانون الأول 2005 عبر تأسيس قناة روسيا اليوم RT الناطقة باللغة الإنجليزية كجزء من وكالة ريا نوفستي المملوكة للدولة الروسية، والتي تُدار بواسطة رفاق “بوتين” المخلصين.
“بوتين” عمد إلى انتهاج أساليب الحرب النفسية التي تعلمها خلال سنوات خدمته في الاستخبارات السوفيتية
ومع أن الوسيلة الدعائية الجديدة ركزت على دول أوروبا، بشرقها وغربها، الأقرب جغرافيا لموسكو، ومواجهة الولايات المتحدة التي تعتبرها أكبر خطر عليها، خلال الفترة الأولى من تأسيسها، إلا أنها ما لبثت أن حولت دفت اهتمامها لمنطقة الشرق الأوسط، وذلك بالتوازي مع انخفاض الاهتمام الروسي بمجال النفوذ الجغرافي القديم، وتصاعد اهتمام الكرملين بالشرق الأوسط، التي بدت في تلك الفترة وكأنها تستعد لمخاض جديد سيعيد تشكيل خارطة القوى فيها، لاسيما في أعقاب الغزو الأمريكي للعراق (2003)، والصعود السريع للحركات الإسلاموية كالإخوان المسلمين، في داخل البنية المجتمعية والسياسية.
وبالفعل غيرت “روسيا اليوم” من أولويتها للتوائم مع النظرة الجيوسياسية الجديدة، ففي الـ4 من مايو/ آيار 2007، بدأت البث باللغة العربية، ثم غيرت القناة اسمها في 2009، لـ”روسيا اليوم بالعربية” واتخذت جملة “اسأل أكثر” شعارًا لها، وهو الشعار الذي بقي غامضًا لحد كبير وإن كان متناسبًا بشكل تام مع النهج الدعائي للقناة.
وخصصت الحكومة الروسية ميزانية كبيرة للقناة الجديدة، إذ تُقدر تلك الميزانية بأكثر من 300 مليون دولار/ سنويًا، وهي بذلك تقترب من ميزانية هيئة الإذاعة البريطانية BBC التي تُقدر بنحو 376 مليون دولار/ سنويا، وخصصت RT نحو 80% من ميزانيتها للمكاتب الخارجية، وهو ما يعكس اهتمامها بالتأثير في الجمهور الأجنبي كما افتتحت مكاتب لها في مصر وسوريا وغيرهما.
التضليل كمقاربة لكسب النفوذ
رغم تخصيص ميزانية كبيرة نسبيًا لها، إلا أن الاستراتيجية الإعلامية لـRT لم تتطور أو تتغير عن منصات الدعاية الروسية الأخرى، ولعل هذا يرجع إلى وحدة المصدر الأساسي لتلك المنصات والنظرة الشمولية التي تحكم تعامل النخبة الحاكمة الروسية مع البيئة المحيطة.
إلى ذلك، عمدت القناة إلى التركيز على الأخبار المحلية لدول الشرق الأوسط، وخصوصًا مصر وسوريا ودول مجلس التعاون الخليجي، كما أولت تركيزًا هامًا لوسائل التواصل الاجتماعي وخصوصًا مواقع (فيس بوك، ويوتيوب، وتويتر)، وكثفت من بث المواد الدعائية عبر تلك المواقع مع إبراز عناوين مثيرة للجدل ومضللة في بعض الأحيان.
وبنظرة تحليلية للمحتوى الذي تبثه RT يمكن وصف استراتيجيتها الإعلامية بأنها “استراتيجية التضليل والإرباك”، إذ تسخر القناة مواردها إلى التضليل وزرع الشكوك وإحداث حالة من الضبابية، بجانب زرع وتغذية فكرة المؤامرة عبر انتقاء زاويا للتغطية تدعم هذه الرؤية وتعززها، خصوصًا بين الطبقات الاجتماعية المتوسطة التي تُلقى النظرية لدى قطاعات منهم رواجًا كبيرًا.
وتعمد منصات الدعاية الروسية بشكل عام وRT بشكل خاص إلى إسباغ أوصاف نخبوية على الضيوف الذين يشاركون في المواد التي تنتجها وتؤكد على وصفهم بأنهم خبراء/ متخصصون/ باحثون رفيعي المستوى.. إلخ، ومن الواضح أن هذا تكتيك متعمد لكسب مصداقية الجمهور، ولفت انتباهه ودفعه لتبنى وجهات النظر الخاصة بها.
ويمكن القول إن أسلوب التلاعب بالمعلومات هو أحد الأدوات الصراعية التي تستخدمها المنصات الروسية الدعائية التي تمارس الإعلام باعتباره نوعًا من أنواع الحروب المفتوحة، وهذه الحروب في جوهرها هي سباق نحو الظفر بالمصالح.
في حين، يكشف اللجوء الروسي لاتباع مقاربة التضليل والإرباك جزءًا هامًا من قصور النظر الذي تعاني منه موسكو، إذ يجعلها وكأنها تقدم اعترافًا ضمنيًا على محدودية قدراتها الخاصة، وعجزها عن صياغة استراتيجية شاملة تمكنها من تعظيم مكاسبها بصورة مطردة والبناء عليها لتحقيق مكاسب جوهرية أكثر استدامة، بدلًا من المكاسب اللحظية التي تحوزها عبر استغلال الأخطاء التكتيكية للخصوم المفترضين والتي صارت سمةً مميزة لها خلال السنوات الأخيرة.
- توظيف الأزمات لإدارة الصراع
تحدد استراتيجية روسيا الإقليمية طبيعة انخراطها في الشرق الأوسط، وتبدو تلك الاستراتيجية عامة وغير محددة إلى قدر كبير وتركز فقط على إيجاد موطئ قدم لموسكو في المنطقة وتحقيق أكبر قدر من الاستفادة لها، بيد أن التشكك الروسي الداخلي الذي خلقته الظروف السياسية والاقتصادية الصعبة التي عاشتها في مراحل تاريخية يدفعها نحو التخوف من خسارة المكاسب التي حققتها بصورة سريعة.
وبالتالي تسعى موسكو إلى تعزيز حالة عدم الاستقرار والانخراط في صداقة مع الجميع أو بتعبير آخر دعم جميع الجهات الموجودة داخل المنطقة سواء أكانت دولًا كمصر (التي عززت معها العلاقات الثنائية منذ 2013)، أم فواعل من دون الدول كجماعة الإخوان (التي تخوض صراعًا صفريًا مفتوحًا مع الحكومة المصرية منذ 7 سنوات)، كما تحتفظ روسيا بعلاقات تاريخية مع المملكة المغربية، ومن ناحية أخرى تنخرط في علاقات دافئة مع جبهة البوليساريو المعادية لها، فضلًا عن تعزيزها للعلاقات مع الجزائر ودعم مواقف الأخيرة في ما يخص قضية دعم جبهة البوليساريو بالصحراء المغربية، وظهر ذلك خلال التوتر في معبر الكركرات أواخر 2020.
وفي داخل أوروبا تنسج علاقات مع الحكومات والمعارضة بنفس الوتيرة، فمنذ العام 2015، أخذت العلاقات الروسية- الفرنسية الرسمية مسارًا جديدًا بعد تقارب “بوتين- أولاند”، ثم “بوتين- ماكرون”، وفي نفس الوقت استمر دعم موسكو لليمين الشعبوي الذي يمثله حزب الجبهة الوطنية وزعيمته مارين لوبان، وهو الدعم الذي يُنظر له داخل دول الاتحاد الأوروبي، بعين الريبة على اعتباره تهديدًا لأوروبا الموحدة، وواصل الكرملين لعبته المزدوجة في إيطاليا التي عانت بشدة نتيجة تداعيات جائحة كورونا “كوفيد- 19″، وهو ما يمكن اعتباره سعيًا لضرب التآزر الأوروبي- الأوربي في نقطة ضعفه (إيطاليا)، التي تحظى فيها الاتجاهات الشعبوية المناهضة للاتحاد تأييدًا واضحًا.
وتأتي التدخلات الروسية بمنطق السعي لإدارة الصراع لا حله وهي بذلك تجمع بين المتناقضات، وتنخرط في مقامرة عالية المخاطر الأمنية والسياسية في الشرق الأوسط وأوروبا، لكنها مع ذلك ترى أن هذا النهج كفيل بالإبقاء على حضورها ودورها كقوة عظمى على الساحة الدولية.
ومن هذا المنطلق، روجت منصات الدعاية الروسية لجماعة الإخوان وخصوصًا التيار الأكثر راديكالية فيها المعروف بتيار التغيير أو جبهة المكتب العام، وذلك في أكثر من مناسبة متفرقة، فعلى سبيل المثال نشر موقع روسيا اليوم، في 13- 7- 2019، بيان الجماعة عن المجموعة المعروفة بـ”خلية الكويت” والتي نشطت في تحويل الأموال لأعضاءها الحركة التنظيمين داخل مصر، وكان من بين أعضائها “أبوبكر عاطف الفيومي” أحد القادة الوسيطين لحركة “سواعد مصر- حسم”- مدرجة على قوائم الإرهاب في مصر وأمريكا ودول الاتحاد الأوروبي- والمتهم في محاولة اغتيال النائب العام المصري المساعد، والتي تمت في سبتمبر/ أيلول 2016.
كما نشر الموقع في 30- 6- 2019، بيان جبهة المكتب العام في الإخوان حول توجهها وأولوياتها الجديدة التي قررت اتباعها بعد مراجعات داخلية، ومن المعروف أن رموز هذه الجبهة كمحمد كمال (عضو مكتب الإرشاد سابقًا)، ويحيى موسى وعلاء السماحي (مدرجين على قائمة الإرهاب العربية والأمريكية) وغيرهم، ارتبطوا بشكل وثيق بالعمليات الإرهابية التي شهدتها مصر في الفترة من 2014: 2019، وراح ضحيتها العشرات من أفراد القوات المسلحة والشرطة والمدنيين.
وفي الـ17 من نفس الشهر، نقل RT عن جماعة الإخوان اتهامهم للسلطات المصرية بالقتل المتعمد للرئيس المعزول محمد مرسي، والذي وفاته المنية إثر نوبة قلبية مفاجئة أصابته خلال إحدى جلسات محاكمته، وذلك بحسب خبر آخر نشره الموقع في اليوم التالي، ويكشف نشر الخبر ونقيضه حالة عدم الاتساق التي تعاني منها وسيلة الدعاية الروسية، وسعيها للعب على كل الحبال في سبيل كسب ود كل الأطراف، بما يخدم نهجها الخاص.
- وحدة الاستراتيجيات والأهداف الروسية- الإخوانية
ومن الواضح أن إطار العلاقة بين الإخوان وموسكو لا يقتصر على التوظيف الروسي للجماعة لتحقيق مصالحها في المنطقة، إذ يبدو أن هناك تشابه كبير بين الاستراتيجيات والتكتيكات والأهداف الدعائية الروسية ومثيلتها الإخوانية، وظهر هذا التشابه جليًا بعد فترة وجيزة من الإطاحة بحكم “مرسي” في صيف 2013.
وعلى صعيد الاستراتيجية، تعتمد جماعة الإخوان ما يُعرف- غربيًا- باستراتيجية خرطوم الأباطيل التي صاغتها الاستخبارات الروسية، كنهج شامل لمنصاتها الدعائية، وتعتمد تلك الاستراتيجية على التضليل والتشويش ومحاولة جعل الجمهور المستهدف يعمل لصالح القائم بالاتصال دون أن يلتفت لهذا الأمر، كما تركز على استخدام وسائل الإعلام ومنصات التواصل الاجتماعي وأدوات وقنوات الدعاية عبر الانترنت، لبث عدد كبير من الرسائل التي يمكن أن تكون مجتزئة ولا تتضمن سوى قدر ضئيل من الحقيقية أو مختلقة بشكل كامل للتأثير في المستهدفين.
كما يركز متبعو هذه الاستراتيجية على بث نفس الرسائل عبر مصادر متعددة وبصورة مكثفة، وذلك لتكون أكثر إقناعًا ومصداقية لدى المتلقين، وعلى المدى الطويل تحاول استغلال ظاهرة “التأثير النائم” والتي تعني اكتساب المصادر ذات المصدقية المتدنية مصداقيةً أعلى بمرور الوقت، لأن الأشخاص ينسون المصدر بمرور الوقت ويتذكرون المعلومة فقط، وبالتالي قد يتذكرون المعلومات المضللة التي تُروجها تلك المنصات الدعائية على أنها مُسَلمات.
ووفقًا لوسائل إعلام عربية، فإن جماعة الإخوان رتبت لتسفير عدد من الشباب إلى جورجيا (المجاورة جغرافيا لروسيا) للتدرب على استراتيجية خرطوم الأباطيل، ومع أن الأخبار المنشورة لا تؤكد أو تنفي أن للاستخبارات الروسية دورا مباشر في عمليات تدريب شباب الإخوان على عمليات الحرب النفسية والتضليل المعلوماتي، إلا أنه من غير المستبعد أن يكون هناك روابط مباشرة بين الجماعة وعناصر سابقيين/ حاليين بجهاز الاستخبارات الاتحادي والذين بدورهم يتولون تدريب شباب الإخوان على هذه الأساليب التي تبرع فيها الاستخبارات الروسية.
وتُرجح وقائع مشابهة هذه الاحتمالية، فسابقًا سَفرت الجماعة عددًا من شبابها إلى ماليزيا حيث خضعوا لدورة تدريبية على عمليات الاستطلاع والرصد العملياتي للأهداف ذات القيمة العالية على أيدي رجال استخبارات أجانب- لم يفصحوا عن جنسياتهم خلال التدريب-، وعاد بعض هؤلاء الشباب لمصر وطبقوا ما تعلموه في محاولة اغتيال النائب العام المصري المساعد، كما ورد في نص التحقيقات في القضية 64 عسكرية.
وبالحديث عن بث الرسائل بصورة كبيرة على مواقع التواصل الاجتماعي، استخدمت روسيا بنجاح مجموعات من “متصيدي الانترنت” أو (Trolls) المدفوعي الأجر والذين تتركز مهمتهم على الترويج للرواية التي تتبناها موسكو ومهاجمة ما يخالفها والطعن فيه، وهو الأسلوب ذاته الذي اتبعته الإخوان، منذ منتصف 2015، فحينها كلف محمود حسين (الأمين العام للجماعة سابقًا وعضو لجنة إدارتها حاليًا)، همام علي يوسف عضو مجلس شورى الإخوان والمقيم في تركيا بتشكيل “كتائب إلكترونية إخوانية”، واختار الأخير، عضو الجماعة المقيم في هولندا “أحمد ريدي” وزوجته “إيمان الجارحي” لإدارة وتنسيق نشر الدعاية عبر مواقع التواصل الاجتماعي، ويحصل أعضاء تلك اللجان على مقابل شهري مقابل هذا العمل.
ويعطي التطابق بين الاستراتيجية والوسائل، التي تستخدمها الإخوان وموسكو، لمحة عن مدى التأثر الإخواني بالأساليب الروسية، كما يلفت الأنظار إلى احتمالية وجود علاقة من نوع ما بين الطرفين، خاصةً وأن الأخيرة لا تبني مواقفها الحالية بناءً على الاتجاه الأيدولوجي المتمسك، كما كانت تفعل سابقًا إبان الحقبة السوفيتية.
ولعل السبب الأخير، هو الذي دفع ألكسندر نازاروف المحلل السياسي البارز والمقرب من دوائر صنع القرار الروسية، إلى دعوة جماعة الإخوان، بشكل صريح، لتشكيل “تحالف محافظ” تحت قيادة الرئيس فلاديمير بوتين، وذلك في مقال نشره موقع “روسيا اليوم” أواخر العام الماضي، بعنوان: “هل بوتين حليف أم خصم للإخوان المسلمين؟”، وهو نفس الطرح الذي أثاره إلكسندر دوجين منظر الأوراسية والموصوف في بعض الأوساط الإعلامية بالرجل الذي صاغ العقل السياسي لـ”بوتين”.
ويجادل ” نازاروف” في مقاله بأن العالم منقسم إلى تيارين رئيسيين هما: الليبراليون (الذين تمثلهم الولايات المتحدة والغرب والحكومات العربية)، والمحافظون (تمثلهم روسيا- بوتين، والإسلاميون الذين يدعون زعامة هذا التيار)، داعيًا جماعة الإخوان إلى التراجع عن ادعاء قيادة التيار المحافظ، وهو ما يمهد، من وجهة نظره، لقيام تحالف عالمي بينهم وبين روسيا.
وعلى نفس المنوال، دعا “دوجين”، خلال مقابلة في ديسمبر الماضي عبر RT إلى تشكيل تحالف (الأوراسية- الإسلاموية)، قائلًا: “سوف نذهب بهذا التحالف إلى اليمن وليبيا ومصر وسوف ترحب بنا شعوب هذه البلدان بالزهور.
ومن الممكن فهم الدعوة الروسية للتقارب مع الإسلاموية، في ضوء المتغيرات الدولية التي تعيشها المنطقة، إذ تحاول موسكو استمالة التيارات المناهضة للغرب، لتكوين حلف جديد تستطيع من خلاله اكتساب مساحة أوسع للعمل والحركة بصورة تتناسب مع الصورة المتخيلة في أذهان القادة الروس لمكانة بلادهم العالمية، والتي تحول القدرات الروسية الحالية والتراجع الاقتصادي الذي تعيشه من إدراكها، وربما كانت تلك الدعوة نوع من الأساليب الإلهائية التي امتازت النخبة الروسية الحاكمة باتباعها كلما تعرضت لضغط من المجتمع الداخلي، لاسيما بعد التداعيات الأخيرة التي تسببت فيها قضية المعارض الشهير “أليكس نافالني” والذي دعا الشعب الروسي لمقاومة الترهيب من أجل تحرير البلاد.
- في مواجهة الدعاية المضللة
من المهم للغاية، أن يكون لدى دول المنطقة العربية استراتيجية متكاملة لمواجهة عمليات الدعاية المضللة التي تقوم بها بعض الأطراف، وينبغي أن تُبنى هذه الاستراتيجية على أساس الرؤية الواقعية للتهديد المحتمل، وهذا لا يتم إلا عبر النظر في نوايا الخصوم المحتملين وإمكانيتهم النسبية، مع عدم تعظيم تلك الإمكانيات بما يتجاوز حدودها الفعلية أو التهوين منها بناءً على تقديرات خاطئة.
وتجدر الإشارة إلى أن الوزن النسبي والمقدرات القومية للدول هي التي تحدد أجندة سياستها الخارجية، وبالتالي أدائها الإعلامي تجاه غيرها، وبالطبع يمكن القول إن الدول الإقليمية الفاعلة تمتلك من القدرات والوسائل ما يمكنها من خنق الاستراتيجية الروسية في المنطقة أو السماح لها بالتمدد، وهذا سيرتبط بالتأكيد بالمصالح المشتركة بين كل الأطراف.
ومن الضروري أن لا يتم التعامل باستهانة مع استراتيجية التضليل المربك أو خرطوم الأباطيل التي تتبعها المنصات الدعائية الروسية والإخوانية على حدٍ سواء، فالخبرة السابقة تبين أن تلك الاستراتيجية نجحت في تضليل قطاعات من الشعوب، خلال السنوات الماضية، لذا لابد من استثمار المزيد من الموارد في التصدي لتلك العمليات الدعائية.
كما يجدر بالدول التي تواجه عمليات الدعاية المعتمدة على الاستراتيجية السابقة أن تصوغ استراتيجية مضادة لمكافحة تأثيرات تلك الدعاية، بحيث تعتمد على إتاحة المعلومات الصحيحة وتشكيل رأي عام واعي بما يدور على الأرض، كما ينبغي أن تتضافر الجهود لصياغة نهج وقائي ضد التضليل والأباطيل، ويمكن الاستفادة من التجارب الأمريكية والأوروبية السابقة في هذا الصدد.
نبذة عن الكاتب أحمد سلطان
صحفي وباحث في الحركات المسلحة، عمل لسنوات في دراسات التطرف العنيف، وأصدر في هذه الأثناء كتابين، هما: “عودة التنظيم الخاص.. القصة الكاملة لحسم وأخواتها”، و”داعش بعد البغدادي” – مع آخرين. يعمل حاليًا كباحث غير مقيم مع عدة مراكز بحثية رائدة، وشارك سابقًا في تأسيس مواقع صحفية ومراكز بحثية متخصصة في “الإسلام الحركي”، كما أنتج سابقًا سلسلة تحقيقات صحفية لتتبع السلاح الموجودة بحوزة الجماعات المتطرفة في مصر، وأجرى لقاءات مع مقاتلين منشقين عن جماعات الإخوان، وداعش والقاعدة، ونشرت تلك المقابلات في أكثر من صحيفة مصرية.