بعد ١٠ أعوام من قتل أسامة بن لادن زعيم القاعدة، يتكشف وهم الأسطورة التي أحاطت بن لادن؛ فلا يعدُ كونه مُنتجاً إعلامياً، نرجسياً، يسيئ التقدير ويهرب من المواجهة.
أبوت آباد: النهاية
بعد منتصف ليل الاثنين يوم ٢ مايو ٢٠١١، أغارت فرقة من العمليات الخاصة الأمريكية على مجمع سكني في حيّ (بلال تاون) أحد أغنى أحياء أبوت آباد الباكستانية. يسكن المجمع واحد من أكثر المطلوبين على مستوى العالم – زعيم القاعدة أسامة بن لادن. في ذلك اليوم أعلن الرئيس الأمريكي باراك أوباما أن أمريكا قتلت بن لادن ودفنته في البحر حتى لا يكون قبره مزاراً لأنصاره الذين وضعوه منزلة الصالحين والأئمة المحدّثين. في ذلك اليوم قبل عشرة أعوام، خلّف بن لادن “أسطورة” إعلامية وآلاف الوثائق المكتوبة والمصورة التي كشفت له وجهاً آخر – رجلاً يهرب من المواجهة، نرجسياً وخطّاءا.
مُنتج إعلامي
بنى أسامة بن لادن شخصية إعلامية متضخمة تجاوزت ذاته. هوسه بالإعلام تعدى المتابعة الحثيثة لأدق تفاصيل نشرات الأخبار، والتحدث إلى الصحافة العالمية، وإنتاج الفيديوهات عالية الجودة. تعدّاها إلى إنتاج خطاب مبالغ فيه يضيف إلى “صورته” وحسب. في وثائق أبوت آباد، نقرأ مراسلات بينه وعطية الله الليبي الذي كان يسير العمليات ويشرف على “الجهاد الخارجي”. كان يسهب في الحديث عن الإعلام ويضع استراتيجية إعلامية: من يتحدث إلى من وعن ماذا وأي ألفاظ تستخدم أو تُترك. في إحدى الرسائل، نفهم أنه طلب صنع فيلم وثائقي عن حياته ينتج بالتعاون مع محطة كبرى في الذكرى العاشرة لهجمات سبتمبر. وفي أكثر من رسالة، يكرر السؤال عن الاستعدادات الإعلامية للذكرى.
“هو حالة ومنتج إعلامي أكثر منه حالة حقيقية ومنتج حقيقي؛” هكذا يصفه هاني نسيرة، الكاتب والأكاديمي المتخصص في الفكر الإسلامي العربي. ويضيف: “أسامة بن لادن يجيد التسويق. درس التسويق والإدارة وينحدر من أسرة تجارية. لهذا كان يستخدم نفس الآليات لتسويق نفسه.” ينتمي أسامة بن لادن إلى عائلة بن لادن العريقة. مجلة فوربز قدّرت ثروة العائلة في ٢٠٠٩ بحوالي سبعة مليارات دولار.
من جوانب هذا “التسويق،” يلفت نسيرة إلى أن خطاب أسامة بن لادن في الإعلام كان يختلف عن خطابه الداخلي. “هناك فارق بين سرّه وعلنه. التناقض بين رجل التنظيم والصورة ‘المؤسطرة‘ لمتطرف عالمي … ومن ذلك أن الرجل كان لا ينفك يتحدث عن فلسطين (في الخطابات العامة) لكن في مذكراته (وثائق أبوت آباد) لم تكن (فلسطين) ذات موضوع.”
ومن التسويق أن استغلّ بن لادن “الصورة.” لقاءاته الصحفية التي لا تزال في البال هي تلك التي نراه فيها يرتدي لباساً عربياً وعمامة أفغانية يتكئ بعصاً ينزل هضبة وعرة، يحمل “كلاشينكوف” و”لابتوب.” حسن أبو هنية، الخبير في الجماعات الإرهابية، يلفت إلى هذا ويقول: “الكل كان يتحمس للقائه حاملاً الكلاشينكوف واللابتوب. . في وقت لم تكن تقنية المعلومات غزت العالم العربي كما يجب.”
وعن طريق كبرى المؤسسات الإعلامية، دخل أسامة بن لادن بيوتنا وأصبح حاضراً في الأخبار باختلاف وسائطها. لكن إلى أي درجة كان يعبر هذا الحضور الإعلامي عن فكر واستراتيجية وبعد نظر؟
من المثير للسخرية أن طالبان كانوا أول من تنبهوا إلى قصر نظر هذه الاستراتيجية الإعلامية. إسفنديار مير، المحاضر في جامعة ستانفورد، يلفت إلى أنه بدءاً من العام ١٩٩٨، بعد تفجير سفارتي أمريكا في درا السلام ونيروبي، طلب طالبان من بن لادن أن يقلل من حديثه إلى الإعلام. التزم فترة، لكنه سرعان ما عاد إلى واجهة الأخبار بتفجيرات ١١ سبتمبر.
شوكة في الحلق
شارك أسامة بن لادن مع “المجاهدين العرب” إلى جانب الأفغان في قتالهم السوفييت في الحرب التي امتدت من ١٩٧٩ إلى ١٩٨٩. انتصر الأفغان على السوفييت في نهاية الأمر. وعاد أسامة بن لادن بضع سنين إلى السعودية ثم انتقل إلى السودان. طوال هذه السنين كان “يحوّل” هدفه ويبتكر عدواً جديداً يستعديه. أراد أن يحصل على تفويض حكومي بمحاربة صدام حسين في العراق والشيوعيين في اليمن.
وعندما لم يُسمح له بذلك، تحوّل إلى أمريكا. يقول مير: “ظلّ يبدّل هدفه إلى أن أصبح هدفه هو ’العدو البعيد‘ ممثلاً بأمريكا. كان أولاً يسعى إلى إخراج أمريكا من الشرق الأوسط … ثم تحوّل إلى مهاجمة أمريكا في ١١ سبتمبر.” وبدأت حرب جديدة أتت وبالاً على أفغانستان والمنطقة كلها.
أبو هنية يعتبر أن أسامة بن لادن أساء التقدير هنا كما في مواضع أخرى. يقول: “كان بن لادن يتحدث دائماً عن أن أمريكا هشة وكأنها نمر من ورق. لم يستطع أن يقدّر القوة الهائلة لأمريكا بشكل أو بآخر. كان يتوقع أنه إذا دخلت أمريكا أفغانستان أو أي بلد آخر فسيتم استنزافها وستُهزم بسهولة أكثر من الاتحاد السوفييتي. هذه استراتيجية خاطئة. ربما أغراه رد الفعل الأمريكي المتواضع بعد تفجيري نيروبي ودار السلام. جلعه يسيئ التقدير أكثر. لم يدرك أن أمريكا بدأت تبني سياستها بخوض حروب اللانهاية الممتدة زماناً ومكاناً – ممثلة بالحرب على الإرهاب. وهذا ما جعل الجهاديين لاحقاً يعترضون على القرار.”
كبار مستشاري أسامة بن لادن لم يوافقوه على “عملية الطائرات” كما كانت تُسمى. أبو حفص الموريتاني الذي كان مفتياً للقاعدة صرح بهذه المعارضة على أسس شرعية. الدكتور فضل، الذي كان مفتياً أيضاً، انشق عن القاعدة وكتب مراجعاته في الجماعة كلها بعد هذه الهجمات. ونقرأ في السيرة التي كتبها ضابط التحقيقات الفدرالية السابق علي صوفان، أن سيف العدل، المرشح الآن لقيادة القاعدة، كان معارضاً للهجوم على أسس أمنية. فكان الرجل يتوقع ردّاً أمريكياً مزلزلاً بعكس بن لادن. إلا أن أحداً لم يجرؤ على مخالفته.
“لم أسمع أن أحداً تجرأ على أن يقول له إنه أخطأ. وهذا عزز شخصيته التي تسيئ التقدير، وتُعمّق الذات النرجسية والعُظام (البارانويا) بأنه يمتلك أكثر من قوته”
حسن أبو هنية، الخبير في الجماعات الإرهابية
سوء التقدير هذا أحرج طالبان وجلب الدمار على أفغانستان. في مقال نشرته واشنطن بوست في مايو ٢٠١١، يُنقل عن مسؤول باكستاني تحدث إلى صحيفة محلية أن المُلا عمر، زعيم طالبان أنذاك، قال له: “بن لادن مثل الشوكة في حلقي. لا أستطيع بلعها ولا أستطيع لفظها.” ما فعله الملا عمر وقتها، أن طلب خروج الجهاديين العرب من أفغانستان. في وثائق أبوت آباد، رسالة أرسلها أبو عبدالرحمن أنس السبيعي إلى بن لادن يسرد له ما حدث في فترة ما بعد ١١ سبتمبر وبدء الغزو الأمريكي. يقول: ” نظراً لتوجيهات الملا محمد عمر … بضرورة إخلاء أفغانستان والشريط الحدودي لباكستان معها من الإخوة العرب لتخفيف الضغط على المجاهدين والمسلمين في تلك المناطق وخاصة الذين تضيق بهم الخيارات في أماكن يتوجهون لها إن لم تنعدم عند الكثير.”
يتسق هذا مع شخصية بن لادن المتناقضة التي لا تحترم الاتفاقات ولا عقد الأمان. يلفت نسيرة إلى تآمر بن لادن على أحمد شاه مسعود قبل أيام من تنفيذ هجمات سبتمبر “بالرغم من أنه (أحمد شاه مسعود) كان البطل الرئيس في الحرب ضد السوفييت.” يقول نسيرة: “كانت تغري (بن لادن) السلطة وكان يوظّف المال من أجل ذلك .. كان يعمل لما فيه مصلحته هو. وجد في طالبان فرصة لتوظيفهم (لخدمة مصالحه) والسيطرة عليهم، فترك أولياء سابقين له وركز عليهم. هذه الشهوة للزعامة والرغبة في السيطرة جعلت البعض يتهمه حتى بالضلوع في قتل عبدالله عزام.” ونقرأ مما كتبه صوفان عن سيف العدل، أن بن لادن أعدّ لقتل أحمد شاه مسعود ليكون بمثابة قربان يتقرب به من الملا عمر عندما ينفذ هجمات سبتمبر.
الحكم بالمال
في أدبيات القاعدة وطالبان، يُشار إلى بن لادن بالزاهد الذي ترك ثروته وجاء ليساعد الأفغان على التحرر من السوفييت والأمريكيين. لكن هذا كلام يجانب الصواب. أبو هنية يرى أن “بن لادن لم يترك المال والجاه. ولكنه زاد عليهما بأن أراد أن ‘يُحرّر’ العالم الإسلامي. لا أن يحقق التنمية أو الإسلمة؛ وإنّما أن يغيّر العالم بالمال.”
يشير مير إلى أن القاعدة كانت تعطي طالبان ٢٠ مليون دولار سنوياً على مدى عدة سنوات. “وهذا مبلغ كبير بمقاييس تلك الأيام.”
المال كان عاملاً مهماً في الحظوة التي حظي بها بن لادن وفي استقطاب الأنصار والأتباع. يقول أبو هنية: “إذا نظرنا إلى تاريخ الحركة التي أمدّت أسامة بن لادن بالقياديين الميدانيين والمُنظرين الجهاديين، لوجدنا أن ذلك تمّ بالمال. بعد انسحاب السوفييت، أصبح العرب الأفغان لا يجدون ما يقتاتون به. وأعلم يقيناً أن الظواهري لم يكن يجد شيئاً. ولهذا، فإن انضمام كثيرين إلى بن لادن من أمثال عطية الله الليبي وأبي الليث الليبي وأبي زبيدة – المسيّرين الميدانيين – وأبي حفص … لا شك أن المال له علاقة؛ فكان يشكل قوة كبيرة في هذا الاستقطاب. وبنفس المنطق، كان المال يحكم علاقته مع جلال الدين حقاني.”
يخلص أبو هنية إلى أنه حتى نفهم القاعدة يجب أن ننظر إليها “كشبكة ماديّة.” يقول: “يجب ألّا ننظر إلى القاعدة على أنها أيديولوجيا وحسب. هي شبكة ماديّة في الأساس. كثيراً ما ننسى هذا الأمر خاصة عندما نقارن بين بن لادن والظواهري على صعيد التنظير والمعرفة والنسب العائلي. الظواهري سليل عائلة معروفة، وأنصاره يطلقون عليه لقب ‘الحكيم’. لكنه يفتقر إلى عنصر المال. فلم يعد يسيطر. أما بن لادن فكان يسيطر من خلال امتلاكه الشبكة المالية … المال كان عاملاً حاسماً في قدرة بن لادن على احتلال مركزه بينما تراجع مركز الظواهري بسبب افتقاره إلى الشبكة الماديّة المتينة. القاعدة ليست إيديولوجيا وإنما شبكة مصالح؛ والمال في صلبها.”
الزرقاوي
في وثائق آبوت، وردت رسالة بتاريخ مايو ٢٠٠٧ من جبهة الجهاد والإصلاح العراقية تطلب فيها من أسامة بن لادن “التبرؤ من أبي مصعب الزرقاوي.” وفيها: “نعتب عليكم أشدّ العتب. إنا أرسلنا إليكم الرسائل المكتوبة والصوتية وتجشمنا المصاعب لإيصالها إليكم منذ الأيام الأولى لإعلان الأخ أبي مصعب مبايعته لكم وبيّنا لكم ما حدث إثر ذلك من إشكالات ومخالفات شرعية وضرر متزايد على مسيرة الجهاد في العراق تُرتكب باسم القاعدة وباسمكم شخصياً … ولكن لم يتخذ أي إجراء لحدّ الآن لوضع حل للتردي المستمر الذي ينذر بكارثة وشيكة الحصول.” وتختم الرسالة: “فبادروا أيّها المشايخ الفضلاء ولو بكلمة توجهونها من خلال الفضائيات تبرؤون ذمتكم أمام الله وأمام المجاهدين والمسلمين الذين يحملونكم مسؤولية كل ما يحصل في العراق من انتهاكات لا تقومون بالإنكار عليها.”
“بن لادن لم يستطع السيطرة على الزرقاوي؛ حتى إنه لم يعد الجهاديَّ الأهم في العراق. وهذا إخفاق كبير من جانبه”
إسفنديار مير، المحاضر في جامعة ستانفورد
ضرر الزرقاوي هذا لم يقتصر على العراق مكاناً أو زماناً. والعلاقة بين الزرقاوي وبن لادن متعددة الوجوه تضيئ جميعاً على “وهم الأسطورة” التي أحاط بن لادن نفسه بها.
فمن ناحية، لم يستطع بن لادن السيطرة على الزرقاوي. يقول مير “لطالما كان للزرقاوي أيديولوجية أقوى ونظام عمل مختلف عن بن لادن أضرّ بصورة القاعدة في العالم الإسلامي. والضرر الذي تسبب به الزرقاوي لا يزال بادياً في أهم ساحة حرب للقاعدة وهي العراق. بن لادن لم يستطع السيطرة على الزرقاوي؛ حتى إنه لم يعد الجهاديَّ الأهم في العراق. وهذا إخفاق كبير من جانبه.”
وليس في العراق وحسب. أبو هنية يعتبر أن “الزرقاوي كان سيتفوق على أسامة بن لادن” في أيّ حال. ويوضح أن الجهاديين ضغطوا على الزرقاوي لتقديم البيعة للقاعدة بالرغم من الخلافات البادية بين الطرفين خاصة ما يتعلق بقتال الشيعة. بن لادن كان يرفض قتال الشيعة. يقول أبو هنية: “الزرقاوي أخضع القاعدة لهذه المنظورات ولم يكن بحاجة لمال بن لادن لأنه أصبحت لديه شبكة مستقلة مالياً وإعلامياً.”
رئيس مجلس إدارة
من ناحية أخرى، لم يواجه أسامة بن لادن الزرقاوي مواجهة حقيقية تحسم أمره. فبن لادن، على الأقل شكلاً، هو زعيم التنظيم وله الكلمة الفصل في “التعيينات.” مرة أخرى، بن لادن كان معنياً بالهالة الإعلامية وكان يتحاشى الخوض في مسائل جدلية قد تُكلّفه “الصورة” و”الأسطورة.” يقول أبو هنية: “جزء من شخصية بن لادن كان أن يترك المجادلات للظواهري وعطية الله الليبي.. كان يترفع عنها.. أصبح بن لادن كرجل أعمال كصاحب شركة ليست لديه علاقة بالإدارة اليومية.”
يقول نسيرة: “بن لادن يُصرُّ على فكرة الزعيم الفرد، ويضع نفسه في موضع أعلى من خلافات تنظيمه؛ فلم يواجه الزرقاوي وكان يطلب من آخرين أن يراسلوه.” إلا أن أيّاً من ذلك لم يكبح جماح الزرقاوي. كان بن لادن يستطيع أن يحسم أمره. في وثائق أبوت آباد، نقرأ رسالة من عطية الله الليبي إلى بن لادن بتاريخ ١٧ يوليو ٢٠١٠ يدعوه فيها إلى إرسال “كلمات صوتية قصيرة” للأنصار “للتطمين بالتعيينات وغيرها والتوصية بالسمع والطاعة والصبر والمصابرة والتثبيت.” وفي نفس الرسالة يقترح عطية الله تعييناً قد يكون جدلياً ويقترح على بن لادن إرسال تسجيل صوتي يثبت التعيين. يقول: “هذه تُحلّ بالتعيين الصريح منك لا الكتابي بل الصوتي طبعاً لا نزول عنه.” فلو أراد بن لادن أن يحسم أمراً لفعل.
يقول أبو هنية: “القاعدة شركة بشكل أساسي. هذا ما كان يقوم به بن لادن. يظهر كزعيم ببيانات عامة؛ لكن لا يُظهِر أن لديه خلافاً واضحاً. وحتى عندما يتخذ قراره فيتخذه بسرية … فمثلاً، كان يرفض انضمام جماعة الشباب الصومالية إلى القاعدة؛ لكنه كان يراسلهم ويقول لهم عليكم بكذا وكذا وكذا. كان يتدخل بشكل عام بالقضايا الكبرى، أما الخلافات فلا يُظهرها.”